في نهاية السبعينيات من القرن الماضي وفي إحدي القري المطلة على النيل... كانت الحياة تتوقف تماما قبيل المغرب فعمال شركة النسيج قد عادوا إلي منازهم وكذا الفلاحون و التجار والطلاب وكافة أهل القرية علي وشك الدخول في سبات عميق فالجميع في تلك الفترة الزمنية يستيقظون مع آذان الفجر وينهمكون في العمل داخل حقولهم أو خارجها... لذا عندما تختفي الشمس في جوف الليل يلزم كل فرد منزله خاصة في ظل عدم وجود تيار كهربائي من الأساس... فالاعتماد الكلي في الإنارة علي مصابيح الكيروسين أو علي لمبات الفتائل (المِشْعِلة) أما الطاقة فمصدرها الرئيس هو حطب الذرة والحطب الهندي (عيدان القطن) - أيام ما كان هناك قطن! - وطبعا قش الأرز... وتسير الحياة بسيطة هادئة وئيدة... والجيران يتداخلون مع بعضهم في نسيج واحد فبالكاد كنت تستطيع أن تفرق بين أهل البيت الأصليين وبين جيرانهم... فهم يجتمعون علي نقش الكعك وبَلّ الشربات في الأفراح والأعياد كما يجتمعون بالملابس المتشحة بالسواد في الأحزان والمُلِمَّات... كذا يصطف الرجال لتنظيف البهائم علي شاطئ النيل وعلي مقربة منهم تصطف النساء مشمرات سواعدهن وأرجلهن لغسيل الملابس والمواعين (أدوات الطبخ)... وكانت القهاوي هي المتنفس الوحيد للرجال والمصاطب وعتبات المنازل هي مجتمع الغيبةو النميمة للنساء... والكل بلا استثناء سعيد بحياته ولا يتوق لأي شيئ من حياة المدينة... ووسط تلك الأجواء المميزة لتلك القرية استيقظ الجميع علي صويت حاد مزلزل!!! وهرعوا إلي مصدر الصويت فوجدوا ما هالهم وأصابهم بالرعب... فعلي الأرض وفي منتصف جسر النيل توجد جثة مقطوعة الرأس ومقطعة الأوصال... وبالنظرة الأولي يظهر من من شكلها الخارجي أنها لرجل غريب عن أهل البلدة... وعلي الفور استدعي العمدة شرطة المركز من خلال تليفونه ذي المَنَفِلَّة... وبعد المعاينة المبدئية اتضح أن الجثة بلا أوراق رسمية تثبت هويتها... وبدأت تحريات المباحث والتي لم تصل لشيئ يُذْكَر... و بعد بحث وعناء استمر لأيام عديدة... ظلت هوية تلك الجثة مجهولة فلا يوجد أيدي لرفع البصمات ولا رأس للاستدلال علي ملامح القتيل... ولم تكن في هذا التوقيت تقنية تحليل بصمة الحمض النووي رائجة ومنتشرة خاصة في القري والكفور... وكأن القاتل تعمَّد إخفاء ملامح القتيل لشيئ ما في نفسه... ودارت في رؤوس كل من بالقرية أسئلة عديدة لا تجد لها حلا... لمن تلك الجثة؟! ومن القاتل؟! وما هدفه من القتل؟! ولماذا مثَّل بالجثة بهذا الشكل المقزز المفزع؟! ثم أين الرأس والأطراف؟! كل تلك التساؤلات تدور في ذهن الجميع ولكن السؤال الرهيب الرعيب والذي لم يجرؤ أحد أن يتفوه به: هل تكون تلك الجريمة حادثا عارضا أم أن القدر يخبيء لنا شيئا آخرا؟! وترك الجميع تلك التساؤلات للشرطة وللأيام لتجيب عليها... ولكن الذي لم ولن يستطيعوا تجاهله هو : هل يا تُرَي سنستطيع المرور علي مكان الجثة مرة أخري أم لا؟! خاصة أنها قتلت