استجابة ل«هويدا الجبالي».. إدراج صحة الطفل والإعاقات في نقابة الأطباء    بنك مصر يشارك في 26 عملية تمويلية ب246.7 مليار جنيه خلال 2023    الاتحاد من أجل المتوسط: مؤتمر الاستجابة لغزة عكس مواقف مصر نحو القضية الفلسطينية    وزير الخارجية الأمريكي: لن نسمح لحماس بتقرير مصير غزة بعد انتهاء الحرب    بعد غياب 34 يوما| الأهلي جاهز لعودة الدوري بمواجهة فاركو غداً    رغم أزمته مع لجنة الحكام، قمر الدولة يحكم مباراة الحدود ومنتخب السويس    اتحاد الكرة يرد على تصريحات رئيس إنبي    "يورو 2024".. بطولة تحطيم الأرقام القياسية    أخبار مصر.. تأجيل محاكمة سفاح التجمع الخامس ل16 يوليو فى جلسة سرية    تسلل ليلًا إلى شقتها.. ضبط المتهم بقتل عجوز شبرا لسرقة ذهبها وأموالها    سفير مصر بالكويت: حالة المصاب المصرى جراء حريق عقار مستقرة    محمد الشرنوبي يطرح أغنيته الجديدة "استغنينا" (فيديو)    وزارة الصحة تتابع مشروع تطوير مستشفى معهد ناصر وتوجه بتسريع وتيرة العمل    جامعة بنها ضمن أفضل 10 جامعات على مستوى العالم    البنك الأهلي يحصل على شهادة ISO 9001 في الامداد اللوجيستي من المواصفات البريطانية    يورو 2024| ألمانيا يبدأ المغامرة وصراع ثلاثي لخطف وصافة المجموعة الأولى.. فيديوجراف    إجازة المشاهير| «وفاء» هتحضر أكلة شهية و«نبيلة» هتفرق العيدية    السبت أم الأحد..الإفتاء تحدد موعد وقفة عرفة رسميًا    بلغت السن المحدد وخالية من العيوب.. الإفتاء توضح شروط أضحية العيد    ندوة مركز بحوث الشرطة لمواجهة الأفكار الهدامة توصى بنشر الوعي والتصدي بقوة للشائعات    مجدي البدوي: «التنسيقية» نجحت في وضع قواعد جديدة للعمل السياسي    بلينكن: نعمل مع شركائنا فى مصر وقطر للتوصل لاتفاق بشأن الصفقة الجديدة    المدارس المصرية اليابانية: تحديد موعد المقابلات الشخصية خلال أيام    أبو الغيط: استمرار الصراع فى السودان سيؤدى إلى انهيار الدولة    حملات مكثفة بالإسكندرية لمنع إقامة شوادر لذبح الأضاحي في الشوارع    7 نصائح للوقاية من مشاكل الهضم في الطقس الحار    محافظ المنيا يشدد على تكثيف المرور ومتابعة الوحدات الصحية    القوات المسلحة توزع كميات كبيرة من الحصص الغذائية بنصف الثمن بمختلف محافظات    بالأسعار.. طرح سيارات XPENG الكهربائية لأول مرة رسميًا في مصر    مبابي: أحلم بالكرة الذهبية مع ريال مدريد    "سيبوني أشوف حالي".. شوبير يكشف قرارا صادما ضد محترف الأهلي    10 آلاف طن يوميًا.. ملياردير أسترالي يقترح خطة لإدخال المساعدات إلى غزة (فيديو)    مراسل القاهرة الإخبارية من معبر رفح: إسرائيل تواصل تعنتها وتمنع دخول المساعدات لغزة    جامعة سوهاج: مكافأة 1000 جنيه بمناسبة عيد الأضحى لجميع العاملين بالجامعة    أسماء جلال تتألق بفستان «سماوي قصير» في العرض الخاص ل«ولاد رزق 3»    وفاة الطفل يحي: قصة ونصائح للوقاية    القوات المسلحة تنظم مراسم تسليم الأطراف التعويضية لعدد من ضحايا الألغام ومخلفات الحروب السابقة    إصابة 3 طلاب في الثانوية العامة بكفرالشيخ بارتفاع في درجة الحرارة والإغماء    مواعيد تشغيل القطار الكهربائي الخفيف ART خلال إجازة عيد الأضحى 2024    الجلسة الثالثة من منتدى البنك الأول للتنمية تناقش جهود مصر لتصبح مركزا لوجيستيا عالميا    أيمن عاشور: مصر تسعى لتعزيز التعاون مع دول البريكس في مجال التعليم العالي والبحث العلمي    مساعد وزير الصحة لشئون الطب الوقائي يعقد اجتماعا موسعا بقيادات مطروح    «أوقاف شمال سيناء» تقيم نموذج محاكاه لتعليم الأطفال مناسك الحج    وزير الإسكان يوجه بدفع العمل في مشروعات تنمية المدن الجديدة    عفو رئاسي عن بعض المحكوم عليهم بمناسبة عيد الأضحى 2024    إي اف چي هيرميس تنجح في إتمام خدماتها الاستشارية لصفقة الطرح المسوّق بالكامل لشركة «أرامكو» بقيمة 11 مليار دولار في سوق الأسهم السعودية    «الأوقاف» تحدد ضوابط صلاة عيد الأضحى وتشكل غرفة عمليات ولجنة بكل مديرية    الأرصاد تكشف عن طقس أول أيام عيد الأضحي المبارك    رئيس الحكومة يدعو كاتبات «صباح الخير» لزيارته الحلقة السابعة    "مقام إبراهيم"... آية بينة ومصلى للطائفين والعاكفين والركع السجود    اليونيسف: مقتل 6 أطفال فى الفاشر السودانية.. والآلاف محاصرون وسط القتال    نصائح لمرضى الكوليسترول المرتفع عند تناول اللحوم خلال عيد الأضحى    وزير الدفاع الألماني يعتزم الكشف عن مقترح للخدمة العسكرية الإلزامية    حبس شقيق كهربا في واقعة التعدي علي رضا البحراوي    النمسا تجري الانتخابات البرلمانية في 29 سبتمبر المقبل    زواج شيرين من رجل أعمال خارج الوسط الفني    «اتحاد الكرة»: «محدش باع» حازم إمام وهو حزين لهذا السبب    حظك اليوم برج القوس الأربعاء 12-6-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ألبومات ذات صلة


تصوير-محمود بكار
داخل آخر منزل عاشت فيه عطيات الأبنودي، مازالت رائحتها هُناك، تشمها وسط النسخ القديمة لدوريات المجلات الثقافية، تستطيع لمسها حين تُقلّب في خطاباتها المُوجهة لابنتها بالاختيار أسماء يحيى الطاهر عبد الله، وتسمع صوتها حين ترى اسمها مُدونًا على شريط كاسيت مكتوب عليه "عطيات الأبنودي.. سيرة ذاتية"، ويدّق قلبك حين تعرف أنها لازالت تحتفظ بدواوين الشعر الخاصة بعبد الرحمن الأبنودي، قصة حُبها التي دامت 22 سنة، وتتلمّس ذوقها السماعي حين تعرف أنها مُحبّة لكارم محمود ولأم كلثوم ومحمد منير وأصالة.
في منزل المقطم، آخر بيت سكنته - لسبع سنوات- مخرجة الأفلام التسجيلية، برفقة أسرة أسماء، لازالت غرفتها كما هي، تسكُن بتفاصيلها، بعدسة القراءة الخاصة بها وآخر رواية قرأت فيها، أعلى سريرها ترتفع شهادة –اختصتها دون غيرها لأنها من مصر- تعود لعام 1996، من المجلس الأعلى للثقافة تكريمًا لها في احتفالية 100 سنة سينما، وإلى جوارها تأتنس بصورة مؤطرة لأسماء في الواحد والعشرين من عمرها، وتضع الراديو التي تسمعه ليلًا قبل النوم.. في "أربعين" عطيات نحكي مقاطع من سيرة عطيات، المبدعة التي ملكها الحب فأملى عليها أوامره، وبالحُب جاءت تلك القوة التي اتسمت بها حياتها المديدة.
