وكيل زراعة الغربية يتابع منظومة صرف الأسمدة ويؤكد: دعم المزارعين أولوية    مكتب التحقيقات الفيدرالي: الهجوم قرب البيت الأبيض مسألة أمن قومي    شرطة واشنطن: أطلعنا ترامب على مستجدات التحقيق في حادثة إطلاق النار    نشر 500 جندي إضافي في واشنطن بعد استهداف عنصرين من الحرس الوطني قرب البيت الأبيض    الكرملين: الدعوات لإقالة ويتكوف تهدف إلى عرقلة المسار السلمي في أوكرانيا    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعريية حتى منتصف الليل.. 36 قتيلا وفقدان 279 آخرين جراء حريق هونج كونج.. إغلاق البيت الأبيض بعد حادث إطلاق نار على الحرس الوطنى.. السعودية تعتمد لائحة جديدة لملابس الموظفين    وزير الدفاع الأمريكى: نشر 500 جندى إضافى فى واشنطن بعد حادثة إطلاق النار    بمشاركة صلاح.. ليفربول يتلقى هزيمة قاسية أمام آيندهوفن برباعية في دوري الأبطال    بسبب المصري.. بيراميدز يُعدّل موعد مرانه الأساسي استعدادًا لمواجهة باور ديناموز    سوبر هاتريك مبابي ينقذ ريال مدريد من فخ أولمبياكوس في دوري الأبطال    عبد الله جمال: أحمد عادل عبد المنعم بيشجعنى وبينصحنى.. والشناوى الأفضل    آرسنال يحسم قمة دوري الأبطال بثلاثية أمام بايرن ميونخ    بعثة بيراميدز تصل زامبيا استعدادا لمواجهة ديناموز بدورى أبطال أفريقيا.. صور    باريس سان جيرمان يكتسح توتنهام بخماسية في مباراة مثيرة بدوري الأبطال    ضبط صاحب معرض سيارات لاتهامه بالاعتداء على فتاة من ذوي الهمم بطوخ    جيش الاحتلال يتجه لفرض قيود صارمة على استخدام الهواتف المحمولة لكبار الضباط    جمعيات الرفق بالحيوان: يوجد حملة ممنهجة ضد ملف حيوانات الشارع وضد العلاج الآمن    السيطرة على حريق مخلفات في أرض فضاء بالوايلى دون إصابات    محمد الجوهري: التعاون المصري الجزائري ضمن التكامل الاقتصادي العربي والأفريقي    موهبة من عمان.. شوف عملت إيه فى برنامج كاستنج (فيديو)    رسالة طمأنة من مستشار الرئيس للصحة بشأن حقيقة انتشار فيروسات خطيرة في مصر    أوكرانيا تحدد خطوطها الحمراء تجاه خطة السلام الأمريكية.. ما الذي لا تقبله كييف؟    إنفوجراف| تعرف على أنشطة مديريات الزراعة والطب البيطري خلال أسبوع    مياه الفيوم تطلق برنامجًا تدريبيًا مكثفًا لإعداد كوادر فنية شابة.. صور    طالبات الدمج بمدارس الفيوم في زيارة تعليمية لكلية الآثار الأحد المقبل    محمد رضوان: تكريمي من مهرجان شرم الشيخ الأول لي في المسرح    مصر للطيران تطلق أولى رحلاتها المباشرة بين الإسكندرية وبني غازي    رسائل الرئيس الأبرز، تفاصيل حضور السيسي اختبارات كشف الهيئة للمُتقدمين للالتحاق بالأكاديمية العسكرية    المؤتمر الدولي لكلية التمريض بجامعة المنصورة الأهلية يواصل فعالياته    عماد زيادة بطلاً أمام مي عز الدين في مسلسل " قبل وبعد"    انقطاع المياه عن بعض قرى مركز ومدينة المنزلة بالدقهلية.. السبت المقبل    حبس عاطل بتهمة تهديد جيرانه فى قنا    شهداء ومصابون في قصف إسرائيلي استهدف بيت لاهيا شمال قطاع غزة    كلية الحقوق بجامعة أسيوط