فى السابعة من كل يوم يستيقظ الأستاذ عبد العظيم، يأخذ القهوه فى التراس على دقات السابعة والنصف، وهو يستمع الى صوت عزب يشبه الهمس وهو يتلو سورة يس، ويقلب فى الجرائد، فلا تستطيع الجزم بأنها قراءة مدققة فى كل خبر حتى ولو كان هام ولا تستطيع القول بأنها قراءة عابرة، ربما عادة تصفح الجرائد كانت تحكمه هنا. وعلى رأس الثامنة تسمع خطواته الرقيقة المتأنية على السلم، ذاهبا الى عمله. وفى هذه الأثناء تكون الست احسان جالسة فى البالكون، تشيعه بنظرات ممتزجه بالفرح واللهفة والحزن والحيرة فى آن واحد هامسة: -ربنا يحافظ عليك بحق سورة يس. وكان يكرر هذه الأفعال كل يوم و بمنتهى الدقة، ولدقته هذه كثيرا ما كانوا يقولون عليه أنه رجل مثل الساعة. ولكن لماذا لم تنعش العادة الملل عند الست احسان التى كان تستيقظ معه فى السابعة بالدقيقة، وتحدث نفسها بكل فعلة يفعلها هو فى كل لحظة حتى الثامنة ميعاد تشيعها له بالنظرات فقط. وبرغم أنها لم تره قط بعينيها وهو يقوم بمثل هذه العادات اليومية ،لكنها كانت تعمل خيالها، فهى تتذكر جيدا منذ اكثر من عشرين عاما حين أتى اليها والسعادة تكاد تتحدث نيابة عنه ليخبرها أنه أستلم وظيفته الميري، وأعد لها تقريرا دقيقا بما يفعل كل يوم، وهى لم تنسى أي شئ مما قال وهو لم يرهقها ويغير أي شئ يقوم به منذ ذلك التاريخ. وفى الثانية بالتمام تسمع وقع قدميه على السلم عائدا من العمل، وبين الذهاب والعودة تبعث الست احسان خادمتها كريمة لتقوم بتظيف شقة الأستاذ واعداد الغداء له وقبل أن يعود الى منزله تنهى كريمة عملها لأنه لا يطيق الجلوس فى مكان أثناء عملية تنظيفه وكان أيضا لا يهوي مجالس السيدات لأنه كان يأخذ عليهن كثرة الكلام وهو ماكانت بالفعل تتمتع به كريمة، فهى بنت كثيرة الكلام ثرثارة، تتحدث فى المفيد واللا مفيد. وفى الثانية وعشر دقائق يتناول الغداء، ثم يذهب الى سريره، ويستيقظ على القراءة ومشاهدة التلفاز قليلا، فمشاهدته لم تكن فى بؤرة أهتماماته لأنه يري أن التليفزيون كالسيدات ثرثار بلا فائدة فى كثير من الأحيان ومدعاة للنكد لما فيه من أحداث مؤسفة وأعمال دموية وقتل وحوادث الخ، وهو ايضا- فى رأيه- يشترك مع السيدات فى هذه الصفة. وفى المساء يذهب الى قهوة المثقفين الذين انعدموا فى رأيه أو على الأقل صاروا معدودين على أصابع اليد الواحدة، ولكن ماذا عليه أن يفعل أيقطع عادة مثلا؟ كان يذهب الى القهوه يحتسى فنجان القهوة (المظبوط)، ويعود الى منزله أخري. وفى اليوم التالى يكرر الأفعال بدقة شديدة. ………………. وكانت عندما تعود كريمة من تنظيف شقة الأستاذ تسألها الست احسان كيف صارت الشقة وهل طرأ عليها أي تغيير، فهى لم تزرها منذ فترة طويلة، فجلوسها على الكرسي المتحرك اثر صدمة فقدان والديها فى حادث مؤسف جعلها حبيسة البيت لاتري عتبة بابها الا نادرا، وكانت كريمة تجيب بالاجابة ذاتها كل يوم. -ما قولتلك يا ست هانم الشقة زي ما وصفتهالى بالظبط مفيش أي تغيير، اللهم يعنى الأستاذ بيشترى الجرايد طازة كل يوم. وهى لم ولن تنسى معالم شقته، منذ الزيارة الأخيرة حين طرقت بابه ودموعها تكاد تتساقط منها على الأرض، والكلمات تهرب بين ثغريها وتتقطع الحروف، لتعلمه أن الحاج محمود صاحب البيت يريد الزواج منها، وكانت صدمتها الكبري حين أشار عليها بالزواج من الحاج محمود، لأنه هو غير مقتنع بفكرة الزواج من أساسها فهويرى أن الزواج كالثورة يقلب الدنيا رأسا ولا نستطيع التنبؤ بنجاحه أو فشله مسبقا، والثورة تغيير وهو قد لا يطيق هذا التغيير، ولهذا أعلمها اعراضه عن فكرة الزواج منها أو من غيرها، ومن وقتها عاش راهبا. وتزوجت من الحاج محمود وسرعان ما توفى العجوز ونقلت اليها ملكية البيت. وكانت كريمة تؤنس وحدتها وكانت تعاملها كأبنة لأن الانجاب لم يقسم لها، وكانت كريمة أيضا تحبها