تصوير-محمود بكار: في منزل عائلته بمحافظة البحيرة، وقعت عينا سعد اليتيم على "رحى" الخبز المستديرة، أخذها خلسة، أحضر خيطا ثقيلا، حاول ربطه ليصنع آلة موسيقية كالتي رآها في الأفراح. منذ ذلك الحين، لم يترك الفتى صاحب ال11 عاما حفلا في المنطقة إلا وذهب، كان يجلس القرفصاء فاغرا فاه أمام الشيخ الذي يُغني، ثم يعود لمنزله مرددا ما سمعه، قبل أن يدرك قوة صوته أيضا، فيعتنق "قوالة" المواويل في البلدان. ذاع صيته، عرفه أهل المدن المجاورة، صار له مريدين يتتبعونه، فيما ظل هدفه الوحيد في السبعة وثلاثين عاما التالية أن يغني "الكلمات الحلوة". ما يغنيه اليتيم لا يشبه الفنون الموجودة على الساحة، لا يؤدي الفن الشعبي أو الطربي، إنما هو منزلة بين الاثنين، يسرد صاحب ال48 عاما على المسرح قصصا عن الخيانة، الزواج، وصلة الرحم، يستخدم حركات جسده للتعبير عن المعنى، بينما الأعين أمامه مشدوهة، الأجساد تتمايل، والآذان تتراقص. فُتن اليتيم بالنغم في صغره، لم تمنعه الظروف عمّا يحب؛ توفيت والدته وهو رضيع، فيما لحق بها والده. عاش مع أقاربه، تلصص على الحفلات في بلدهم "لكن أول ما قابلت الشيخ محمد عبدالهادي الحال اختلف"، كان عبد الهادي مشهورا وقتها، مازال الشيخ يذكر خطواته المرتعشة تجاهه "قولتله أنا عايز أغني زيك"، احتضن الراحل موهبة اليتيم "قاللي اسمك ايه قولتله سعد بكر ولما سألني عن أمي وأبويا وعرف إنهم توفوا سمّاني سعد اليتيم". حينما غنّى اليتيم للمرة الأولى "كان عمري 12 سنة قلت موال اسمه ولدي"، عرفه الناس بالاسم "بقيت أطلع أغني مواويل حافظها.. مكنش عندي رهبة من الجمهور". في النجوع، القرى، الشوارع الضيقة، المناسبات الضخمة أو جلسات "الأنس"، اصطحب الشيخ عبد الهادي الفتى، قبل أن ينفصل الأخير ويشق طريقه في عمر الرابعة عشر. "لفيت من قبلي لبحري.. منحبش نرفض نروح مكان أبدا".. صار الشيخ عالما بالمدن التي يوصف سكانها بال"سمّيعة"، ضاربا المثل ب"أهل بني سويف وقرية في طنطا اسمها الشيخ مُفتاح"، تبتهج أساريره حين يقابل الناس "اللي تحب تسمعني وتتسلطن مش مجرد حفلة وخلاص"، لكنه لم يتخيل أن ذلك الحُب سيتيح له عمل شريط تسجيل للمرة الأولى منذ عشرين عاما. في أحد الأسواق بمحافظة كفر الشيخ سمع اليتيم صوته مُسجلا بالصدفة، سأل المحيطين به "وعرفت إن حد سجل لي وانا بغني في بلد اسمها قلين"، طرأت الفكرة في ذهنه "ليه معملش شرايط؟"، كان قد ألف العديد من القصص وتغنّى بها في الأفراح، بدأ التسجيل بقصة "أحلام والباشا" التي تحكي عن شابة تم تزويجها دون إرادتها "بقيت أسمع الشريط دة في كل حتة أروحها"، قبل أن يُلحقه ب17 شريطا خلال السنوات التالية. 37 سنة فى بر مصر.. الشيخ سعد سواح "لاجل المواويل" دائما ما يغرق الشيخ في محبة آل البلاد؛ ما أن تقترب سيارته من مكان المناسبة حتى ترتفع الأيادي تحيي قدومه، يُلقي نظرة على الجلوس قبل الغناء "لو فرح لازم أبقى فاكك أكتر من المولد"، يتمايل مع "انبساط" الناس، يطلب من السيدات أن تزغرد، غير أن الهزل ينقلب إلى جدية، حين يقول "هنبتدي فقرة القصة يا جماعة.. ياريت نقعد عشان نسمع". ما أن يبدأ اليتيم في القصة حتى يتحرك جيئة وذهابا على المسرح، يجلس