القصة بدأت من السنبلاوين، عطيات عوض؛ أصغر بنات أسرتها، لها من الأخوة 6، 3 أولاد ومثلها من البنات، وكانت العادة أن كل بنت في العائلة يأتي دورها في الزواج تترك الدراسة وتركن إلى بيت الزوجية، إلا أن الصغيرة كان لها سرديتها الخاصة، قررت أنها ستكمل تعليمها، بشخصيتها الجادة جدا والتواقة للتفوق والتميز، علاوة على أنها أنهت المرحلة الأساسية والتوجيهية، وهي بنت 15 سنة، وكانت أصغر من دخلوا الجامعة "قدرت تجمع أكتر من سنة مع بعض وده كان متاح وقتها"، تحكي أسماء.
كما في أفلامها دوما ما كانت تبحث عطيات عن المهمشين والمسلوبة حقوقهم، لذا كانت كلية الحقوق هي الوجهة –بدعم من والدتها، وكان قرار الانتقال للقاهرة حاسما من قبل عطيات، دون اعتراض قوي من العائلة، وساعدها استقرار شقيقها الأكبر –زغلول- في العاصمة على اتخاذ الخطوة، ولأنها تبحث دوما عن الاستقلالية فنقبت عن عمل في دنيا القاهرة حتى التحقت بوظيفة بالسكك الحديدية "قالتلي إنها اشتغلت في أكثر من حاجة إدارية بينها بيع تذاكر القطر.. وبالمناسبة اشتغلت بشهادة الإعدادية"، تقول أسماء.
لم تنل عطيات راحتها بقدر كاف في منزل الأخ، واستقر الحال على مجئ الأم من السنبلاوين للمكوث جوار ابنتها الأقرب لقلبها. ظلت عطيات تتأرجح بين الجامعة والعمل بالسكة الحديد حتى وقعت عيناها على إعلان للمسرح القومي يطلب التقدم لوظائف.
ضربت عطيات بالوظيفية الجديدة عصفورين بحجر واحد "كانت بتقول المرتب ضعف السكة الحديد وكمان الشغل في المسرح ممتع"، كان المسرح القومي بوابة الدخول في عالم الفن، وانغمست في تفاصيله، حتى أن دراسة الحقوق صارت على هامش حياتها "خدت الكلية في 8 سنين.. ومكنتش مؤمنة بفكرة الشهادات أكثر من أيه اللي حصلته"، عملت كممثلة في أكثر من عرض مسرحي، ومساعدة للإخراج مع كبار الأسماء بينهم كرم مطاوع، لا تزال مكتبتها تحتضن قصاصات من اسكريبت الحركة الخاص بعرض "زواج الحلاق"، بعد تغيير الاسم الأصلي لمسرحية الكاتب الفرنسي بومارشيه "زواج فيجارو"، الطريف أن الورقة الأولى للمسرحية تحمل إمضاء أسماء الممثلين في كشوف حضور البروفات من بينهم "حسين رياض- سناء جميل- فؤاد شفيق- حسن يوسف- حسن البارودي".
