بصفة عامة ما تزال المناصب العليا في ألمانيا الموحدة حكرا على الألمان الغربيين، لكن في قمة الهرم السياسي للبلاد يتربع سياسيان من شرق البلاد. ورغم انحدارهما من الشرق إلا أن هناك اختلاف كبير في طريقة تفكير كل منهما. يبدو أن القيادة السياسية في ألمانيا ليست بيد أشخاص من شرق ألمانيا، في حين ينحدر كل من المستشارة ميركل والرئيس الاتحادي جاوك من شرق البلاد. ولكن حتى بين الشخصيتين يمكن ملاحظة بعض الفوارق في رؤية الأمور. نهاية شهر أغسطس الماضي تفاقمت أزمة اللاجئين. في البداية لم تأخذ المستشارة أنجيلا ميركل موقفا محددا إزاء ذلك، ولكن مع انتقادات الإعلام والمواقع الاجتماعية لها تكلمت المستشارة بشكل واضح وشجبت أعمال العنف ضد اللاجئين، والتي حدثت في هايدناو بولاية ساكسونيا، كما زارت مخيما للاجئين وأعلنت فجأة عن فتح الحدود الألمانية لمجموعة من اللاجئين الذين كانوا قابعين في المجر من منطلق العمل إنساني ولكن كحالة أحادية. هناك حالات يمكن من خلالها التعرف على انتماء المستشارة لشرق ألمانيا (جمهورية ألمانيا الديمقراطية سابقا): فهي متحفظة ومتريثة وتنتظر مسار الأمور قبل أخذ القرار. عالم النفس هانس يواخيم ماز يرى في ذلك انعكاسا لعدد من الخصوصيات لدى مواطني شرق ألمانيا، ومنها عدم الرغبة تصدر المشهد، حيث يكون المرء عرضة للانتقادات. وينطبق ذلك على ميركل، بحسب المحلل النفسي، فهي '' تنطلق في مواقفها من الحذر وليس من شجاعة اتخاذ القرار''، وهي أي ميركل تتبع في منصبها هذا عكس ما ينتظر من سياسي من غرب ألمانيا، حيث ليس لديها ''نرجسية سلوك الهيمنة'' يذكر أن هانس يواخيم ماز عمل كطبيب للأعصاب فيما كان يعرف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية، وألف كتاب '' تراكم العواطف'' عام 1990 تناول فيه الترسبات الناتجة عن القمع في نفسية المواطنين بالشرق الألماني. إستراتيجية الصمت من أجل البقاء يعتبر عدد من الذين كتبوا عن حياة انحيلا ميركل أنه ''من المحاسن المهمة العائدة إلى زمن جمهورية ألمانياالشرقية أن المواطن كان يتعلم السكوت، لأن ذلك بمثابة استراتيجية للبقاء حيا''. وكانت الناشرة جيرترود هولر التي حظيت سابقا بثقة المستشار الأسبق هلموت كول قد انتقدت في مؤلفها ''نظام ميركل'' عام 2012 ، بأن هذا النظام '' أدى إلى اضمحلال التقاليد السياسية في ألمانيا''. ولكن مقارنة بالمستشار السابق هلموت كول، الأب الروحي لميركل، ألم يعمل هذا الأخير على ترحيل حل المشاكل بشكل ملحوظ؟، فهو لايزال حتى الآن يرفض رفضا باتا عدم الإفصاح عن أسماء من قدموا تبرعات مالية غير مشروعة لحزبه. ليس النهج السياسي المتحفظ الذي تنتهجه ميركل هو الفارق الوحيد عند المقارنة بينها وبين الذين تقلدوا منصب المستشار من قبلها، بل أيضا عدم اكتشاف موقف معين لها. أحد البرلمانيين من حزب اليسار كشف عن تنظيم 600 استطلاع للرأي بطلب من المستشارية، منذ تولي ميركل منصبها هذا، وقد يكون ذلك بمثابة الأساس في نهجها السياسي. وحتى يوأخيم غاوك الذي كان قسا قبل أن يصبح مديرا لإدارة ملفات الشرطة السياسية ثم رئيسا لجمهورية ألمانيا الاتحادية، قال