يصحوا الأبناء والأحفاد على نحيب ظل يرافقهم منذ ثمانية أشهر، حتى بات طقسًا من طقوس منزلهم المتواضع، الكائن بقرية الصياد شرق نيل مدينة نجع حمادي، شمالي محافظة قنا، فلم تخفي ملامحها التي بدت متماسكة نوعا ما، تهالك أحلامها وآمالها، وضعف نظرها الذي أرهقته الدموع، تنظر إلى زائريها نظرة استجداء ورجاء، تعلقت آمالها بتلابيب القريب والغريب، طرقت أبواب الدجالين والعرافين، بحثًا عن نور عينها وفلذة كبدها، الذي غيبته أمواج البحث عن الزاد في دروب الغربة. لم يكن الحديث عن عيد الأم مع أم فتحي هذا العام يحمل مذاقه عبر سنوات عمرها السابقة، وهي التي جاوزت الستون ربيعًا، توكأت فيها على أبنائها، رغم ما تحمله مقلتيها من جبال صخرها الهم والحزن، وهي تقول "رجعولي إبني نور عيني وتبقى أغلى هدية ". الغياب الأخير قبل عامين ونصف العام، تزوج فتحي محمود أحمد عبد النعيم، المولود في 15 ديسمبر من عام 1994م، والذي لم يتمكن من إتمام دراسته بسبب ظروفه المثقلة بهموم المعيشة، وهو يحلم بالاستقرار وبناء عائلة تنعم بأقل القليل من مقومات الحياة، لينجب طفله الأول، الذي شارف على الفطام لحظة كتابة هذه السطور، والذي جعله يطرق أبواب الغربة والسفر بحثًا عن لقمة عيش له ولأسرته . ولم تكن رحلة الغياب الأخير هي الأولى في حياة فتحي محمود، إلى الأراضي الليبية، بل سبقتها قبل ذلك رحلة عمل استمرت لأكثر من عامين، امتهن فيها مهنة البناء، وحصل فيها على مكاسب مكنته من إتمام زفافه وتموين أسرته، رغم أنها كانت رحلة غير شرعية ومحفوفة بالمخاطر . وفي اليوم الثاني من شهر رمضان المنصرم، قرر فتحي الذهاب مرة أخرى إلى الأراضي الليبية، يرافقه ابن أخيه شعبان، وصديقه محمود، عن طريق أحد الوكلاء غير الشرعيين بمدينة السلوم الساحلية على الحدود المصرية الليبية . وهناك وجد فتحي ومرافقية أن أربعة وثلاثون رجلًا آخرين في انتظارهم، للسفر إلى مدينة "مساعد" الليبية، بواسطة "فلوكة" قديمة، لا تتوفر فيها أدنى معايير السلامة والأمان . وفي تمام التاسعة مساءًا من الليلة الخامسة من الشهر المعظم، تحركت "الفلوكة" بحمولتها التي بلغت 37 رجلًا، تمخر عباب البحر، وسط ظلام دامس، وأمواج متلاطمة، لم تتحملها حالة "المركب المهترئة" فغرقت في قاع البحر بعد أقل من ساعة من انطلاقها، فيلقي 8 ممن كانوا علي متنها حتفهم غرقًا، وينجوا 28 آخرين، ويبقى فتحي غائبًا لا يعلم أحد مصيرة ومسواه حتى الآن . البحث عن الابن المفقود استرجعت الأم المكلومة كيف تلقت الخبر وهي تنادي زوجها الذي غيبه الموت قبل سنوات أن يأتي لينقذ ابنه الصغير، صراخ حفيدها الصغير يملأ الأركان، زوجة على مشارف "الترمل" يهز صراخها وعويلها جنبات المنزل، أشقاء وأبناء عمومة استقلوا سيارة أجرة في رحلة إلى مدينة السلوم، في رحلة طرق للأبواب بحثًا عن الفقيد. هناك ترامت الجثث هنا وهناك، فتش الجميع عن وجه ابنهم المألوف، فلم يجدوه، سألوا الناجين عنه، ابن شقيقه، صديقه المقرب، فأفاد الجميع أن ظلام الليل وتلاطم الأمواج حال بينهم وبين رؤيته . تقدم شقيقه الأصغر ببلاغ إلى قسم شرطة السلوم بغيابه، فأخبره ضابط الأمن المسؤول أنه "مفقود لا محالة"، فيقرع الأهل أبواب مشايخ القبائل، والدجالين والعرافين لمدة خمسة عشر يومًا . الابن مخطوف ومتحفظ عليه بعد مرور ثلاثة أشهر على الواقعة، توصل الأهل إلى أحد سكان مدينة السلوم، عن طريق صاحب مطعم صغير كانوا يأكلون فيه في رحلة البحث عن الفقيد، فيخبرهم أنه يحتاج إلى صورة فوتوغرافية للابن الغائب، وتمر الليالي ثقالا مبطئة، حتى تأتيهم مهاتفة من ذلك الرجل تفيد بأن ابنهم محتجز لدى إحدى جماعات الإتجار بالمخدرات والسلاح، ويخشى الرجل على نفسه إذا ما حاول تهريبه أو الوصول إليه، رغم أنه أكد لهم رؤيته . الاسرة تستغيث استغاثت الأم المكلومة وأسرتها ب"ولاد البلد" حتى تتمكن من العثور على ابنها، ومعرفة مصيره سواء كان حيًا أو ميتًا، وهي تقول "والله ياولدي أنا عميت من كتر البكا، عليه وعلى ولده الصغير"، مطالبة الأجهزة المعنية والمسؤولة بالبحث عن ابنها وعودته إليها حيًا أو ميتًا" وهي تقاوم عبراتها قائلة "رجوع إبني ضنايا هو دا هدية العيد " .