شاركت عطيات في مسرحيات عدة كممثلة، وكذا كانت ضمن فريق أوبريت الليلة الكبيرة، تزوجت ل3 سنوات من الفنان مصطفى كامل، مهندس الديكور الشهير، وعلى عكس الشائع، تقول أسماء، إن التمثيل لم يكن يستهوي عطيات الأبنودي، كانت تحكي أن فلسفة التمثيل لا تناسب شخصيتها "مكنتش بعرف أعبر عن المشاعر بأفضل صورة.. ومش حاسة إن التشخيص عن شخصيات تانية شئ صادق 100 في المية"، هكذا كانت تبرر الأمر، وربما كان ذلك سببا واضحا لشغفها الشديد بالسينما التسجيلية، تلك التي لا تفتأت من الواقع شيئا، وإنما تجسده بكل جوانبه، حلوه ومره "كانت بتقول أنا بحب الناس لحم ودم من غير تزويق.. أنا مش عايزة أمثل الناس، أنا عايزة الناس.. محتاجاهم حقيقيين".
كانت الدراما جزء أصيل من حياة عطيات، ليس في أفلامها فحسب؛ فقد عاشت أسرتها دراما من نوع خاص؛ كان والدها من الأثرياء، واحتكم على ميراث كبير من أجداده، لكنه لم يكن شخصا مسئولا بقدر كاف، فتبدلت أحوال أسرتهم، من الرغد إلى شظف العيش، واضطرت والدتها لشراء ماكينة خياطة والإنفاق عليها وأخوتها دون الاحتياج للناس "ويمكن ده كان مزروع جواها إزاي يبقى ليها شخصية غير والدها وتكون أقرب للأم المسئولة المثابرة العنيدة، وتقدر تساعد والدتها".
أورثها ذلك العناد مسار حياة مميز عن العادي، لذا لم يكن غريبًا أنها حين تصبح طالبة بمعهد السينما أن تختار سكّة الإخراج؛ حيث يؤمّن لها ذلك المجال التحكّم في كافة العناصر "كانت مدركة إن دخول ممثل وعوامل مساعدة في التصوير والتجهيزات ممكن تغير من روح شغلها.. وهي اللي كانت بتعمل كل حاجة بنفسها من البداية لحد ما الفيلم يخرج للنور، واختارت الإخراج اللغة البصرية اللي تعبر بيها عن أفكارها".
أهم ما في السينما التسجيلية هو التوثيق، تلك الخِصلة التي امتازت بها عطيات الأبنودي في الحياة مثل السينما، تدون رؤيتها للبشر في أسفارها، تحتفظ بتذاكر الطيران لدول مختلفة فترى من خلالها تطور شكل التذاكر ذاته، وكذا تهتم بمراسلة أسماء من كل عاصمة ترتادها وتطالبها بالاحتفاظ بتلك الخطابات والفاكسات، في إحداها تقول لأسماء "كانت رحلة مرهقة جدا، هنا الجو برد لإنه بداية الشتا، أحبك، وسوف أرسل لك فاكس آخر قبل عودتي، رقم غرفتي 855، والتوقيت فيه فرق ساعة أقل من القاهرة، أحبك، ماما، أخبار المذاكرة ايه؟".
الصداقة والحُب أمران مهمان في حياة عطيات، فبالصداقة عرفت المخرجة أن زواجها يقف عليه مباركة يحيى الطاهر عبد الله "الأبنودي قال لعطيات أنا مقدرش أتجوزك من غير موافقة يحيى، لأن الاتنين كانوا أصدقاء أقوياء وثالثهم أمل دنقل، ويحيى هيفضل في حياته طول الوقت، ولو متفقش يحيى مع عطيات مكنش هينفع"، حين قابل يحيى عطيات قال لها "لو الأبنودي متجوزكيش أنا هتجوزك"، تشكلت صداقة أخرى بين يحيى وعطيات، تلك العلاقة القوية التي وصلت حدّ أن يحيى عاش في بيت الزوجية مع عطيات والأبنودي لعام ونصف، في منزلهما الأول بباب اللوق، تُكمل أسماء ضاحكة "ولما ىساب الشقة طلع عاش فوق السطوح مع عمو كمال الأبنودي".