تنظم ورشة تدريبية بعنوان "مكافحة العنف ضد المرأة"    الكاميرات ليست حلاً «2»    الإدارية العليا تقضي بعدم قبول 14 طعنًا على نتيجة انتخابات النواب بالمرحلة الأولى    تامر حسنى يحيى حفلا غنائيا 20 ديسمبر بقصر عابدين    "الألحان الخالدة" تحتفي بروائع الشريعي وهشام نزيه بأداء أوركسترالي مبهر    الأرصاد: تنصح المواطنين بارتداء الملابس الشتوية    حسام حسني: المستشفيات الجامعية تلعب دورًا محوريا في مواجهة الفيروسات الجديدة    وفد الصحة العالمية يشيد بريادة سوهاج في تنفيذ مبادرة المدارس المعززة للصحة    وزير الصحة يلتقي كبير الأطباء بمستشفى أنقرة بيلكنت سيتي    وكيل صحة بني سويف: إحلال وتجديد مستشفى سمسطا المركزي ب 2 مليار جنيه    أخبار البورصة اليوم الأربعاء 26-11-2025    وزير الثقافة ينعى الناقد الدكتور محمد عبد المطلب    خالد الجندي: ثلاثة أرباع من في القبور بسبب الحسد    السكة الحديد: إنشاء خطوط جديدة كممرات لوجيستية تربط مناطق الإنتاج بالاستهلاك    جامعة المنيا تخصص 10 ملايين جنيه لدعم الطلاب عبر صندوق التكافل المركزي    مجلس جامعة سوهاج يوافق على التعاون مع جامعة آدمسون بالفلبين    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : استرح فى واحة الانس !?    الجدة وحفيدتها.. انتشال جثتين من أسفل أنقاض انهيار منزل بنجع حمادي    رئيس الوزراء ونظيره الجزائرى يشهدان توقيع عدد من وثائق التعاون بين البلدين    قمة نارية في دوري الأبطال.. أرسنال يستضيف بايرن ميونيخ في مواجهة لا تقبل القسمة على اثنين    «إرادة المصريين تتصدّى لمحاولات التخريب.. رسائل قوية في مواجهة حملات الإخوان للتشويه»    وزير الدفاع يشهد تنفيذ المرحلة الرئيسية للتدريب المشترك "ميدوزا -14".. شاهد    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 26-10-2025 في محافظة الأقصر    دار الإفتاء تكشف.. ما يجوز وما يحرم في ملابس المتوفى    دعاء جوف الليل| اللهم يا شافي القلوب والأبدان أنزل شفاءك على كل مريض    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ننشر النص الكامل لكلمة شيخ الأزهر أمام المؤتمر العالمي للإفتاء
نشر في مصراوي يوم 17 - 10 - 2016

أكد الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، رفضه كل تشريع يصادم تشريعات القرآن الكريمِ أو السنة المُطهَّرةِ، أو يَمسُّهمَا من قريب أو بعيد، مؤكدًا أن جُمود الفتوى وتهيُّب الاجتهادِ ألحق العنت والضرر بجماهير الأمة.
وأضاف الطيب في كلمته بمؤتمر دار الإفتاء المصرية"التكوين العلمي والتأهيل الإفتائي لأئمة المساجد للأقليات المسلمة"، قائلًا "علماؤنا في القرنِ الماضي كانوا أكثرَ شجاعةً مِن علمائنا اليومَ على اقتحام قضايا وأحكامٍ مَسَّتْ حاجةُ الناسِ إلى تجديدِها والاجتهادِ فيها".
وفيما يلي النص الكامل لكلمة فضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف بالمؤتمر::
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله، والصَّلاةُ والسَّلامُ على سيدِنا رسولِ الله، وعلى آلِه وصحبِه.
