ًعلى كورنيش منطقة دمنهور القاهرية فى شبرا الخيمة توجد فى قلب النيل أكبر جزيرة مصرية من أصل 255 جزيرة على مستوى الجمهورية، وتمتد على مساحة 4420 فدانا. هنا جزيرة الوراق، حيث يعيش 50 ألف نسمة تقريبا وكأنهم فى عالم آخر، يدينون بالولاء للنيل وغاية آمالهم أن تكون أخبار طردهم من المكان مجرد شائعة. يقول محمد التمساح أحد سكان الجزيرة : «هذه أرضى، لا أعرف مكانا غيرها، تعلمت هنا وكبرت وتزوجت وشغلى معتمد على وجودها ووجود النيل». محمد لم يزر بلد أجداده فى محافظة الدقهلية بتاتا ولا يعرف مكان فسحة ومكانا للحياة غير الوراق، وهو ما جعله يتذمر فجأة وعلى غير عادته عندما أراد البعض انتزاع أرضه: «طبعا لازم يحطوا عينهم على المكان، فهو يربط بين القليوبيةوالقاهرة والجيزة، وكل شوية تهديدات من الأمن بطردنا، ولكننا تصدينا لهم بوقفة رجل واحد وماقدروش يعتبوا الجزيرة تانى. أمال إيه إحنا هنا عيلة واحدة وأولاد عموم». محمد وإخوته أصحاب أكبر «بيزنس» على الجزيرة، فهم وكلاء المعديات الوسيلة الوحيدة للانتقال للبر. إذن حياته كلها مرتبطة بالجزيرة والنيل إلا أنه قد ينقلب عليهما فى لحظة عندما يرى تكاثر القمامة على شط النيل ويشعر بقلة المرافق. فوق شريط مائى من القمامة تسير نساء الجزيرة حتى المتعلمات منهن، فقد اعتدن النزول خصيصا لغسيل الملابس والمواعين عقب كل وجبة. من يرَ النساء وهن يغسلن المواعين وطريقة عودتهن إلى بيوتهن محملات بالأطباق لا يعى أنهن يمشين فوق النيل بأرجلهن، خاصة وقت انحسار الماء. «المياه هنا كتير والدنيا براح»، تلخص الحاجة صباح «42 سنة» علاقتها بالمكان فى اقتضاب. هى تعيش فى الجزيرة منذ عشرين عاما تحديدا منذ زواجها من زميلها فى مصنع الغزل والنسيج على كورنيش شبرا، اتفقا على الزواج، وحين صادفتهما مشكلة السكن لم يجدا مكانا أرخص ولا أقرب من عملهما سوى جزيرة الوراق. وقالا: «نسكن على النيل ونبدأ من الصفر سوا»، فقاما بتأجير شقة فى الدور الخامس ب200 جنيه. وتدريجيا اعتاد إخوانها الجزيرة وأحبوها فجاءوا من سوهاج ليعيشوا مع أختهم ويعملوا معها بذات المصنع، ثم تزوجوا واحدا تلو الآخر من الجزيرة... يقول عبدالحميد، زوج الحاجة صباح: «عايزين إيه أحلى من أن نصطبح بالنيل، نراه من البلكونة ونعدى من عليه كل يوم لنذهب إلى الشغل فى خمس دقائق بالمعدية». ثم تعقب زوجته: «النيل ده حياتنا! كيف نستيقظ فنجد نفسنا بنستفتح بوجوه بشر أو حيطان فى كل مكان؟ هنا الهوا هوا والميه ميه ولا يوجد تلوث». الكلام نابع من القلب وتلفظه السيدة بحرارة إلا أن ذلك لا يعنى أن الجمال يحيط بنا من كل جانب، فالجزيرة تفتقر للكثير ولا تضم سوى مدرستين ابتدائى وثانوى إلى جانب مستشفى خاص وآخر عام وصيدليات ومحال للكمبيوتر والإنترنت. كما أن «باب النجار مخلع» مثلما يقولون، فمياه الشرب تصلهم ضعيفة وغير صحية، فتنتشر تجارة المياه على الشط الآخر وكله يهون فى سبيل شرب كوب من الشاى «فى الخمسينة» وقت العصارى. على عتبة البيت اجتمعت الحاجة سعدية فى الثمانين من عمرها مع جارتها وبصوت متهالك أخذت تردد: «أنا لا أعرف وطنا لى غير النيل، سأطلع من هنا على القبر، بس ربنا يسامحهم حجبوه عنا». تترقب الحاجة إنذار الطرد من الجزيرة فى شهر يوليو القادم، وتضيف: «هيمشونا