تصوير ومونتاج: هادي سيد كان اسم الطفلة "رحمة أبو العلا" واضحًا في قرار النيابة الإدارية بإحالة 9 من قيادات وزارة الصحة ومديريتها ببني سويف للمحاكمة العاجلة، حيث أثبتت التحقيقات التي استمرت عدة أشهر أن مصرع الطفلة كان بسبب المحاليل الفاسدة التي تورط القيادات في إدخالها لمستشفيات بني سويف، لتتسبب في مصرع 27 طفلًا ودخول آخرين إلى مرحلة الخطر ما بين الحياة والموت. ولم تستطع الأشهر الطويلة التي مرت أن تجفف دموع أسرة الطفلة "رحمة" في قرية البديني بمركز إهناسيا غربي بني سويف، فلا زال والد الطفلة ووالدتها يروون تفاصيل القصة وكأن أيامًا لم تمر على مرارة ما شهدوه من معاناة الطفلة وإذلالهم داخل المستشفيات الحكومية.
يروي أبو العلا عبد اللطيف، والد الطفلة الضحية من قرية البديني بإهناسيا، كيف كانت المحاليل الفاسدة تحمل الموت السريع لأطفالهم وسرت في أجسادهم كالسم، حيث جعلتهم ك"الفراخ التي أصابتها فرة" - على حد وصفه. ويشير الأب إلى أن فقيدته كانت تعاني من سخونة بسيطة، ولكن بمجرد تناولها المحاليل الفاسدة بمستشفى إهناسيا المركزي بدأت التشنجات والدخول إلى مراحل الموت الأولى خلال 24 ساعة فقط، وسادت حالة من الهرج والمرج داخل مستتشفى إهناسيا، ومن يموت منهم يأخذه أهله ويهربون به خوفًا من تشريح جثث الأطفال، ولكن شاء القدر أن تكون "رحمة" من ثلاثة أطفال تم تحويلهم إلى مستشفى بني سويف العام، التي لم يجدوا بها عناية مركزة في ذلك الوقت، فقاموا بتحويلهم إلى مستشفى الجامعة، وكان الأطفال كالموتى على الأجهزة. والد رحمة يعود ليستكمل حديثه قائلًا إنه كان عليه أن يصرف من جيبه الخاص في مستشفى الجامعة على الطفلة، رغم ظروفه المادية الصعبة، حيث يعمل فلاحًا بالأجر وليس لديه دخل يكفيه للصرف على حالة حرجة بشكل مفاجئ، لافتًا إلى أن طلبات المستشفى لم تنتهي في ذلك الوقت ما بين تحاليل وأشعة وأجهزة، إلى أن جاءت اللحظة التي فارقت فيها فلذة كبده الحياة. لم يكن لدى مدير المستشفى أدنى فكرة عما يعانيه الأهالي، فحسب ما يذكره والد رحمة كان يصرخ فيهم قائلًا: "العيل اللي يموت ياخدوه أهله ويمشوا قبل ما نشرحه، وفجأة أصروا على احتجاز جثة رحمة لتشريحها ولأننا لا سند لنا إلا الله أصروا على تشريح الطفلة، وأخذوا منها أعضاءً لتشريحها، وكان هذا أكثر ما يؤلمنا". ما زالت أحلام سلام أم الطفلة الفقيدة، تذكر وقائع الذل الذي ذاقته الأسرة داخل المستشفيات الحكومية المتسببة في الكارثة، وتشريح جثمان الطفلة التي لم تتجاوز الستة أشهر من عمرها، قائلة: "المفروض إن المستشفيات موجودة لنجدة الناس وليس لموتهم، لكننا انتظرنا من الثامنة صباحًا حتى بعد الظهر والأطفال تموت دون أي مساعدة أو نجدة من أحد، وبمجرد إعطائهم المحلول أصيبوا بتشنجات وإغماءات". وتكمل: "لم نكن قادرين على عمل أي شىء إلا طلب النجدة من العاملين بالمستشفى، ولكننا فوجئنا بهم يحضرون الأمن للتعدي على