التوثيق بالنسبة لعطيات، لم يكن مجرد رفاهية، وإنما طقس تمارسه حتى في أحلك الظروف، فبعد حادث السيارة الأليم لشاعر القصة القصيرة يحيى الطاهر عبد الله –والذي نجت منه أسماء وقتها، وبالتحديد في اليوم الثالث لوفاته، سارعت عطيات إلى بيته تُلملم أوراقه وأشيائه، كان الخاطر الذي راودها أنه لن يلتفت أحد لتجميع أشيائه، غيرها، وهي واحدة من أقرب أصدقائه "لما جت البيت أنا جريت عليها وأخدتها بالحضن، سألت أهلي هي مين دي قالولها دي أسماء بنت يحيى، وطلبت منهم إنها تاخدني ترعاني وتتكفل بتربيتي، وأهلي وافقوا".
"مكنش فيه أي حد وثق أي حاجة عن بابا، مكنش فيه أي حوارات معاه، عشان كدا هي عملت فيلم أمل دنقل بالدافع ده"، التوثيق والشعور بالخسارة هو السبب في صناعة فيلم "حديث الغرفة رقم 8"، فبعد وفاة يحيى انتبهت عطيات لأهمية توثيق حياة مثلث الصداقة –عبد الرحمن الأبنودي، يحيى الطاهر عبد الله، أمل دنقل- فقامت بإجراء حوار معه في غرفته بمستشفى ناصر، وعلى مدار سنوات أكملت بقية الفيلم، المتاح على الإنترنت، والذي يبدأ بمقابلة والدته بعد وفاته، صُنع الفيلم بتمويل ذاتي "ماما كانت كل ما تلاقي عندها شوية خام فيلم متبقي تجري تعمل جزء من من مشروع أمل دنقل لحد ما طلع للنور"، لذا جاء عرضه عام 1990.
الأماكن أيضًا لها دلالات، كان بيت باب اللوق هي السنوات الأولى لزواج عطيات والأبنودي، ذلك المنزل الذي شهد اعتقال الأبنودي، ثُم انتقلا إلى الزمالك بعدما استقرا قليلًا "وقتها حالهم المادي بقى أفضل، الأبنودي بقى شاعر معروف وهي مخرجة أفلام تسجيلية معروفة"، وفي الزمالك عاشت أسماء لما يقرب ست سنوات، وهناك كان الانفصال أيضًا بعد 22 سنة زواج.
وحين حدوث الانفصال كانت عطيات تُجهز بيتًا جديدًا يضمّ الثلاثة في منطقة المُهندسين، إلا أنهما لم يخطوا عتبته "وقت الطلاق حصل تقسيم لكل حاجة، هو ياخد شقة المهندسين وماما تاخد شقة الزمالك، بس كان فيه تعقيدات قانونية، وفي الآخر ماما أخدت بيت السويس".
31 جائزة حصدتها الطالبة عطيات الأبنودي عن أول أفلامها التسجيلية "حصان الطين"، ذلك الفيلم الذي استوحت تفاصيله من حكايات رفاق الريف عن سوق دسوق، وورشة صناعة الطوب من طمي النيل وطريقة نقله، هكذا كانت أفكار عطيات تخرج بين طيات حوارات الناس، لا تبحث عن حذلقة أو تنظير أجوف، وإنما من قلب البشر وحكاياهم "دول اللي بيحاولوا في الدنيا وبيعملوا نجاحات أنتوا مش شايفينها.. نجاحهم في إنهم بيقدروا يعيشوا وينجوا ويكملوا وسط المعاناة والقهر".
منذ البداية استطاعت عطيات حجز مكان واضح لها، كل الأفلام التي جاءت بعد حصان الطين كان امتداد له، كما تذكر أسماء، لا يُمكن فصل أي فيلم لعطيات عن مشروعها العريض المهتم بالبشر، منذ حصان الطين وحتى فيلمها الأخير المعروض عام 2006 وهو "نساء من مصر"، التي تحكي فيه مشروع عزة فهمي مصممة المجوهرات المصرية، كانت الأفكار بالنسبة لعطيات بسيطة "فجأة تلمع عينها وتقول أيوا هو دا اللي عايزة أعمل عنه".