ذات مرة إنه: ''يحترم ميركل ولكنه لا يمكنه معرفتها حقا''. جاوك معلم متنقل في طريق الديمقراطية بالنسبة ليوأخيم جاوك يختلف الأمر، حيث إنه يستنبط مكانته وقوة موقعه من المسار التاريخي لحياته، حيث تم ترحيل أبيه في الخمسينات من جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة إلى أحد معسكرات العمل القسري. واعتبر جاوك في أحد كتاباته أن ذلك شكل ضربة فاصلة بين أسرته ودولة شرق ألمانيا. كما يعتبر أن الكنيسة تشكل موطنا له مما جعل المخابرات تعتبره شخصا معاديا للشيوعية عن قناعة. كما يعتبر جاوك نفسه ك '' كمعلم متنقل في طريق الديمقراطية''، وتجلى ذلك خصوصا عندما حذر عام 2014 من الائتلاف مع حزب اليسار الذي هو في رأيه ''لم يقم بعد بتقييم ماضيه المرتبط بنظام الحزب الواحد في جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة''. يتجلى تفوق ميركل في شعبيتها لدى جزء كبير من المواطنين، حيث إنها تعتبر متواضعة وغير متعالية مقارنة بعدد من السياسيين. غير أن الطبقة السياسية تفتقد لوجود صورة واضحة لديها، منطلقة من الخلفية الثقافية السائدة في منطقة حوض الراين. فحياتها في ألمانياالشرقية تميزت بمسارها العلمي وبما قامت به من أنشطة في تنظيم رحلات الشباب مثلا خلال حكم الحزب الواحد. ورغم أن والدها كان قسا وعاشت في محيط منتقد للحزب الواحد الحاكم وأمكنها مشاهدة التلفزيون الغربي، فلم يكن لها الشجاعة للمعارضة كما تؤكد هي أيضا بنفسها. بعد مساهمة الثورة السلمية في دمج الباحثين والقساوسة والمهندسين في العمل السياسي خلال قترة اضمحلال جمهورية ألمانياالشرقية اكتشف المستشار الأسبق هلموت كول انجيلا ميركل التي لعبت مهمة تمثيل الكوتا، أي الحصة النسبية للشرق الألماني داخل حكومة ألمانيا الموحدة. وذكرت ميركل أنها كانت تفكر بداية في الانخراط في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، ولكنها قررت نهاية الأمر الانخراط في الحزب الديمقراطي المسيحي. ويتوافق ذلك مع بعض الاتهامات الموجهة إليها بالعمل على تمويه مواقف حزبها من خلال سرقة أفكار من الحزب الاشتراكي الديمقراطي. ميركل تعلمت سريعا أنظمة التعامل في الغرب واستوعبتها. ويعتبر الناشر نيكولاوس بلوم الذي أجرى حوارات كثيرة مع ميركل ورافقها في كثير من الرحلات أن خلفيتها الألمانية الشرقية لم تلعب في مسارها السياسي سوى ثانوي. ويصف الناشر جيرد لانجوت بأن ميركل كسياسية تعكس صورة مجموع ألمانيا، فهي تعتبر من طرف العديد من المواطنين في غرب ألمانيا بأنها ''ألمانية شرقية''، كما يعتبرها الكثيرون في شرق ألمانيا على أنها ''ألمانية غربية''. وهي تحاول أيضا إيجاد توازن في العلاقات السياسية الدولية أيضا، كما يعترف لها بذلك السياسي جريغور جيزي من حزب اليسار والذي ينحدر أيضا من ألمانياالشرقية السابقة. ميركل أظهرت شجاعة أكبر فيما يتعلق بالعلاقات مع روسيا. ففي الوقت الذي كان فيه رئيس ألمانيا الاتحادية يوأخيم غاوك يتجنب لقاء بوتين، تسعى ميركل، التي تتحدث اللغة الروسية جيدا، إلى القيام بما يمكن القيام به من خلال التفاوض والوساطة والمحافظة على التواصل.