''السبت 26 يناير 1952''.. استيقظت القاهرة على ألسنة اللهب تشتعل في أرجاء بنايات العاصمة الجميلة، واشتعلت معها روح الثورة في نفوس الجماهير؛ شهور مضت على خروج الجيش من ''حرب فلسطين'' صفر اليدين، وهزيمة نكراء طأطأت بالرؤوس، وذاعت معها فضيحة الأسلحة الفاسدة، وتواطؤ القصر فيها، حكومات انتقالية متتالية زادت أحوال البلاد تدهورا، ونفوذ إنجليزي سيطر على القصر الملكي، وفقد ''الملك'' وسيلة حواره مع الشعب. ''حريق القاهرة''.. 61 عاماً مرت على هذا الحادث الكبير في تاريخ العاصمة المصرية، أتى على عدد كبير من المنشآت الهامة والحيوية في العاصمة الأكثر حيوية وازدحاماً وثراءً وتنوعاً بين عواصم العالم قاطبة في ذلك الوقت، ألسنة النيران أتت على 700 محل ودار سينما وكازينو، وكان بإمكان الواقف بشرفات ''قصر عابدين'' رؤية ألسنة النيران في شوارع ''وسط البلد'' وعماد الدين وما حولها من الشوارع المكتظة بالسكان والباعة والبضائع الفاخرة. ''عمر أفندي، شيكوريل، الصالون الأخضر''.. كانت وقتها من أفخم المتاجر في قلب العاصمة، دمرت محتوياتها بالكامل، دور سينمات ''ريفولي، راديو، ديانا، ميامي، مترو''، كذلك كان المعروض فيها فيلماً مرعباً من النيران وأبطاله هم رواد تلك الدور في حفلات 12 ظهرا، مكاتب منطقة ''وسط البلد'' تفحمت، نوادي ومطاعم ''جروبي والأمريكين'' بناصية ''عماد الدين'' كذلك أصبحت خراب. ''الفاعل لا زال مجهولا''.. وسرت إشاعات بأن القصر هو من دبر تلك المكيدة لإحكام قبضته على البلاد، وفرض حكومة بعينها على الشعب، ومنهم من قال أن الجيش هو المدبر لتأليب الشعب على القصر ودفعهم للغضب والتحرك بصف الجيش إذا ما قاموا بالثورة، ومنهم من ألصق التهمة بجماعة ''الإخوان المسلمين'' انتقاما منهم لمقتل مرشدهم الأول ''حسن البنا'' بإيعاذ من القصر نفسه على مرأى ومسمع من الجميع، ولم يخلوا طرف ''الإنجليز'' من إلصاق التهمة بغرض تشويه صورة الملك وإحراج الحكومة وإعادة التدخل من جديد في شئون البلاد؛ خاصة بعد إلغاء حكومة النحاس لمعاهدة 1936 قبل الحادث ب''10 أيام فقط''. نتائج الحريق سياسيا كانت تقديم حكومة ''النحاس'' لاستقالتها، ولم يتقبلها القصر وتم تعيين ''النحاس'' حاكما عسكرياً للبلاد، وجاء وزير الداخلية ''فؤاد باشا سراج الدين'' بإعلان الأحكام العرفية في البلاد، ومنع التجول في القاهرة والجيزة، وإلقاء القبض على التجمعات البشرية التي يزيد عدد الأشخاص فيها عن خمسة. في مذكرات اللواء ''محمد نجيب'' كتب:'' الخسائر البشرية تمثلت في 46 مصرياً احترقت أجسادهم أثناء محاولتهم الفرار من ألسنة اللهب وعواميد الدخان، و كذلك 9 من الرعايا الأجانب المقيمين بمصر، سواء العاملين في منطقة وسط البدل، أو مرتادي نوادي السيارات ودور السينمات أو المتاجر حينها، إلى جانب أكثر من 550 مصاباً بين كسور وحروق متفاوتة'' .