علي جسر النيل وهو طريق القرية الأوحد!!! إذا لا مفر ولا مناص ولا ملجأ... وكعادة القري البسيطة حالا ومالا وثقافة يكون من السهل الترويج للخرافات والأساطير والأكاذيب... فانتشرت إشاعات عديدة داخل القرية... من أمثال: أن هناك عصابة تقطع الرؤوس لتستخرج كنزا فرعونيا دفينا... أو أن هناك مافيا لابتزاز الناس واغتصاب ثرواتهم... أو هناك عفاريت وشياطين تنتقم من أهل القرية لأن أحدهم تسبَّب في أذي لواحد منهم... إلي غير ذلك... وبالفعل سيطرت حالة من الرعب علي أهل القرية... ولكنهم واصلوا أعمالهم بشكل طبيعي وإن كان في ذهن كل منهم منظر الجثة وما حِيكَ حولها من قصص وأساطير... ومرت الأيام تَتْري... وعادت الحياة رتيبة كما كانت... للدرجة التي معها نسي الناس الحادثة وكأنها ما كانت... وفي يوم ظليم عاد شاكر من عمله راكبا دراجته ممتطيا صهوة جسر النيل... وهو يتلو كعادته بعضا مما تيسر له من قصار السور... وفي منتصف الطريق وجد ورقة شجر تسقط علي قفاه فبتلقائية شديدة وضع يده علي قفاه وأزاحها... ولم يبالِ وواصل السير... ولم يلبث إلا وورقة أخري تسقط علي قفاه مرة أخرى... فتعامل معها كما فعل بأختها... ولكنه هذه المرة بدأ القلق يتسرب إلي قلبه... ولكنه واصل السير ومع ارتفاع منسوب الأدرنالين وخفقان قلبه بدأ عقله يعمل في سرعة لتفسير سر تلك الورقة... خاصة أنه ما أن يزيح واحدة إلا وجد غيرها تعانق قفاه!!! ولم يجد مفرا من أن يسرع التبديل والتدريج بدراجته وكأنه يسابق الريح... وألهمه عقله إلي الاحتفاظ بورقة شجر في جيبه ليتفحصها عند العودة للبيت... وبعد ابتلاعه لريقه والتقاطه لأنفاسه... دخل غرفته بهدوء وتعمد ألا يوقظ زوجته وقام بتغيير ملابسه وعقله ما زال متعلقا بتلك الورقة ومشتاقا لسَبْر كُنْهِها... ومد يده بحذر ليخرجها من جيبه حيث وضعها وكانت المفاجأة... لم يجد لها أثرا وكأنها تبخرت... وقبل أن يبدأ في إعمال نظرية الاحتمالات وجد في يده شيئا لزجا له قوام غليظ وتنبعث منه رائحة مميزة غير مريحة... وقفز عقله عندما دمج بين القوام اللزج وتلك الرائحة... فلم يكذب خبرا فنهض سريعا خارجا من الحجرة حيث الصالة... وعلي ضوء المصباح الكيروسيني العتيق أضاف لذلك الشيئ الذي لوَّث يده لونا مميزا... وهنا أدرك بدرجة كبيرة ماهيته... ووقتها ارتج جسده وارتجفت أوصاله... ياربي ما هذا؟! أهذا معقووول؟! دم.. دم.. دم! كررها وعقله لا يجد لهذا الدم تفسيرا... فأخذ يتحسس جسده عله يجد فيه جرحا نتج عنه هذا الدم... لكنه لم يعثر علي حتي وخز إبرة!!! فدلف إلي الحمام وخلع كافة ملابسه وهنا كانت الصاعقة!!! وجد بنطاله ملوثا بالدماء من أسفل إلي ما قبل الركبة!!! تساؤلات كثيرة دارت بخلده كساقية لا تتوقف... وقبل أن يجد لأحدها إجابة أو حتي تفسيرا شبه منطقي... إذ بورقة الشجرة تطير أمامه وتستقر علي قفاه... وهنا بلغ الفزع به مبلغا لدرجة جعلته يصرخ صرخة يكاد يسمعها من بالقبور... أفاق