السادةُ العلماءُ الأجلَّاءُ من أهلِ الفَتوى والعِلمِ والفِكْرِ:
السلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه؛
أهلًا ومرحبًا بحَضَراتِكم، في بلدِكم مصرَ، وفي الأزهرِ الشريفِ بكلِّ مُؤسَّساتِه العِلميَّةِ والدَّعْويَّةِ، وأتمنَّى لمؤتمرِكم هذا أن يُكلَّلَ بالنجاحِ في تحقيقِ شيءٍ ممَّا يَنتظرُه المسلمون، الذين يُعلِّقون آمالًا كبرى على أهلِ الفتوى ودُورِ الإفتاءِ؛ في التخفيفِ من هذا الانفصامِ الذي بدأ يتَّسعُ ويزداد اتِّساعًا يومًا بعد يومٍ، بين حياتهم المُعاصِرةِ وحاجاتها وضروراتها من جهةٍ، وبين هذا التِّيهِ من الفقهِ العَبَثيِّ –إن صحَّت هذه التسميةُ- ذلكم الفِقْه الذي يطرُقُ أسماعَ الناس ليلًا ونهارًا، ويُطاردُهم حيثما كانوا، ليردَّهم لا إلى يُسرٍ في الشريعةِ ورحمة في القرآنِ والسُّنَّةِ؛ وإنَّما إلى أخلاطٍ من الآراءِ المُتشدِّدةِ التي قيلت في مناسباتٍ خاصَّةٍ، وتحت ضغط ظروفٍ طارئةٍ، ليس بينها وبين واقعِ الناسِ الآنَ صِلةٌ ولا نَسَبٌ.
وقد وَجَدَ هذا الفقهُ العبثيُّ كتائبَ موازيةً من المُفتينَ؛ نَجَحوا –للأسفِ الشديدِ!-في أن يتغلَّبوا على كثيرٍ من دُورِ الإفتاءِ في عالَمِنا العربيِّ، وأكادُ أقولُ: على كلِّ مَجامِعِ الفقهِ والتشريعِ، وأوَّلُها مَجمَعُ البحوثِ الإسلاميةِ هنا في الأزهرِ.
ولم يكن هذا النجاحُ أو هذه الغَلبةُ بسببٍ من عقلانيَّةِ هذا الفقهِ أو يُسرِه، أو قُدرتِه على جعلِ الحياةِ أيسرَ ممَّا هي عليه، وإنَّما بلغَ هذا النجاحُ ما بلغَ بالقدرةِ على التحرك والنزولِ إلى الناسِ بدُعاةٍ وداعياتٍ، ودُخولِ البيوتِ في القُرى والكُفُورِ، عِلاوةً على اعتلاءِ بعض المنابرِ، والتحدُّثِ إلى الناسِ بما يُريدون، في الوقتِ الذي ظلَّت فيه فتاوى دُورِ الإفتاءِ، وفتاوى المَجامِعِ ولجانِ البحوثِ الفقهيةِ، فتاوى فرديَّةً راكدة، قاصرةً على المُستفتي، أو حبيسةَ مُجلَّداتٍ عِلميَّةٍ لا يفيد منها ملايين الجماهير مِن المسلمين، أو رَهْنَ مؤتمراتٍ يُحدِّثُ فيها بعضُنا بعضًا، ونتواصَى في نهاياتِها بما شاءت لنا أحلامُنا من آمالٍ وأمانٍ لا تَجِدُ من المُختصِّين مَن يرعاها أو يتابعُها أو يسعى إلى تنزيلِها على واقعِ الناسِ.