لحلوان والفيوم فى سكن تمليك بس هنا المكان أرخص وأحلى، طول عمرنا هنا نزرع بطاطس وذرة وبرسيم. دلوقتى عايزين يرمونا فى الصحراء اللى لسه هتتبنى بس إحنا هنا بنينا الجزيرة خلاص، أخذنا على عيشة الهواء والماء، كلنا عيلة واحدة، كفاية إنه مفيش سرقة زى عندهم بره وكلنا بنتجوز من بعض». ما يؤرق الحاجة سعدية هو حجب النيل وكثرة العمار مع ارتفاع أدوار البناء، لكن أبناءها المتزوجين حديثا فى الجزيرة لا يحرمونها من متعة رؤية النيل، خاصة مع حلول التوك توك كضيف عليهم فى الجزيرة منذ سنة فقط، فهم يستقلونه فى نزهة لكى ترى أمهم النيل وقتما تشاء ثم تعود بتوك توك آخر أو بحمار. الحاجة سعدية مثل بقية السكان تعيش برهبة دفينة من الغد، فهى تخشى اختفاء شىء اعتادته، وأصبح جزءا من حياتها لصالح استثمار سياحى كما يشاع أو بفعل ربانى فى حال غرقت الجزيرة كما حدث منذ وقت ليس ببعيد، فمن قبل تهالكت المنازل خاصة الطينية واستيقظ الناس ليجدوا النيل ضيفا كريما عليهم.. يذكرون على استحياء هذه الأيام مع ضحكات ساخرة، وشتان بين شعورهم بالخروج «القسرى» بفعل بنى آدم والخروج «القدرى» بحكم الطبيعة. بلكونة المنيل ترد الروح إذا اتجهنا جنوبا وعبرنا النيل وصولا للمنيل فستختلف الشكاوى باختلاف السكان وطبيعة الأبراج المطلة على النيل هناك. الكازينوهات تعمل ليل نهار مصدرة أصواتا مدوية حتى الفجر. أميرة الشرقاوى أستاذة بطب الأسنان فى إحدى الجامعات الخاصة وعت على الدنيا فى هذه العمارة ذات الطوابق الست والقائمة بشارع المنيل، تقول: «انتشرت الكافيهات فى كل مكان على النيل وصارت مقصدا لكثير من الشخصيات المرموقة، بين لحظة وأخرى تغلق الطرق والجراجات وكأن الرئيس هيعدى، أما السياح العرب فحدث ولا حرج.. ففى الصيف تشعر وكأن المنطقة ملغمة مما يفقدك حريتك تماما». رغم هذه المنغصات فإن الدكتورة أميرة تحاول أن تصطنع جوها الخاص بعيدا عن التمشية على الكورنيش والمعاكسات، وهى تكتفى بالوقوف على البلكونة مع نفسها فى أى وقت تشعر فيه بالغضب. مع الوقت صار النيل كاتم أسرارها وخزانة الذكريات، والبلكونة هى مملكتها الخاصة. «أنا خلاص تعودت على منظر النيل ويستحيل أن أفكر أنى ممكن أستيقظ فلا أجده». ثم تشرح طبيبة الأسنان كيف أن النيل مصدر مهم للطاقة، قائلة: «علمت مؤخرا أن ثلاثة أشياء تخرج الطاقات الكامنة فى الإنسان: أن يقف على النجيلة الخضراء، أو يسجد لله فى اتجاه القبلة، أو ينظر إلى انسياب المياه، وهو ما يحدث معى بالفعل فكلما أغضب يأخذنى فرد من أفراد العائلة فورا إلى البلكون لكى أهدأ، حتى صديقاتى أصبح بيتنا هو خروجتهن المفضلة». من بلكونة المنيل تنعكس أنوار أعمدة النور والفنادق وتظهر عن بعد أبراج الفورسيزون ومنزل أحمد شوقى على الضفة الأخرى بالجيزة. لارتفاع سعر الشقق المطلة على النيل صارت العمارة سبب فرقة الإخوان الذين تربوا تحت سقف واحد كما تروى أميرة بأسف عندما تتذكر حال بعض الجيران وحكاياتهم، فالكل يطمع فى هذا الكنز الذى لا يقدر بثمن حتى وقف الابن فى وجه أبيه ليطلب منه عنوة أن يكتب الشقة باسمه بدلا من أن يتركها لأخته الوحيدة، فى مثل هذه الظروف لا يسع المرء سوى قول: «يا ريتنا كنا بسطاء وبناقص شقة، ولا إنى أخسر حد عزيز علشان النيل». النهر يزرع قيما لا مرئية، فهو