شاكر فوجد نفسه ممدا علي سريره ومرتديا ملابس النوم وبجواره زوجته وأولاده وبعضا من إخوته وأهل الحارة... كان الجميع ينتظر بلهفة بالغة لحظة الإفاقة... لكي يطمئنوا عليه بالطبع وليحكي لهم عما أصابه... ولكن خاب ظنهم فأول شيئ طلبه شاكر هو أن يحضروا له ملابسه التي كان يرتديها بالأمس... فأخبرته الزوجة بأنها في الغسيل... وعندما همَّ أن يسأل عن بقع الدم التي لطخت بنطاله... إذا بزوجته أمامه وحاولت بكل جهدها أن تشوِّش علي كلامه حتي لا يفهمه أحد من الحضور... ثم ما لبثت أن استأذنت الجميع أن ينصرفوا مُعَلِّلَة ذلك لهم بأن شاكر يهذي ويحتاج لمزيد من الراحة... وبمجرد خروجهم جلس شاكر علي طرف سريره متحفزا... وقبل أن يتكلم... صدمته زوجته بسؤال غير متوقع: لماذا قتلته؟! - قتلته! ... قتلت من؟! وهنا أخبرته زوجته عن مقتل أحدهم بنفس طريقة قتل الرجل السابق منذ شهور... بل وفي نفس المكان... دارت الدنيا بشاكر وأخذ يسترجع أحداث الليلة السالفة.. ولكنه لم يتذكر سوي ماحدث له... ولا علاقة له بقتل أو غيره... وقبل أن يعقب... عاجلته الزوجة : علي العموم أنا حرقت (الهدوم) ... بس فيه حاجة غريبة مش عارفة لها تفسير... هنا اعتدل شاكر في جلسته وبدا عليه الاهتمام وأطرق لها أذنيه وكأنه يستحثها علي الإكمال... وبالفعل قالت: وجدت في جيب البنطلون ورقة... - ورقة؟! أي ورقة؟! - ورقة شجر... بس شكلها غريب... مش عارفه ليه حاسَّه زي ما تكون كده يعني... - كده يعني... إيييه ؟! - يعني كده والعياذ بالله... عفريت! هنا أسقط في يد شاكر وبات لديه يقين بأن تلك الورقة بالفعل... والعياذ بالله... كما قالت زوجته.... عفريت! مرت أيام علي الحادثة الأخيرة ولم تعثر الشرطة علي الجاني... ولم تتعرف أيضا علي هوية المجني عليه! ولولا أن زوجة شاكر تثق فيه تمام الثقة لساورتها الشكوك فيه... أما شاكر فقد أقسم في قرارة نفسه أن يكشف للكل لغز القاتل الخفي حتي لو كلفه ذلك حياته... فأخذ أجازة من عمله واستأذن زوجته و كان يخرج من بيته كل ليلة متخفيا... واختار موقعا متميزا من جسر النيل وحرص علي أن يكون بعيدا عن العيون... وليلة تلو أخري ولا جديد... حتي قربت أجازته علي الانتهاء... وقد داخله بصيص من اليأس معترك في داخله مع شعاع من الأمل... وكيانه كله يؤكد له أنه سيصل... وقبل ذلك وبعده ثقته الشديدة في معية الله... وفي الليلة الأخيرة وقبل الفجر بسويعات وهو مازال قابعا في مخبئه في بطن الجسر... إذ سمع صوتا خافتا ما لبث أن ازدادت حدته... وإذا به يري علي ضوء النجوم الخافت رجلا أقل ما يوصف به أنه عملاق ويمسك بيده رجلا آخرا أقل ما يوصف به أنه بالنسبة للرجل الأول مجرد قزم... وإذا به يُرْكِعَه على ركبتيه... وسط توسلات ضارعة ونشيج مكتوم سرعان ما تحول إلي بكاء ونحيب من الرجل القزم أو الذي هكذا يبدو! وعلي ما يبدو فإن الرجل العملاق لا يسمع ولا يتكلم بل ولا يفكر وأن قلبه صار حجرا صوانا... لذا