لذا ظلت حتى رحيلها تبحث وراء الأفكار البسيطة بشغف، كان لديها مشروعات حال الموت دونها؛ "عن صناعة الأدوات الموسيقية، كان فيه صديق ليها عازف ايقاع وبيدردش معاها حوالين إنه دوّر كتير عن أداة موسيقية ومش لاقيها، فجأة هي انتبهت وبدأت تسمع أكتر وتفهم الموضوع، ومن هنا جت الفكرة"، حُلم آخر تحكي عنه أسماء "وصف مصر بعيون مصرية، كانت عايزة تعمل عن كل حاجة بتحصل في مصر وتوثقها صوت وصورة، زي كتاب وصف مصر بتاع الحملة الفرنسية لكن بعيون أهلها".
كانت عطيات قارئة دؤوبة، مع بداياتها في شوارع القاهرة راحت تبحث عن كُتابها المفضلين واهتمت بلقائهم، الثقافة وسعت مداركها، في سن صغيرة عاشت انطلاق الزخم الثقافي والاتجاه نحو التنوير ورواده، آمنت بشعارات الناصرية وتشربت تفاصيل المرحلة وطبقتها عن طيب خاطر "بس عمرها ما اتعاملت بقدسية مع حاجة غير حقوف الناس البسطاء وحياتهم.. عمرها ما انضمت لحركة أو حزب سياسي.. وصحيح صورة عبد الناصر كانت في أوضتها بس طول الوقت معندهاش أزمة في انتقاد بعض مساراته".
حتى آخر عمرها ظلّت عطيات تبحث عن كُتابها المفضلين، حينما قرأت رواية "ولاد الجبلاوي" انبهرت بالفكرة كثيرًا، وهي تجميع شخصيات روايات نجيب محفوظ في عمل واحد، بحثت عن كاتبه ابراهيم فرغلي الذي لم يكن يعيش داخل مصر، عثرت على البريد الإلكتروني الخاص به، وبعثت إليه برسالة، وفي إحدى رحلات فرغلي زار فيها عطيات أثناء مرضها، أهدى إليها روايته "معبد أنامل الحرير". فيما كان آخر ما قرأته عطيات هو رواية المولودة لنادية كامل، صديقة عمرها ورفيقتها في مشوار السينما التسجيلية "بالمناسبة طنط نادية كانت أكتر حد ملازم ماما عطيات من أول يوم في مرضها قبل أي حد ما يعرف لحد يوم رحيلها"، تروي أسماء.
كانت عطيات على تواصل دائم مع أجيال متعاقبة، تنصت لشباب في بداية الطريق، ترشدهم في معالجة أفلامهم التسجيلية، وتتحمس لنجاحاتهم، وفي كتابها الثالث "السينما الثالثة"، المنشور عام 2013، يتبيّن مدى انفتاح عطيات على مختلف الأفكار "ماما كانت عارفة إن السينما مبقتش حكر على حد، وإن أي حد معاه موبايل يقدر يعمل فيلم"، لم تظلّ عطيات أسيرة الماضي بل انفتحت في علاقاتها بشباب المخرجين، منهم من صاروا أصدقاء لها.
في مشوار عطيات كان هناك عدد من الآباء الروحيين، في الصدارة كان دكتور علي النويجي صديقها من دسوق وزميل المعتقل مع الأبنودي وأحد أسماء دونتها في مقدمة كتابها الأشهر "أيام لم تكن معه": "دكتور علي أثر كتير في شخصيتها وطول الوقت تجيب سيرته إنه كان مهتم بعمل أبحاث حتى لو مش هتننشر، هو عارف إن هييجي وقت والناس هتستفيد بيها"، تلك الخِصلة التي ظلّت مع تلميذته –عطيات- طيلة حياتها، 27 فيلمًا تسجيليًا مازال الناس ينتفعوا بها حتى الآن.
