إنني هنا .. حيث السكون القاتل وصرخات الصمت تصم الآذان فلا أكاد أسمع سواها وبدأت حصون الأمان تتداعى من حولي .. وأخذت أتفقد المكان من حولي، وتشتتت نظراتي المرتعشة في أرجاء المكان، فما تلبث أن تقفز من ركن إلى آخر باحثة عن شيء مجهول يثير الرعشة في أوصالي. وهنا .. وجدت الظلام يزحف من حولي ومن خلف نافذة تعيسة وجدت ضوء الشمس يتداعى في الأفق وخُيّل إلىَّ أن ذلك القرص المتوهج يرمقني في رقة وأشعة من شفقه تلوح لي .. ومالبثت الشمس أن غابت وكشر الظلام عن أنيابه وهنا كسرت ذلك الهدوء واتجهت إلى أحد الأركان، وأوقدت شمعة وعدت لأحتل مكاني، وأخذت أجول بنظراتي في المكان من جديد، وتوقفت نظراتي إلى ذلك الركن البعيد حيث تلك الشمعة الواهنة التي ارتعش ضوؤها خوفاً من الظلام وقد آلمها الخوف فتساقطت دموعها! إنها الآن رفيقي الوحيد .. غير أنها رفيق لا ينتظر مؤزارته، فسرعان ما سيفنيها الخوف فتغرق في دموعها!! جلت بناظري من جديد علّي أجد شيئاً آخر يبدد وحشتي، ولكن دون جدوى .. فتجاهلت ماحولي وأخذت أبحث في داخلي في دروب عقلي وطيات ذاكرتي .. جُلت وجُلت في دروب متشابكة غير أنني كنت أتخبط في طريقي وكلما شخصتُ ببصري لا أجد غير الأفكار المفزعة التي تحوم من حولي!! وكأن تلك الأفكار قد تحالفت مع المكان .. مع الزمان لتصنع أسطورة رعب تؤرق مجلسي هذا! ومن بعيد وفي زوايا مظلمة من عقلي كانت عيون رقيقة ترمقني في هدوء وترجو لي الخلاص .. قاومت وحاولت الهروب .. وهنا وهنت قواي وسقطت في جُبّ ذاكرتي، وبدأت الأفكار تتزاحم داخلي فأطلقت العنان لها وهنا تحررت تلك الأفكار، ونسجت واقعاً من حولي، لكنه كان واقعاً مُريعا زاد الأمر سوءاً! حاولت أن أتمالك نفسي وأمسك بزمام الأمور، ولكن باءت كل محاولاتي بالفشل وأخذت الأفكار تنساب من داخلي كطوفان أهوج لا يبحث إلا عن الدمار!! تجولتْ في المكان بحثا عن فريسة تقتنصها ولكن أي فريسة هنا غيري؟! ومن ثم عادت إليّ .. . لقد كنت وحيدة في ذلك الظلام المريع .. وظلالٌ من فزع تحوم من حولي وذكريات سوداء تتخبط في مخيلتي وأردت أن أنتزع نفسي من كل هذا ولكن .. هيهات!! إنها ظلال الماضي إنها شرور تتربص بي .. تكشر عن أنيابها وتدفع بمخالبها لتنال مني .. إنها تقترب في هوينة وأنا هنا وحيدة أصارع الخوف وأترقب الموت وآمل في النجاة، وها هى عيناي قد التقت بتلك الأعين الدامية التي تحدق بي وانقضت لحظة من التأمل: نظرات ساخرة، وأخرى حائرة ولكنها جميعاً مترقبة! ماذا أفعل الآن؟! أين المفر؟ هناك حلان: إما أن أهرع إلى الموت وإما أن أنتظره!! ولكن .. لماذا لا أفكر في النجاة؟! ولكن .. إنها فكرة سخيفة متداعية! فمن أين تأتي النجاة؟! وفكرت قليلاً .. كيف يهرب الإنسان من نفسه؟ وكيف أسيطر على تلك الأفكار اللعينة؟ إني أصنعها كي أهابها!! وأخلقها كي تفنيني!! أحاربها كي أخلق أهوالاً أخرى!! أنتظر فرارها كي أبحث عنها!! وهنا تنبهت فوجدتها تقترب مني ووجدت أنيابها تندفع نحو عنقي ونظراتها المتحفزة تكاد تقتلني .. إنها تتصارع من أجل أن تنالني .. وهنا تبدلت نظرتي وسبحت على شفتي ابتسامة ظفر، وطلت من عيني نظرة إعجاب .. إنه ذلك الشعور المريع الذي يمتلكني، لقد انحصرت نظرات الهلع وحلت نظرات التقدير .. إنه تقديري لذاتي لقد صنعت كل هذا!! أنّى لي أن أصنع هذا؟! إنها أفكاري قد جسدتها فأحسنت تشكيلها نعم!! إنها الآن تتربص بي، ولكن هذا لا يغير من الأمر شيئاً، فحتي مع هذا فإنها مازالت جزءاً مني ينمو أمام عيني! لذا فإن هناك شيئاً ما يربطني بها ويجعلني أشعر وكأنها وحوشي الصغيرة تلهو أمام عيني!! وهنا تنبهت لأشعر بآخر أنفاسي يصارع ويتشبث بي، ففتحت عيني لتلتقي بإحدى الأعين الرهيبة وأحسست بالألم يعتصر كياني وفجأة رقصت ابتسامة ساخرة على شفتي .. فبينما أنا أتشبث بالحياة أومأت بعيني فوجدت تلك الأفكار الغبية تتخبط في حيرة، ومالبثت أن تلاشت!! يالتلك الأفكار الغبية!! لقد نسيت أنها جزء مني وأنني مصدر قوتها .. فهذا الجسد الواهن المشرف على الموت إنما هو عائلها وهذا العقل الذي يضطرب حيرة وخوفا إنما هو ملاذها وبفنائي تكون نهايتها! وهنا أغمضت عينيّ في راحة وابتسامةُ الظفر تلوح على محيّاي .. لقد كانت معركة متكافئة!! كلمتنا شهر يناير 2001