واسمحوا لي -شُيوخَنا الأجِلَّاءَ- في مكاشفاتي الصريحة هذه، وأرجو؛ بل أُلِحُّ في رجائي ألَّا يَسبِقَ إلى أذهانِكم أنني أقِفُ منكم موقفَ المعترض أو المنتقد، فمَعاذَ اللهِ أن أكونَ كذلك! ومَعاذَ اللهِ أن يسبق إلى نفسي شيء من ذلك؛ فأنا أعي جيدًا أنني أتحدَّثَ إلى النُّخْبةِ والذؤابةِ من أهلِ العِلمِ والحِجَا في عالَمِنا العربيِّ والإسلاميِّ، وأنا قبلَكم أوَّلُ مَن يتحمَّلُ نصيبَه من المسئوليَّةِ أمامَ الله وأمامَ المسلمين، ولكني ربَّما كنتُ أكثرَكم التصاقًا بالجماهيرِ والبؤساءِ والبائساتِ، ومعرِفةً بما يَلحَقُهم من مُشكلاتٍ أُسَريَّةٍ تبلُغُ حدَّ الدَّمارِ والتشريدِ؛ بسببٍ من جُمودِ الفتوى، وتهيُّبِ الاجتهادِ، والعجزِ عن كسرِ حاجزِ الخوفِ من التجديدِ، حتى ظننتُ أنَّنا -كأهلِ علمٍ وإفتاءٍ- إن كنَّا على علمٍ دقيقٍ بما نُفتي به نصًّا؛ فإننا مُغيَّبون قليلًا أو كثيرًا عن محلِّ النصِّ، وإدراكِ الواقعِ الذي يُفتيَ بتنزيلِ النصِّ عليه. لا نتوقَّفُ عنده، ولا نتأمَّلُ مُلابساتِه ولا وزنَ الضررِ الذي يترتَّبُ عليه، ولا حجمَ المُعاناةِ الاجتماعيةِ والنفسيةِ التي تأخُذُ بتلابيبِ الناسِ من جرائه.
وأَضرِبُ لحضراتكم مثلًا مُشكِلةً حيَّةً تتعلَّقُ بظاهرةِ فوضى تعدُّدِ الزواجِ، وفوضى الطلاقِ أيضًا، وما يَنشأُ عن هذه الظاهرةِ من عَنَتٍ يَلحَقُ بزوجةٍ أو أكثرَ، وتشريدٍ يُدمِّرُ حياةَ الأطفالِ، وضياعٍ يُسْلمهم إلى التمرُّدِ والإجرامِ.
وأبادِرُ بالقولِ بأنَّني لا أدعو إلى تشريعاتٍ تُلغي حقَّ التعدُّدِ، بل أرفُضُ أيَّ تشريعٍ يَصدِمُ أو يَهدِمُ تشريعاتِ القرآنِ الكريمِ أو السُّنَّةِ المُطهَّرةِ، أو يَمسُّهمَا من قريبٍ أو بعيدٍ؛ وذلك كي أقطعَ الطريقَ على المُزايِدِينَ والمُتصيِّدين كلمةً هنا أو هناك، يَقطَعونها عن سِياقِها؛ ليتربَّحوا بها ويتكسَّبوا من ورائها. ولكنِّي أتساءلُ: ما الذي يَحمِلُ المُسلمَ الفقيرَ المُعوِزَ على أن يتزوَّجَ بثانيةٍ -مثلًا- ويتركَ الأولى بأولادِها وبناتِها تُعاني الفقرَ والضَّياعَ، ولا يجدُ في صَدْرِه حَرَجًا يردُّه عن التعسُّفِ في استعمالِ هذا الحقِّ الشرعيِّ، والخروجِ به عن مقاصدِه ومآلاتِه؟!
والإجابةُ في نظري: أن الدعوةَ إلى شريعةِ الإسلامِ في هذه القضيةِ لم تَصِلْ لهؤلاء على وجهِها الصحيحِ، وأنَّ الفتاوى –في هذه القضية- تراكَمَتْ على المشروطِ الذي هو إباحةُ التعدُّدِ، وسكتت عن شرطَ التعدُّد، وهو: العدلُ وعدم لُحوقِ الضررِ بالزوجةِ. ومعلوم أن عدم الشرط يستلزم عدد المشروط لأن الشرطَ هو الذي يَلزَمُ مِن عَدَمِه العدمُ، ولا يَلزمُ مِن وُجودِه وُجودٌ ولا عَدَمٌ، نعم لقد ترسَّخ هذا الفهم حتى باتت العامة تتصوَّرَ أنَّ التعدُّدَ حقٌّ مُباحٌ بدونِ قيدٍ ولا شرطٍ، وترسَّخَ في وِجدانها أنه لا مسؤوليةَ شرعيةً تقف في طريقِ رَغَباتِها ونَزَواتِها، ما دامت في الحلالِ كما يقولون!
