قبل 7 سنوات، شعر زين العابدين فاروق بضغط على صدره، لا يرتاح منه إلا بالنوم على وسادات مرتفعة، بعدها ساءت حالته أكثر، هاجمه إعياء شديد، ألم عند الخاصرة مع شٌح في البول، عند الطبيب جاءه الرد الصادم: "عندك فشل كلوي". سَرت الرجفة في جسده، إذ يعرف خبايا المرض الذي داهم أصدقاء له، وألزمه بجلسات علاج أسبوعية لا يفارقها. زين العابدين، واحد بين آلاف المرضى بالفشل الكلوي في مصر، يتراوح عددهم ما بين 90 ألفًا و115 ألفًا –وفقًا للجمعية المصرية لأصدقاء مرضى الكلى- أصدرت وزارة الصحة قرارًا بشأنهم، الخميس المنصرف، يتعلق برفع سعر جلسات الغسيل الكلوي للمرة الثانية من 200 إلى 400 جنيهًا، وقد أحدث القرار حالة من الجدل حول تحمل المرضى عبء التكاليف الإضافية من عدمه، فيما كان الواقع يحمل مزيدًا من الضغوط تتجاوز المائتين جنيهًا الزيادة. طوال شهر ونصف، ظل عبد الهادي أحمد يَتحمل ثمن 18 جلسة غسيل كلوي، كانت الواحدة تُكلفه 200 جنيهًا منذ إصابته بالمرض قبل 5 سنوات، في الوقت الذي لم يَكن مَعاشه يَتجاوز 600 جنيهًا. عن القرار الأخير برفع سعر الجلسات لم يعلم عبد الهادي شيئًا، ويتحدث بلا اكتراث بينما يشرع في توضيح الأعباء القائمة. حَصل الرجل، صاحب ال68 عام، على قرار بالعلاج على نفقه الدولة الذي تقدم له بعد أسبوعين من بدء الجلسات "مكنتش متوقع خالص، بس جت من عند ربنا، ده خَفف عليا كتير الحمد لله"، بينما يدفع ثمن الأدوية التي يبلغ ثمنها 800 جنيهًا "تقريبًا توفير ثمن جلسة الغسيل بدفعه أدوية، ولادي ساعات بيدوني، وأهل الخير بيساعدوا". خلاف الملل الذي يصيبه طوال 4 ساعات تستغرقها الجلسة الواحدة، يفزع الرجل الستيني كلما فقد زميل مرض اعتاد على مقابلته خلال الجلسات "5 سنين باجي المستشفى، فيه ناس بتتغير وفيه اللي بيتوفى" يقولها بينما تُعشش غُصة في حلقه. ضيق ذات اليد، دفع عبد الهادي إلى الاستغناء عن متابعة تطورات مرضه مع طبيب "أنا من قلته ما باتابعش مع دكتور، النهاردة أقل واحد هياخدله 200 جنيه في الكشف"، كما اقتصر طعامه على وجبة الفول "الصبح بفطر فول وبليل بتعشى فول"، يقول بتعفف جَم إنه هو الوجبة الأفضل لحالته "على أساس إن دي حاجة مسلوقة وصحية، وكمان بيقولولي اللحمة غلط عليا". في تمام السادسة صباحًا يخرج عبد الهادي من بيته في حي السيدة زينب، وبعد نصف ساعة يصل إلى المستشفى، يقول إنه لا ينتظر أكثر من 20 دقيقة لدخول دوره في جلسة الغسيل، بينما يشكو من سوء بعض الأحوال بالمستشفى منذ نحو 3 سنوات، يقول إن ماكينات الغسيل أصبحت حالتها رديئة "بس أنا مديهم عذرهم لأن ضغط المرضى عليهم كبير". ثلاثة أنواع من الدعم المادي يتلقاه مرضى القصور الكلوي، ما بين العلاج على نفقة الدولة والتأمين الحكومي والخاص، والنظام الأخير قد تتكفل المؤسسة التابع لها المريض بنصف التكلفة فقط، كما تقول أميرة يوسف، استشاري أمراض الكلى، ونائب مدير الجمعية المصرية لأمراض الكلى. تجد الطبيبة أن الزيادة المقررة مؤخرًا مرضية خاصة للمراكز الخاصة، التي تتحمل العبء الأكبر في علاج المرضى، ومن ثم تمكنها من مواصلة عملها. إذ تشير أميرة إلى أن تكلفة جلسة الغسيل الواحدة تتكلف أقل تقدير 350 جنيهًا، وهي تكلفة الأدوات المستخدمة فقط من محاليل وحقن وغيرها دون حساب لأي أبعاد