أزواجنا، حيث كانت أمهات كثيرة محجوزة بأطفال آخرين ولكنهم غادروا المستشفى بمجرد وفاة أطفالهم دون أي إجراءات". وتضيف أحلام أن الطفلة تعرضت للكثير من الأذى قبل وفاتها بسبب محاولات استخدام كالونات محاليل جديدة داخل جسمها، إلا أن جسدها لم يعد يستفيد من أي محاليل جديدة بسبب سموم محلول الجفاف الفاسد، وفي كل دقيقة تطلب مستشفى الجامعة أدوية وحقن وأشعة وتحاليل وغيرها، ولم تفلح مصروفات تجاوزت الثلاثة آلاف جنيه في إنقاذ الطفلة. وتوفت الطفلة وأصروا على تشريح جثمانها، لتنتظر الأم أمام المشرحة من الصباح حتى الثامنة مساءً حتى خروج جثمان طفلتها، وتقول: "أرسلوا زوجي لاستخراج شهادة وفاة من إهناسيا، وتعرضنا للمرمطة واستدعوا لنا الأمن وقلنا حقنا عند ربنا". وبنبرة يملأها الحزن والأسى تقول والدة الطفل إنها لن تفرط في حق ابنتها، حيث أنها تأذت لما تعرضت له الطفلة من تشريح وأكثر من 10 أيام من الذل في مستشفيات المحافظة الحكومية شاهدنا فيها أسوأ معاملة، وفي اليوم الذي طلبوا فيه منا استدانة 10 آلاف جنيه للتوجه بالطفلة إلى القاهرة كانت "رحمة" فارقت الحياة. "ياريتني ما وديتها المستشفى.. دي ولية وتعبت وشقيت فيها ولازم اللي قتلوها يتحاسبوا ويدفعوا التمن".. هكذا اختتمت والدة الطفل حديثها ل "ولاد البلد" وهي تغالب دموعها، مشيرة إلى أنها لن تترك حق ابنتها الطفلة البريئة التي عذبوها بالمرض والتشريح قبل أن يتوفاها الله. ربيع الحلفاوي محامي أسرة الطفلة رحمة، يشير إلى أنه وفقًا للمعلومات التي جمعها في القضية، فإنه تم توريد 90 ألف عبوة غير صالحة للاستخدام الآدمي والصحي إلى وزارة الصحة، وذلك من خلال شركتين أدوية قاموا بالتحايل على القانون لإدخال هذه العبوات، وكان يخص بني سويف من هذه المحاليل 5 آلاف عبوة والتي تسببت أحدها في وفاة الطفلة "رحمة". ويضيف إلى أن التحاليل والعينات الرسمية أثبتت غياب البوتاسيوم والصوديوم والنيتروجين بنسب مختلفة، وهو ما أدى إلى إحالة 9 من قيادات الصحة إلى المحاكمة العاجلة، لافتًا إلى أن هذا غير كافي من وجهة نظره، حيث أن القرار نفسه تأخر كثيرًا وهو الإجراء الشكلي، وأنه بالبحث والتحري اكتشف أن الشركة تحايلت على مسؤولين بوزارة الصحة بالمخالفة للوائح والقوانين لإدخال هذه المحاليل الفاسدة برقم مخالف لرقم المحلول نفسه. ويوضح محامي الأسرة أن التحقيقات أثبتت تورط قيادات أخرى سيتم إضافتهم إلى الدعوة القضائية والرجوع عليهم بالحق المدني لتورطهم المباشر في قتل هؤلاء الأطفال، علاوة على المطالبة بأقصى عقوبة، إلا أن المواد القانونية في الوضع الحالي تصنف تحت بند القتل الخطأ، وفقًا للمادة 234 من قانون العقوبات، وأقصى عقوبة فيها ستكون 7 سنوات، إلا أن قضايا أخرى أثبتتها النيابة سيتم ضمها إلى ملف القضية من بينها تهمة التزوير وإدخال منتجات غير صالحة للاستخدام، وجريمة التحايل والأمل في القضاء أن يعيد حقوق هذه الأطفال وأسرهم.