وأحكامُ الشريعةِ التي تعلَّمْناها، ولا نزالُ نتعلَّمُها، مِن كتبِ الفقهِ في أوَّلِ بابِ النكاحِ، تُقرِّرُ أنَّ الزواجَ تعتريهِ الأحكامُ الخمسةُ، ومنها الكراهةُ والحُرمةُ، وأن الأحنافَ يُحرِّمون الزواجَ إن تيقَّنَ الزوجُ أنه سيَجُورُ على زوجتِه؛ لأنَّ حِكمةَ الزواجِ في الإسلامِ أنه إنَّما شُرِع لتحقيقِ مَصلَحةٍ؛ هي تحصينُ النفْسِ، وتحصيلُ الثوابِ بجَلْبِ الولدِ الذي يعبُدُ اللهَ، فإذا خالَطَ ذلك ظُلمٌ أو جَورٌ أو ضَرَرٌ؛ أَثِمَ الزوجُ وارتكبَ محرَّمًا، ويخضَعُ ثَمَّتَئِذٍ لقاعدةِ: دفعُ المَفسدةِ مُقدَّمُ على جلبِ المصلحةِ.
ومع أنَّ الجميعَ مُتَّفقٌ على وُجوبِ الزواجِ عندَ خوفِ الوقوعِ في الزِّنى، إلَّا أنهم يَشترطون معه عدمَ الخوفِ من الضررِ، حتى قال الحنفيَّةُ: إنْ تعارَضَ خوفُ الوقوعِ في الزنى لو لم يتزوَّجْ، وخوفُ الجَورِ وإلحاقِ الضررِ بالزوجةِ؛ قُدِّمَ خوفُ الضررِ، وحَرُمَ الزواجُ، قالوا: «لأنَّ الجورَ معصيةٌ متعلِّقةٌ بالعبادِ، والمنعَ من الزنى حقٌّ مِن حقوقِ الله تعالى، وحقُّ العبدِ مُقدَّمٌ عند التعارُضِ؛ لاحتياجِ العبدِ، وغِنى المولَى سبحانه وتعالى»، والشيءُ نفْسُه نجدُه في فقهِ المالكيةِ والشافعيةِ.
والدرْسُ المُستفادُ هنا -فيما أَفهَمُ – أنَّ الجورَ على الزوجةِ جريمةٌ تَفوقُ جريمةَ الزنى، وأن الزنى ضررٌ أصغرُ بالقياسِ إلى ظلمِ الزوجةِ الذي هو ضررٌ أكبرُ. وهذا في الزواجِ لأولِ مرَّةٍ، ومع الزوجةِ الواحدةِ، فكيفَ بالزواجِ الثاني والثالثِ مع خوفِ الجورِ، بل مع نيةِ الجورِ وتعمده وقصدِ الإضرار بالزوجةِ الأولى؟
ولعلَّ قائلًا يقولُ: إذا وقع الضررُ على الزوجةِ فمِن حقِّها طلبُ الطلاقِ، فإن تعسَّفَ الزوجُ خالعَتْه؛ فاترُكِ الزوجَ ينتقلُ بينَ مَن يَهوَى ويريدُ، واترُكِ الزوجةَ: إمَّا أن ترضى، وإمَّا أن تُخالِعُ.