ومن آبائها الروحيين أيضَا كان دكتور مصطفى سويف، الذي كان سببا في تغيير ضفة حياتها غير مرة. عقب هزيمة 1967 تولى سويف مسئولية معاهد الفنون العُليا (المسرح- السينما- الباليه- الموسيقى)، وقرر حينها أن يعيد هيكلتها فأسس ما يسمى "أكاديمية الفنون المصرية"، ليضم المعاهد في بوتقة واحدة ويضع شكلها الإداري الموجود حتى اليوم، وكان سويف ذو رؤية شاملة للمكان، جعل الدراسة بها عامين فقط وكذا وضع أسس لطريقة قبول الملتحقين وهو ما تماشى مع عطيات "كان بيقول إن لازم اللي يدخل الأكاديمية يكون مخلص دراسة جامعية ويكون صاحب وعي عشان يخرج من عندنا يفيد بلده والفن.. مش مجرد أعداد بتدخل وتخرج من غير فايدة".
سويف لم يكن أستاذها فحسب، بل كان معالجها النفسي أيضًا، في نقطة فاصلة لعب سويف دور مهم، حين انفصلت عطيات عن الأبنودي قررت أن تبتعد كثيرًا، فسكنت مدينة السويس، لم تصطحب أسماء معها "كانت شايفة إنها في مرحلة مش مستقرة وإن الأفضل ليا أقعد مع الأبنودي"، ظلت أسماء هناك لعام ونصف، في ذلك الوقت التي كانت عطيات تجتر فيه آلام الانفصال، والخسارة الشخصية وعدم الاستقرار والتشوش بعلاقتها مع أسماء "قالها انتي عندك مقياس حاسم، انتي أمها ولا حاسة إنك مش أمها، عايزة تعاقبيها عشان عملت كذا باعتبارك أمها ولا لا، دا الفاصل بين هي بنتك ولا مش بنتك"، منذ ذلك الوقت في بدايات التسعينيات حسمت عطيات قرارها، ستظل أسماء ابنتها طول العمر.
ماذا سيحدث إذا لم تكن عطيات في حياة أسماء؟ هذا سؤال لا توجد إجابة عليه، المؤكد أن ابنة يحيى الطاهر هي ابنة لعطيات أيضًا "ماما كانت صلتي بالعالم، وبكل اللي أنا فقدته كمان"، في كل القرارات الحياتية التي اتخذتها عطيات كان الهدف الأول منه هو حماية أسماء "كانت حريصة طول الوقت تعوضني عن كل اللي فُقد مني"، هناك خسارتان كبريتان في حياة أسماء هما؛ رحيل والدها الحقيقي –يحيى الطاهر عبد الله- ثُم الأبنودي الذي اعتبرته أبًا ثانيًا لها "أنا فضلت عايشة معاه من وأنا عندي خمس سنين لحد لما بقى عندي 11 سنة، وقعدت فترة معاه لحد جوازته الثانية -من نهال كمال- وقتها ماما عطيات جت خدتني"، مع فقدان الأبنودي أيضًا تزعزعت ثقة الفتاة الصغيرة، وقتها جاءت هالة الابنة الثانية ليحيى الطاهر وعاشت مع أسماء في بيت السويس "هالة كانت بتجيني في الأجازات، فلما ماما حست إني بتبسط معاها وبلاقي حد أتكلم معاه، قالتلي تحبي هالة تعيش معانا على طول؟".
حينما فقدت أسماء أبيها يحيى طمأنتها عائلة الأم أنه سيعود، ظلّت الفتاة الصغيرة مُنتظرة إياه، حتى جاءت عطيات فأخبرتها أن والدها لن يعود بهيئة البشرية مرة أخرى "كانت بتأهلني استوعب الموت، بتقولي هو هيرجع بس بشكل تاني".