أرضا، يضحك فيُضحك الجمهور، يتجهم فتشرأب الأعناق، تتغير نبرة صوته قائلا بحسرة "يا ميت خسارة على الغزالة لما تاخد خيبان، غزالة زي العسل لكن بختها تعبان"، فتعلو جملة "الله عليك يا شيخ". يؤلف الشيخ ما يسرد "ولما الدنيا تعطل معايا وأنسى جملة برتجل غيرها على المسرح". يتنقل بأريحية بين السيكا، الرست، البياتي، النهاوند، فيما يحصد ثمار صدقه من ردود فعل الجمهور. في حفلات اليتيم، لا مكان للرتابة، فكما احتضنه أحد معجبيه قائلا: "أنا عندي شرايطك كلها.. والله لو روحت فين لتلاقيني وراك"، وقفت السيدة خيرية بين الجموع تسمعه، تسرد ذكرياتها معه "وانا صغيرة كنت أروح أستلف منه الشرايط أسمعها وأرجعها"، يتلون وجهها خجلا، تُشير إليه "هما عندنا هنا يقولوا عليه الصّيّيت يعني الراجل المشهور وسيرته كويسة". لا تسير الأمور دائما على ما يُرام. وقع صاحب "القوالة" عدة مرات فريسة للتأخير "كنا لما بنوصل بنلاقي الناس عينيها بتطق شرار لأنهم معتمدين علينا". يتذكر أيام ثورة يناير، كان يتحرك من القاهرة في اتجاه قرية "شريف باشا" بمحافظة بني سويف"، وبسبب غلق الطرق وصل مع دقات منتصف الليل "لقيت الناس واقفة لنا بالرشاشات على أول البلد". بُهت اليتيم "في واحد من الفرح شالني ورماني على المسرح"، اضطر للغناء بمكبر صوت واحد، ارتعدت فرائصه خوفا من غضب الحضور "هما ليهم الانبساط وبس، ملهمش دعوة بزعلك ولا تعبك ولا ظروفك". لكن الحياة تضحك للشيخ عندما يشكره أحدهم على ما يقدم؛ ففي قرية ميت بردين بالبحيرة، ألقى موالا عن الآباء الذين يزوّجون فتياتهم مقابل من يدفع أكثر، وبعدما انتهى "لقيت راجل كبير جاي بيقولي انا كنت حالف على خطيب بنتي يجيب دهب ب15 ألف، تصدق بالله أما سمعتك خلتهم 10 بس". يُقابل اليتيم هؤلاء السمّيعة فيعوضونه عن مآسي مر بها "اتحرمت من تعليم عشان أمي وأبويا مكانوش موجودين"، بينما تعلم في الرابعة عشر الكتابة والقراءة على يد أحدهم، كما حفظ أجزاء من القرآن الكريم، وبنفس الطريقة تشرّب العزف على الكمان والعود . علّم اليتيم ولديه محمد ومنصور العزف على أكثر من آلة، اصطحبهما للحفلات المختلفة إما للعزف أو للتنظيم، يشد الشابان من أزره، يساعداه على تخطي الإرهاق الذي يشعر به أحيانا، أو الضيق في أوقات أخرى "ساعات بحس إني مش واخد حقي"، رغم أنه طاف في كل المحافظات "بس عدم وجود الواحد في القاهرة مخليه بعيد شوية عن العين". المسرح هو المكان الأقرب لقلب اليتيم "وسط الجمهور حاسس بأمان أكتر من البيت". أخذ عهدا على نفسه ألا يرد للجالسين رجاءً، حتى أنه لا يغير نسق ملابسه "حاولت أشيل العمة وأغير لون الجلباب بس الناس قالوا احنا حبيناك كدة". يُغني للسيدة أم كلثوم، محمد عبد الوهاب، وبعض الأغاني الشعبية "أحيانا أبقى خلصت فحد يقولي والله لتقعد شوية كمان فاضطر أقعد"، يبتسم صاحب المواويل مستكملا "ساعات بحس إني محبوس في حُب العالم دي". لصاحب الصوت العذب أحلام غير مكتملة، يسرح قليلا "نفسي منتج يعمل فيلم ويخليني أغني مواويل في النص"، يرضى بما وصل له "الشغلانة دي إدتني حُب وفلوس وكل اللي نفسي فيه"، قبل أن يستطرد مرة أخرى "بس لسة عندي فن وصوت أكتر ولسة نفسي أخرجهم".