وإجابتي: أنَّ هذا القولَ يَجمَعُ على الزوجةِ ضررَيْن: ضررَ الهَجْرِ، وضررَ الاضطرارِ بالتضحيةِ بكلِّ حقوقِها كما هو حُكمُ الخُلعِ، وفي الوقتِ نفسِه يجمع للزوجِ منفعتين: تمكينُه مِن تحصيلِ رغبتِه التي أمَرَه الشرعُ بتهذيبِها، وأخذ حقوقِ الزوجةِ التي اضطرَّها الجورُ إلى التنازُلِ عنها.
ولعلَّ هذا هو السببُ في أنك لا تجدُ في كلامِ الفقهاءِ في هذه المسألةِ إشارةً من قريبٍ أو بعيدٍ إلى إباحةِ الزواجِ مع خوفِ الجورِ، ومع تخييرِ الزوجةِ بعدَ ذلك بينَ الرِّضا أو الانخلاعِ، وإنما تَرِدُ عباراتُهم على مَورِدٍ واحدٍ هو: تحمُّلُ المسئوليةِ الأخلاقيةِ تِجاهَ الشريكِ قبل البَدءِ في مشوارِ هذه الشَّراكةِ، انطلاقًا من أنَّ الزواجَ حقوقٌ قبلَ أنْ يكونَ نَزْوةً أو رغبةً عارِضةً، وأنَّهُ مسئوليةٌ كُبرى عبَّر عنها القُرآنُ الكريمُ بالميثاقِ الغليظِ في قولهِ تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 21] ، وأنه لم يُشرَعْ أبدًا لمُكايَدةِ العَشيرِ، وأن تشريعاتِ الزواجِ إنما فُرِضَتْ لمصلحةِ الأسرةِ والمجتمعِ معًا.
هذا وأثبتت الإحصائياتِ التي أُجرِيَتْ على أطفالِ الشوارعِ أنَّ ما لا يقلُّ عن 90% منهم إنما كانوا ضحايا أُسَرٍ عبثَتْ بها فوضى الزواجِ وفوضى الطلاقِ، وأنَّ كلَّ أنواعِ الجرائمِ الخُلُقيَّةِ والاجتماعيَّةِ التي يُفرِزُها مجتمعُ أطفالِ الشوارعِ، إنما مردُّه إلى تعسُّفٍ في استعمالِ حقٍّ شرعيٍّ، أو فهمٍ لنِصفِ الحقيقةِ الشرعيَّةِ، مع سُوءِ فهمٍ رديءٍ لنِصفِها الآخَرِ، وهو ما أدَّى إلى ما يُشبِهُ حالةَ الانفصامِ بين فقهِ النصِّ وفقهِ الواقعِ.
وسببُ ذلك فيما أعتقدُ، ومِن خلالِ تجاربَ واقعيَّةٍ عديدةٍ هو: حاجزُ الخوفِ بين أهلِ الفتوى من الفقهاءِ والعلماءِ، وبين الاجتهادِ والنظرِ في الحكمِ والدليلِ، بعد النظرِ في محلِّ الحكمِ، وما يَعتَوِرُه من مصالحَ أو مفاسدَ.
ومِن المُؤلِمِ جِدًّا أَنْ أسجِّلَ هنا أنَّ علماءنا ومُفتِينا في القرنِ الماضي كانوا أكثرَ شجاعةً مِن علمائنا اليومَ على اقتحام قضايا وأحكامٍ مَسَّتْ حاجةُ الناسِ إلى تجديدِها والاجتهادِ فيها في ذلكم الوقت.
خُذْ مثلًا اجتهاد علمائنا في أنَّ الطلاقَ الثلاثَ بلفظٍ واحدٍ يقعُ طلقةً واحدةً، رغمَ أننا نجد شبهَ إجماعٍ من علماءِ الأمَّةِ على خلافِه، وأنَّ القاضيَ عبدَ الوهابِ المالكيَّ يراه قولًا من أقوالِ المُبتدعةِ، ويقولُ عنه ابنُ عبدِ البرِّ: «إنه ليس مِن أقوالِ أهلِ العلمِ» إلَّا أنَّ علماءَ الأزهرِ لم يتحرَّجوا في ذلكم الوقتِ من اقتحامِ هذه المُشكلةِ، ومن الخروجِ بفتوى رسميَّةٍ خالفوا فيها المذاهبَ السَّائِدةِ على الساحةِ، ولم يَعدِمْ العلماء أن يجدوا لفتواهم سَندًا من التراثِ الفقهيِّ، فأفتوا بأن هذه الصيغة تقع بها طلقةٌ واحدةٌ.