في كل قرار اتخذته عطيات لم تعرف الندم، تدرك طيلة حياتها أن لها هدف لا تحيد عنه، فلم تفكر يوما في خوض تجارب السينما الروائية تقول: "أنا في التسجيلي رقم واحد وروحي فيها.. ليه أروح لملعب تاني"، ولم تتذمر لوهلة من انحسار السينما التسجيلية في جمهور صغير، لذا كانت تعبر عن ذلك بقلب واع "ده هيفضل في تاريخ السينما بعدين، وهتيجي أجيال هيكون الشغل ده وثيقة ليها عن مصر في زمن ما.. اللي بعمله حقيقي والحقيقي هيعيش".
لم تعرف عطيات أيضًا معنى القطيعة، أن تتعامل مع مرحلة من حياتها وكأنها لم تكن، وهو ما فعله الأبنودي بعد الانفصال "وقتها هو قطع كل علاقة بتربطه بينا كأننا مكناش في يوم موجودين"، السبب في ذلك كما تقول عطيات لأسماء "هو زعل إني معملتش معركة للتمسك"، ثم تضحك مُكملة "زعل إني سبته يسيبنا"، لا تعرف أسماء سببا بعينه أدى للانفصال؛ لكنها تحلل "العلاقة كانت على جمر بين اتنين مبدعين، وشخصيتهم قوية والعند في طبعهم"، لم تتعامل عطيات بنفس منطق الأبنودي، لازالت تحتفظ بدواوين أشعاره الباقية داخل مكتبة منزل المقطم، بالإضافة إلى بعض أوراقه الخاصة منها حينما تقدّم لطلب الماجستير، كما دفعها حسّها التوثيقي لنشر كتابها الأول أواخر التسعينيات "أيام لم تكن معه"، والذي تحكي فيه عطيات عن فترة اعتقال الأبنودي وكيف كانت حياتها في ذلك الوقت.
ذلك التصالح والاتساق مع الذات لم يكن داخليًا فقط، بل ظهر على هيئة عطيات الخارجية أيضًا، فبمرور الوقت كانت شخصية المخرجة التسجيلية تكتمل أكثر فأكثر، هي التي تنتشر لها صور عديدة مُرتدية جلابيب ملونة، حتى أصبحت جزء من تكوينها، تلك الفساتين التي لازالوا مستقرين داخل دولابها الشخصي في منزل المقطم، تحكي أسماء عن تعرّفها بصديقة فنانة هي شهيرة محرز التي كان لديها مشروع جلابيب وأعجبت به "ومع الوقت بقى استايل خاص بيها، الصبح وبالليل وفي المناسبات"، وكان لدى عطيات خياطة تذهب إليها في كرداسة تُشير إليها بما تريد.
تلك الصورة المميزة التي خلقتها عطيات لنفسها، هي الصورة التي نُحب أن نتذكرها بها، وفي عالم آخر لابد أنها مازالت تُمارس طقوسها اليومية، تستيقظ مُبكرًا، تقرأ الجريدة ثُم تفتح جهاز الكومبيوتر لتلعب "سوليتير"، تفطر وتقرأ قليلًا، بعدها تعود لفتح واحد من مشروعات أفلامها التي لا تنتهي، يُمكن أن تُشغّل في الخلفية أغنيتها الأثيرة "أمانة عليك يا ليل طوّل"، أو إذا أحبّت أن تسترجع الذكريات تُشغّل "برة الشبابيك" لمنير، لتستعيد أيام الانفصال بالأبنودي الذي كتب كلمات تلك الأغنية خصيصًا لها، وكما أيقنت أسماء أن للموتى طُرقهم الخاصة التي يعودون بها، تحلم بأن تلتقي بعطيات الأبنودي كما عهدتها؛ نبيلة، مخلصة، ودودة، حكاءة مبهرة وقريبة من الناس، ولو كان ذلك في عالم أخر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.