كثيرا، وكانت تشفق عليها تعلقها برجل لا يشبهنا كثيرا، رجل لا يريد أن يعيش الحياة مثلنا، يخشى كل جديد وكل شئ يقوده الى ارهاق عقله بقليل من التفكير، وبالرغم من جملته الشهيرة التى أعجبتها كثيرا (أن الزواج كالثورة يقلب الدنيا رأسا ولا نستطيع التنبؤ بنجاحه أو فشله مسبقا) الجملة التى كتبها بخط يده وجعلها تتصدر مدخل بيته ، كانت تري أن الزواج قد ينجح هذا هو كلامه، المهم شرف المحاولة والزواج تغيير للحالات والتغيير سنة الحياة، كلام منطقى، ولكنه لم يعجب الأستاذ حين واجهته به ورماها بالجنون كيف يتسنى لها الحديث معه هكذا؟ وفى مثل هذه الموضوعات، وهذا من الأسباب التى جعلته لا يطيق الجلوس معها كثيرا حيث كانت تواجهه بكثير من الحقائق التى يريد أن يغمض عينيه عنها. كانت كريمة ليست عالية الثقافة ولكن لم تكن قليلة الثقافة أيضا فجلوسها مع الست احسان اكسبها ثقافة سمعية بالاضافة الى تلقيها قسط من التعليم كل هذا جعل منها فتاة قادرة على استيعاب الأمور من حولها، وجعلها ليست مغيبة عن ما يدور حولها من أحداث. ……………….. وذات يوم وهو عائدا من عمله، هاله منظر سكان العمارة وهم مجتمعون فى شقة الست احسان، فالزحام يقلقه كثيرا ولكنه لم يهتم بمعرفة الأسباب وهم أن يدخل سريعا شقته التى تجوار شقة الست احسان ولكن كريمة استوقفته. -أه يا أستاذ مش هتيجى تحضرنا، أسكت مش الحي.......... وقبل أن تتم جملتها أشار بيده لتصمت، وأشاح بوجهه عنها وأنصرف، وعادت هى الى شقة الست احسان وهى تتمتم: -خليك كده ملكش دعوة بحاحة لحد متلاقى روحك فى الشارع. -هنعمل أه يا ست أحسان؟ توجه أحد سكان العمارة بهذا السؤال للست احسان. -أنا لازم أروح لرئاسة الحى، وأبلغهم ان امر الازالة ده متعسف، البيت قوي ويتحمل يعيش قد 100 سنة كمان. -كلنا هنروح معاكى يا ست احسان البيت ده لمؤاخذه يعنى مش بتاع حضرتك لوحدك. -متشكرة يا كريمة. تجمع شباب العمارة وذهبوا مع الست احسان الى رئاسة الحى آملين فى الغاء قرار الازالة. وعندما علم الأستاذ بذلك ضحك فى نفسه، وتسائل كيف للمسؤلين أن يستمعوا لنداءات شباب أهوج يطالب بحق شبه مستحيل؟ وبالرغم أنه كان على يقين تام برفض الحى لطلب هؤلاء، لم يتعب عقله ولو لمره بالتفكير فى المصير الذي ينتظره اذا ازيل هذا البيت، فهو مثل كثير من سكان العمارة ليس لديه مأوي آخر. ولكن خابت توقعاته، وأنصاع الحى بعد المعاينة لطلب الست احسان ومن مهعا، واصدر قرار بعدم ازالة البيت. وقررت الست بهذه المناسبة دهان البيت دهانا جديدا، بدلا من الدهان القديم الذي زال معالمه بتقادم الزمن، فبدءوا بمدخل العمارة والسلم وأثناء قيام العمال بالدهان دقت الساعة الثانية، ميعاد قدوم الأستاذ وكالعادة الست احسان تقف فى الشرفة انتظارا لقدومه، وعندما رأته أسرعت بالخروج اليه بمساعدة كريمة، لتري ما رأيه فى فكرة تغيير الدهان القديم، وهى فى طريقها اليه سمعت صوته يتشاجر مع النقاشيين، ويستجوبهم ماذا يفعلون؟ ومن جاء بهم؟ كان العمال ينظرون اليه بشئ من التعجب والاشفاق، فما الجريمة الكبري التى اقترفتها السيده صاحبت العمارة فى مساعيها لتجديد دهان البيت؟ وما جريمتهم هم النقاشيين؟ أهى تزيين الأمكنة واعطائها بهائنا وتجديدا؟ تلون وجه الأستاذ من شدة الأنفعال، أخذ يتحدث وينهرالعمال ، وهم بدورهم لم يجيبوه و ولكنهم اكتفوا بنظرات التعجب التى كانوا يرمونه بها، كانت الست احسان واقفة متخشبة من الصدمة. اشتد الأنفعال عليه، وشعر بضيق فى التنفس وسقط مغشى عليه. وقفت الست احسان على قدميها من الصدمة وعينيها على الأستاذ، واتجه نحوه أحد العمال، وبدأت كريمة فى الزغاريد دون توقف وبانفال شديد والعامل يصيح: -ده مات ، ده مات لا حول ولا قوة الا بالله. وكريمة مستمرة فى الزغاريد بلا وعى وهى تنظر الى الست تارة والى الأستاذ تارة أخري.