مثلا مكان للبهجة، حيث يحتفل البسطاء بأفراحهم على ضفتيه أو داخل مركبهم الصغير، ما قد يجعلك تشعر بأن نصف سكان مصر فى المياه يتراقصون وتغمرهم السعادة. وبالطبع لكل طبقة إيجاراتها ونوعية المراكب التى تلائم طبيعتها، فهناك من يستأجر بخمسة جنيهات، وهناك من يدفع مائتى جنيه فى الساعة الواحدة. عوامات الكيت كات من شقة فى الدور العلوى يفصلها عن النيل شارع الكورنيش نلمح منازل نيلية عائمة لا يفصلها شىء عن النهر. أصبح بعضها مهجورا والبعض الآخر مازال يحيا، ولكن على خفيف، فلم يبق سوى 9 عوامات فقط فى الكيت كات (من 28 فى القاهرة الكبرى) تشهد على زمن غابر ومجد قديم. وإن سنحت الفرصة أن تدخل إحداها وقد تحولت إلى منزل دائم للبعض فربما تجد نفسك فى فندق خمس نجوم، فهنا حيث الماء والخضرة والوجه الحسن أراد الحاج سيد الشريف السمسار الصعيدى الأصل أن يبتعد عن قسوة الطوب والمبانى التى يعمل بها ليل نهار. وهو يقول: «يمكن أن تستأجر شط النيل فيكون خاصا بك فى مقابل إيجار سنوى للحكومة. ويتراوح سعر العوامة من مليون جنيه إلى أربعة ملايين». يعكف سيد الشريف حاليا على إعادة تجديد العوامة التى اشتراها منذ بضعة أشهر لتكون مصيفا لأهله، إلا أنه يخاف بعض الجيران من أهل العوامات المشتبه فيها، وقد جعله ذلك يتردد كثيرا قبل أن يشترى. «نوع من التغيير فأنا تاجر بشركة استثمار وأعلم أن سعرها قد يتضاعف ذات يوم، أما إذا فكرت فى تأجيرها فستدر علىّ شهريا 3000 جنيه»، ثم يضيف: «حبيت أريح من الشغل شوية، ربما يروق لى السكن هنا فى ظل ضغط المدينة والحياة لذا أعمل حاليا على ترتيبها وكأنى أفرش بيتى». هذا التفاؤل تكدره شرطة المسطحات المائية التى تأتى كل ليلة لتطمئن على سلامة وأمن العوامات التى قد يستخدم بعضها كملاهٍ ليلية. كذلك هناك خطر الحريق الدائم لأن هذه العوامات معظمها خشبية وقد تلتهمها النيران فى أى وقت. تجاور هذه العوامة العادية عوامة تنسب مجازا لأنور السادات، حيث اختبأ فيها حين طارده الانجليز. يقول حارس هذه العوامة: «المكان ده كان ليله نهار ونهاره ليل، لكننا صرنا مهددين دلوقتى بالسمعة المش كويسة». العوامة الخشبية تنقلك من الخارج إلى عالم نجيب محفوظ، إلا أن غرفها المجهزة بشكل أنيق تنقلك مرة أخرى للعصر الحديث، فهى تحوى تلفزيونات وبلاى ستيشن ومطبخا، وكل ما يخطر على البال. فنجان قهوة ومن سحر النيل لا يقتنص البعض سوى لحظات لشرب «النسكافيه»، فلم تعد مشاغل الحياة تسمح بأكثر من ذلك.. فعايدة على سبيل المثال التى تسكن أحد أبراج الدقى المطلة على النيل لا تربطها به نفس العلاقة العضوية التى وصفها البعض سابقا. هو بالنسبة لهذه السيدة الخمسينية جزء من الديكور اليومى الذى لا تتوقف أمامه « تعودنا على وجوده ولم يعد لدينا الوقت الكافى لتأمله.. ماحدش فاضى له ولقعداته». فقط يبقى من مزايا السكن على النيل فى عيون عايدة الرغبة فى التميز الاجتماعى، فهو نوع من أنواع « البرستيج» كما تقول: «كلنا فى البرج من المسئولين والدبلوماسيين، فمكان السكن عنوان للتحضر والرقى». ربما لم تفكر عايدة وهى تنطق بهذه الكلمات فى سكان آخرين للنيل لا يشبهون جيرانها التى تتحدث عنهم بزهو مثل أهل جزيرة الوراق.. هؤلاء على عكسها يجدون وقتا للالتصاق بالنهر رغم مشاغل الحياة.