أخرى، ومنها صيانة الأجهزة التي تقدر تكلفة شراء الواحد منها ب180 ألف جنيهًا كما تقول استشاري أمراض الكلى. لدقائق لم ينطق زين العابدين ببنت شفه، قبل أن يتفاوض مع طبيبه لإيجاد بديلاً آخر "مكنتش عاوز أغسل كلى ولا أتبهدل". أشفق الطبيب على زين، فكتب له نظامًا علاجياً صارمًا "كان ممشيني على أدوية فضلت مريحاني جداً". لمدة عامين ظلت حالة الرجل مستقرة، حتى ارتفعت الأملاح بالكلى إلى نسبة كبيرة يصعب معها اكتفاء زين بالعلاج فقط "الدكتور قالي لازم تغسل"، بعدها توجه إلى إحدى المستشفيات القريبة من منزله في حي المعادي بينما لم يجد مكان فيها "كان العدد كبير ومش بيقبلوا حد خالص". قَصد زين مستشفى آخر، مكث فيه قرابة شهرين "لقيتهم مُهملين جداً في النضافة ودي حاجة مهمة في العلاج"، وظل متواصلاً مع المستشفى الأول الذي قصده، حتى أبلغه الأطباء بخلو مكان له. يَعتبر زين نفسه أوفر حظًا من عدد كبير من مرضى الفشل الكلوي، فالرجل لا يتحمل ثمن جلسات الغسيل التي يجريها 3 مرات أسبوعيًا في تمام السابعة صباحًا، حيث يتكفل بها التأمين الصحي المُدرج به منذ كان عاملاً كفني خراطة في مصانع الإنتاج الحربي قبل خروجه للمعاش. كما يتكفل التأمين بسعر الأدوية التي يكتبها الأطباء له وتبلغ قرابة 800 جنيهًا، بينما يتحمل هو أحيانًا مبلغ بسيط يبلغ 300 جنيهًا، إذ اضطر لشراء بعض الأدوية غير المتوفرة "ومش كل شهر بحتاجها، بجيبها بس لما يحصل أزمة في حاجة أو أحتاج فيتامينات معينة". رغم ذلك، يُشكل المرض المُزمن عبئًا ماديًا ونفسيًا على زين، فمعاشه البالغ 2400 جنيهًا بالكاد يكفيه للإنفاق على زوجته ودفع المياه والكهرباء، حيث يتابع مع طبيب آخر في عيادة خاصة، يدفع 400 جنيهًا ثمن كشف 4 مرات بالشهر، استبدل الطبيب بآخر كان يتابع معه قبل أن يتركه لارتفاع ثمن كشفه "علاج الفشل الكلوي برضه بيكلف، مش عارف لو مكنش ليا تأمين صحي كنت جبت فلوس منين". لا يذهب مريض الكُلى وحيدًا إلا قليلاً، يرافقه أحد ذويه داخل الوحدة أو ينتظر بالخارج. حينما حان الدور في غضون الواحدة ظهرًا، دخلت سيدة سبعينية على كرسي متحرك صاحبتها ابنتيها، فيما خرجت إحداهما بعد دقائق. نجلاء رشدي ترافق والدتها لجلسات غسيل الكلى منذ أربعة أشهر، تتبادل مع شقيقتها التواجد أثناء الأربعة ساعات مدة الجلسة. كانت السيدة على علم بقرار الزيادة، أشفقت نجلاء على حديثي العهد بالمرض "أي حد بيكتشف أنه عنده الكلى بيقعد فترة لغاية ما يطلع قرار العلاج.. مش أقل من شهر بيدفع على حسابه تكلفة الجلسات". تجد نجلاء أن والدتها أكثر حظًا من كثيرين، خلاف أن نظام التأمين الخاص بها يتكفل بنفقات جلسات الغسيل، فقدرتهم المالية جيدة لتحمل مستلزمات العلاج، من أدوية وغيرها، إذ تُقدر السيدة ما يحتاجه مريض غسيل الكلى بنحو 5 آلاف جنيه شهريًا، وهو ما يتجاوز طاقة الكثير. أصبح الذهاب للمستشفى بالنسبة لنجلاء، بمثابة جولة للاطلاع على أحوال المرضى، حتى أنها ألفت الوجوه، خاصة المرافقين أمثالها، ممن تتبادل معهم الحديث في ركن الانتظار "في ناس بتيجي من بعيد وناس بتجمع تمن الجلسات منهم الصغيرين في السن، فيه اللي بيجي من الشغل يغسلوا ويمشوا"، وأسوأ اللحظات التي تمر عليها حين تأتي وتعلم أن أحدهم تغيب لوفاته. تتذكر نجلاء تلك السيدة