وقد حَدَثَ هذا الاجتهادُ عام 1929م، في القرنِ الماضي، ودخَلَ كنصِّ قانونٍ في قوانينِ الأحوالِ الشخصيَّةِ. ودارُ الإفتاءِ المصريَّةِ التي استقرَّتْ فتواها على هذا الرأيِ منذُ تسعينَ عامًا تقريبًا؛ تتردَّدُ اليومَ –هي ومجمعُ البحوثِ الإسلاميَّةِ-في اقتحامِ قضايا أكثرَ خطرًا في حياةِ الأسرةِ من قضيةِ الطلاقِ الثلاثِ بلفظٍ واحدٍ، ويمنعُها ويمنعُ أغلب علماءِ الأُمَّةِ حاجزُ الخوفِ الذي تحدَّثْنا عنه، والإبقاءُ على بابِ الاجتهادِ مُوصَدًا أمامَ المهمومين بآلامِ هذه الأمَّةِ، مِمَّا يؤدِّي، أو كاد يؤدِّي إلى انسحابِ الشريعةِ من واقعِ الناسِ ومجتمعاتِهم، والانزواءِ بها في دوائرِ البحثِ والدَّرْسِ.
وقد تفطَّن بعضُ فُضَلاءِ المعاصرين إلى أنَّ إحجامَ الفقهاءِ عن الاجتهادِ سيترُكُ المجتمعاتِ الإسلاميةَ «للآخَرِ» يملؤها بما يشاءُ، وهو: «لونٌ مِن الوقوعِ في فصلِ الدِّينِ عن الحياةِ، أو فصلِ الحياةِ عن الدِّينِ، الذي نتنكَّرُ له كشِعارٍ، ثم نُمارسُه كواقعٍ» .
السادة العلماء الأجلاء!
لابُدَّ من الاعترافِ بأنَّنا نعيشُ أزمة حقيقية يدفع المسلمون ثمنها غاليًا حيثما كانوا وأينما وجدوا، نتيجة الخوف والاحجام من التعامل مع الشريعة التي نصفها بأنها صالحة لكل زمان ومكان، لتقديم إجابات مناسبة لنوازل وواقعات مستجدة، وأيضًا نتيجة غياب الرؤية المقاصدية التي تشوِّش حتمًا على النظرة الاجتهادية، وتأخذ الفقيه بعيدًا عن الحادثة التي يبحث في محلها عن الحكم الشرعي المناسب.. وأيضًا نتيجة الفتاوى المعلبةِ والمستوردةِ العابرةِ للدول والأقطار، ولا تراعي أحوال المجتمعات، ضاربة عرض الحائط باختلاف الأعراف والعادات والثقافات واللغات والأجناس، حتى صارت الفتوى الواحدة يُفتى بها للمسلم مهما اختلفت دياره وتنوَّعت أوطانه وتبدَّلت أحواله من حربٍ وسلامٍ وغنى وفقر وعلم وجهل، فهل يُعقَل أو يقبل أن يُفتَى للمسلم بفتوى واحدة في النوازل المتشابهة من حيث الشكل والمختلفة من حيث الواقعُ واحتمالاتُ الضرر والمصلحة في القاهرة ونيامي ومقديشو وجاكارتا ونيودلهي وموسكو وباريس وغيرها من الحواضر والبوادي في الشرق والغرب؟!
.. .. ..