هوي علي عنق الرجل المسكين بساطور ليقتلعها من منبتها... ولكنه وجد شاكر يمسك بكل عزمه بيده التي تمسك بالساطور محاولا منعه... وبالفعل نجح... وولي الرجل الضعيف هاربا فهو لن يجد فرصة أعظم من تلك... والتفت العملاق وهو في منتهي الغضب إلي شاكر... ونظر إليه نظرة كلها رغبة عارمة في الانتقام ممن أضاع عليه فريسته... وأمسك بساطوره وهوي به علي عنق شاكر الذي استسلم لقضاء الله وتمتم بالشهادة... ولكن أيدي أخري أمسكت بيد العملاق ولكنها هذه المرة كانت أيدي رجال الشرطة... والتي كانت تراقب الموقف عن كثب بعد أن أبلغتهم زوجة شاكر حبا لزوجها وخوفا عليه... تمَّ توجيه الشكر لشاكر والحكم علي العملاق بالإعدام شنقا... وقد تبيَّن من التحقيقات أنه سفاح مصاب بمرض نفسي يجعله يُمثِّل بجثث ضحاياه... وعاد الهدوء للقرية... وإن تحول جسر النيل إلي أرض خصيبة لنسج الحكايات والأساطير وقصص الجان والعفاريت... ولكن الوحيد الذي لم يهنأ له بال كان... شاكرا. وكيف يرتاح ولغز ورقة الشجرة لم يُحَل بعد... فقرر كما خاض معركته مع الإنس أن يخوضها مع الجان... ولكنه تراجع في اللحظة الأخيرة فالأمر بالنسبة إليه مجرد خرافات لا أكثر... وفي نفس الوقت الذي قرر فيه ذلك... كان عقله وكأنه شبكة إلكترونية قد تم اختراقها وتهكيرها... وأبَي مخترقها إلا أن يدفعه دفعا للمواجهة... وبالفعل وصلت رسالة التحدي هذه إلي شاكر فوافق عليها ولكن.... بشروطه هو!!! اتفق شاكر مع كثير من أهل القرية علي التجمع ليلا علي جسر النيل في نفس مكان جرائم القتل وقد وعدهم بتحطيم أسطورة العفاريت التي سيطرت عليهم وأقلقت مضاجعهم إلي الأبد... وحانت اللحظة الفارقة حيث وقف شاكر عاقدا يديه علي صدره ومعلنا التحدي وتعمد أن تبدو عليه أسمي مظاهر الثقة ورباطة الجأش... ومرت اللحظات بطيئة علي الجميع ولكنها مرعبة مزلزلة لنفوسهم في ذات الأمر... ولا جديد علي السطح... واستعد الجميع للانصراف... ولكنهم تسمَّروا في أماكنهم عندما وجدوا شاكرا وهو يهتز ويرتج كمن أمسك بكابل ضغط عالٍ... وأيقن الجميع بهلاكه فقرروا أن يتركوه يواجه مصيره فهم لا حول لهم ولا قوة... وفجأة صدرت ضحكة عالية ارتج بها المكان... ضحكة في قوتها وكأنها صادرة من أعماق سحيقة في فراغ شاسع... ولكنهم لاحظوا أن صاحب هذه الضحكة هو... نعم هو... شاكر !!! فالتفتوا جميعا في وقت واحد ليجدوه في غاية السعادة وعلي وجهه إشراقة الصباح برغم أنهم في غسق الليل! ونطق بكل إيمان: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّه}. قالها ومشي وفي يده ما يطحنه بكل قوة.... ثم ذراه في الهواء ليضيع في الكون إلي الأبد... إلي الأبد... نعم... كانت الورقة... ورقة الشجرة... ورقة الشيطان!!! وعندما وصل إلي بيته وجد علي بابه رجلا حَسِبَ أنه رآه من قبل وعلي وجهه أمارات الغضب والغيظ الشديدين... فلم يُعِرْه اهتماما وأغلق باب بيته دونه وتركه يزبد ويرغي .....ويتوعَّد.