الأربعينية، التي طالما كانت تأتي بصحبة ابنتها، ولا يغيب عنها الابتسام والتفاؤل، ورحلت قبل شهر بعد تلقيها الجلسة "عرفت في المرة اللي بعدها أنها روحت البيت ضغطها ارتفع ورجعوها على المستشفى تاني، دخلت العناية المركزة دفعت 10 آلاف جنيه وتوفاها الله بعد يومين". تشعر نجلاء بالأسى على حال المرضى، باتت السيدة تعلم أن الفشل الكلوي عياء مرهق نفسيًا، علاوة على الماديات. تحمل السيدة عبء رؤية مرض والدتها وكذلك ما تلاقيه في كل مرة تذهب فيها للمستشفى "من ساعة ما جينا في 4 حالات توفت" تقولها نجلاء بأسى. لم يعد حزن المرافقة على الرحيل، أدركت نجلاء أن وفاة أحدهم يُفسح مكان لمريض آخر، حتى أن ذلك بات أمل البعض ممن يبدؤون رحلة العلاج ولا تتوفر أماكن لهم. في تصريح سابق لماجدة طنطاوي، رئيس قطاع الطب العلاجي بوزارة الصحة، أوضحت أن نسبة المترددين على مراكز الكلى الخاصة تبلغ 30.5%، فيما يلجأ 69.5% إلى مستشفيات الوزارة والتأمين الصحي، والمراكز الطبية المتخصصة والمستشفيات التعليمية والجيش والشرطة. تخلو وحدة غسيل الكلى من وجود الأطباء، تعتمد إدارة جلسات المرضى على التمريض، وهو ما ألفته نجلاء مع والدتها منذ أربعة أشهر، لكنها طالما استنكرته، خاصًا حينما اشتد التعب على والدتها "في مرة حصل لها تشنج ووصلت لمرحلة أنها بتحتضر فلما صرخنا الدكاترة جم"، تعايش السيدة كثيرًا حدوث مضاعفات للمرضى أو ما تصفه ب"مفاجئات" أقلها حدوث إغماء. تقول استشاري أمراض الكلى، أن وحدات الغسيل سواء الحكومية أو الخاصة يغيب عنها التواجد الطبي، لقلة الأطباء في هذا التخصص، فضلا عن الصورة الذهنية المأخوذة عن تلك الجلسات أنها تنتهي بعد 4 ساعات ومن ثم يمكن للتمريض التكفل بهذا "المفترض يكون العلاج لتأهيل المريض عشان يرجع يمارس حياته مش مجرد جهاز يتحط عليه وخلاص". في غرفة انتظار وحدة غسيل الكلى، جلست سميرة جاد بين المنتظرين، منذ شهرين لم تعد رحلة السيدة تقتصر على جلسات علاجها بالكيماوي؛ زاد العبء بعدما عانى زوجها جمال من الفشل الكلوي، مما اضطرها إلى مرافقته ثلاث مرات أسبوعيًا. خلاف المرضى المنتظرين دورهم. يتحمل جمال التكاليف "بندفع 450 جنيه للجلسة" حسب سميرة، فيما تأمل السيدة في إعفاءهم من النفقات، بعد إتمام الإجراءات الروتينية للتأمين، التي انتهت قبل أسبوعين وتتوقف على إمضاء مدير المستشفى. لم تكن سميرة تعلم بأمر زيادة سعر الجلسات، غير أنها بنهاية الجلسة دفعت المبلغ ذاته دون زيادة حسب قولها. مرض جمال بسرطان المثانة تسبب في مضاعفات أثرت على الكلى، ولزم له جلسات الغسيل الكلوي الأسبوعية. يسكن الرجل الأربعيني في منطقة طرة البلد، لذلك كانت مستشفى بالمعادي الأقرب له. تصحب سميرة زوجها للجلسة العاشرة "ميستحملش المواصلات باخد تاكسي بحوالي 40 جنيه". نفقات العلاج لا تتوقف على مرض الزوج ومشاوير المستشفيات، فعلى مدار 15 عامًا تتداوى سميرة من سرطان الغدد "حوالي 1900 جنيه بدفعها تكلفة جلسة الكيماوي"، ومع كم الأعباء غير أن السيدة لا تنقطع عن الابتسام مع ترديد الحمد. أربعة أيام مرت على قرار وزارة الصحة برفع سعر الجلسات، غير أن الصدى كأنما لم يكن لدى المرضى، فيما تتلخص أمانيهم هم والأطباء في خدمة طبيبة تُعين أصحاب المصاب على التعايش مع إعيائهم بسلام..