أمَّا فيما يتعلَّق بموضوع المؤتمر فإنِّي استسمحُ أخي سماحة مفتي الديار المصرية في أن أسجل رأيي في أن مصطلح الأقلياتِ المسلمة، في عنوان المؤتمر، هو مصطلح وافد على ثقافتنا الإسلامية وقد تحاشاه الأزهر في خطاباته وفيما صدر عنه من وثائق وبيانات، لأنه مصطلح يحمل في طياته بذور الإحساس بالعزلة والدونية، ويمهد الأرض لبذور الفتن والانشقاق، بل يصادر هذا المصطلح ابتداء على أية أقلية كثيرًا من استحقاقاتها الدينية والمدنية، وفيما أعلم فإن ثقافتنا الإسلامية لا تعرف هذا المصطلح، بل تنكره وترفضه، وتعرف بدلًا منه معنى المواطنةِ الكاملةِ كما هو مقرَّر في وثيقة المدينة المنورة، لأنَّ المواطنةَ –في الإسلام- حقوق وواجبات ينعم في ظلالها الجميع، وفق أُسس ومعاييرَ تحقِّق العدل والمساواة: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ «لهم ما لنا وعليهم ما علينا»، فالمواطن المسلم في بريطانيا مثلًا هو مواطن بريطاني مواطنة كاملة في الحقوق والواجبات، وكذلك المسيحيُّ المصري هو مواطن مصري مواطنة كاملة في الحقوق والواجبات، ولا محل مع هذه المواطنة الكاملة لأن يوصف أي منهما بالأقلية الموحية بالتمييز والاختلاف في معنى المواطنة.. وفي اعتقادي أن ترسيخ فقه المواطنة بين المسلمين في أوروبا، وغيرها من المجتمعات المُتعَدِّدة الهويات والثقافات - خطوةٌ ضرورية على طريق «الاندماج الإيجابي» الذي دعونا إليه في أكثرَ من عاصمة غربية، فهو الذي يحفظ سلامة الوطن وتماسكه، ويرسِّخ تأصيل الانتماء الذي هو أساس الوحدة في المجتمع، كما يَدْعم قبول التنوع الثقافي والتعايشِ السِّلْمي ويقضي على مشاعر الاغتراب التي تؤدِّي إلى تشتُّت الولاء الوطني، وتذبذب المغترب بين وطن يعيش على أرضه ويقتات من خيراته، وولاء آخر غريب يتوهمه ويحتمي به فرارًا من شعوره بأنه فرد في أقلية مُهَدَّدة، وفقهُ المواطنة إذا نجحنا في ترسيخه في عقول المسلمين وثقافاتهم هو السد المنيع أمام الذرائع الاستعمارية التي دأبت على توظيف الأقليات في الصراعات السياسية وأطماع الهيمنة والتوسُّع، وجعلت من مسألة «الأقليَّات» رأس حربة في التجزئة والتفتيت اللتين يعتمد عليهما الاستعمار الجديد.
أما تأهيل الأئمة للإفتاء فهو أمر بالغ الأهمية، وحسنًا ما صنعت دار الإفتاء المصرية حين انتبهت إلى أهميته وخطره، والحديث يطول في هذا الواجب المتعين، وقد كان للأزهر إسهام في تكوين الأئمة في الخارج وتوعيتهم بالقضايا التي تمس حاجات المسلمين هناك في أكثر من مجال، وتدرب في الدورات التي عقدتها المنظمة العالمية لخريجي الأزهر بالقاهرة ثمانية وثلاثون وخمسمائة إمامًا من أفغانستان وباكستان وكردستان العراق والصين واندونيسيا وبريطانيا واليمن إضافة إلى دول أفريقيا وأمريكا الجنوبية.
فحبَّذا لو حدثَ نوعٌ من التنسيقِ في هذا المجالِ مع المنظَّمةِ العالميَّةِ لخرِّيجي الأزهر حتى لا تبدؤوا من فراغٍ.
الإخوة الأفاضل!
لقد أطلت عليكم ووجب الاعتذار والعذرُ عند خيار الناس مقبول.
شكرًا لحسن استماعكم.
والسَّلامُ عليكُم ورَحمة الله وبركاته؛


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.