زميلنا العزيز أشرف محمود الناقد الرياضي المعروف كان المشرف علي دراسات النقاد العرب خلال فترة ما.. اتفق معي علي القاء محاضرات لهم. كان السؤال التقليدي هو: ما هو الفرق بين النقد الرياضي القديم والنقد هذه الأيام؟ كان ردي الدائم انه رغم ان النقد الرياضي في العالم العربي زادت رقعته كثيراً.. ووصلنا الي اتساع الدائرة التي عليها العالم الغربي من تليفزيون خاص وإذاعة متخصصة وصحف يومية ومجلات فضلاً عن وسائل النشر الالكترونية الحديثة إلا أن النقد الرياضي القديم الذي لم يلحق بهذه الرقعة الواسعة من النشر رغم ذلك كان أكثر تأثيراً واعجاباً وتشويقاً وشعبية من الآن. كيف.. ولماذا؟ أقول لكم. عند انطلاق "حمي الرياضة والنقد الرياضي" الذي أصاب مصر ثم الشرق الأوسط في أواخر الخمسينيات كان التنافس والصراع رهيباً بين الصحف اليومية بالذات لجذب أكبر عدد من القراء.. كان الموضوع جديداً علي المجتمعات الشرقية التي كانت تعاني من النظم الدكتاتورية التي الغت الأحزاب وحرية الرأي لذا أصبح الخلاف والتحزب والمنافسة بين الأندية والمنتخبات.. وهنا ظهرت شعبية المستديرة المجنونة بصورة طاغية.. كانت الصحف بالذات تتنافس علي الانفراد بالأخبار والآراء والتحليل الفني ونقد الحكام النقد الموضوعي الصحيح. وأضيف في المحاضرة لاخواني العرب فأقول: الآن مع "شئ من نسيم الحرية" رغم قلته إلا أن كبار الساسة الذين كانوا يرأسون الأندية والاتحادات عادوا لممارسة هوايتهم القديمة وهي السياسة.. في نفس الوقت لم يعد الصراع الرهيب حول الانفراد بأخبار الرياضة له جدوي كبيرة لبدء اهتمام الناس بالسياسة.. في نفس الوقت فتر حماس النقاد الشبان واصبحوا صحفيين روتينيين.. يذهبون الي دور الصحف ليمسكوا بالتليفون وسؤال هذا وذاك عن آخر الأخبار!! ويشربون القهوة وينصرفون!! اصبحوا يوقعون علي ساعة الدخول والانصراف مثل الموظفين الاداريين!! *** أذكر زمان.. قررت اعفاء أعضاء قسم الرياضة سواء في الجمهورية أو المساء من التوقيع علي ساعة الحضور والانصراف وتعجب المرحوم صلاح سالم من هذا القرار وقدم عبد الحميد حمروش العضو المنتدب شكوي ضدي.. يومها قلت للمرحوم صلاح سالم ان المحرر الذي لا يذهب الي الأندية والاتحادات ويتقصي الأخبار غير العادية ألومه وأغضب منه.. أنا شخصياً أنزل من بيتي متجهاً الي مكان أتوقع أن أجد فيه خبراً ننفرد به.. ماذا أفعل في الجريدة وأنا خالي الوفاض من أي خبر أو حتي فكرة سمعتها من مدرب أو لاعب أو اداري أو حتي فراش غاوي كرة!! *** ثم تعلمنا من أساتذتنا القدامي طرقاً "عفريتية".. طرق العفاريت لمعرة ما لا يعرفه أحد. أذكر ان استاذنا أحمد علي مندوب جريدة "الأخبار" في وزارة المعارف العمومية "التربية والتعليم الآن" كان يعطي مرتباً شهرياً لعامل التليفون بالوزارة وفراش مكتب الوزير.. إذا كانت هناك مكالمة هامة للوزير أو حتي الوكيل يدخل علي الخط ويسمع المكالمة ويجد فيها أخباراً.. أما فراش الوزير الخاص فكان يعطي "سلة المهملات" التي تحت مكتب الوزير لأحمد علي ليفرغ ما فيها من أوراق في كيس نايلون وفي مكتبه بالجريدة يبدأ يفرد الورق المكرمش أو يلزق الورق الممزق ليعرف منه كل أسرار الوزير. ذات مرة وكان الوزير محمد باشا العشماوي وجن جنونه أن جريدة "الأخبار" تنشر أسراره الخاصة فجمع كل مندوبي الصحف وشتم أحمد علي بأقذع الشتائم أمام زملائه وطرده خارج الوزارة وطلب من الحرس منعه من الدخول.. اجتمع مجلس ادارة نقابة الصحفيين وقرر عدم نشر صور أو أخبار وزير المعارف العمومية مهما كانت أهميتها في كل الصحف.. بل وفي نشرات الأخبار بالإذاعة.. أيضاً لم يتحمل العشماوي باشا هذه المقاطعة التي وصلت الي قطع صورته إذا ظهرت في صورة جماعية مع آخرين!!.. توسط للصلح رئيس الوزراء وكان المرحوم محمد حسين هيكل باشا رئيس حزب الأحرار الدستوريين فتقرر ان يحضر العشماوي باشا الي النقابة ليعتذر للمحرر أحمد علي أمام زملائه في الوزارة!!.. وقد كان. *** ليست نرجسية إذا قلت انني لجأت لطريقة أخري سرية.. كان اتفاقي مع "مصادر الأخبار" سواء في الاتحاد أو في الأندية.. من يقول لي خبراً هاماً لا يقوله لأحد غيري له مكافأة مادية حسب أهمية الخبر. لعل أهم خبر من أهم شخصية.. كان الاتصال التليفوني في المساء والجمهورية جاهزة للطباعة.. كان من المرحوم علي زيوار مدير الكرة بالأهلي يقول لي ان عبد الحكيم عامر قرر الافراج عن طارق سليم من سجن الاستئناف حيث كان يقضي عقوبة السجن ستة أشهر لقتله فتاة صدمها بسيارته.. والافراج سيتم غداً صباحاً ليلحق بمباراة الزمالك بعد يومين.. أوقفت صفحة الرياضة وكتبت الخبر بالبنط العريض في صدر الصفحة.. وجن جنون أستاذي ابراهيم نوار رئيس التحرير.. لماذا توقفت المطبعة؟؟.. ولما علم بالموضوع اتصل بي ليقول لي: انت نسيت الصحافة.. ده خبر صفحة أولي.. اكتب الخبر في الصفحة الأولي بسرعة!!.. فتحي غانم رفع سقف المكافأة الي 150 جنيهاً واعطاها بنفسه لعلي زيوار.. مرتب الوزير كان أيامها 12 جنيهاً.. مرتب العقيد علي زيوار كان 35 جنيهاً!! *** آسف.. المحاضرات كانت مليئة بالحكايات وربما واصلت الذكريات في الاسبوع القادم. ولكن السؤال لماذا اكتب هذا الموضوع الآن: لأنني تذكرت كل هذا مع نبأ الوفاة المفاجئة وهو في اتم الصحة واحد من خير من عمل بالصحافة الرياضية ألا وهو أخي وحبيبي وصديقي مصطفي عبيد.. ألف رحمة ونور عليه.