تمر من أمامه كل يوم تقاسيم ملامح مختلفة، لنساء ورجال وأطفال من مختلف الأعمار، يتخذ ركنا في إحدى شوارع العاصمة الإقتصادية للمملكة مكانا له، لا يهمه إن كان الجو حارا أو باردا لأن قساوة الحياة جعلت جسمه النحيف لا يعترف بتقلبات الجو. هو عمي سعيد كما يحلو للبعض تسميته، رجل تجاوز الستين عاما، يتكأ على عكاز أسود لا يفارقه أبدا بملامح سمراءشاحبة، وعينين صغيرتين تنظران إلى الحياة بتفاؤل كبير لا متناهي، رجل يحاول مقاومة الشيخوخة، وأعباء الحياة التي لا ترحم ليعفي نفسه من ذل السؤال. عمي سعيد ماسح للأحذية بشكل ملفت للنظر، تجعل من الحذاء وكأنه لم يخط خطوة واحدة على الأرض، يمسك خرقة سوداء وفرشاة بأسنان حادة، ترقص بين يديه ككرات البهلوان، لتحصل في الأخير على نتيجة مرضية جدا، والأهم من ذلك ابتسامته عفوية التي تعطيك درسا في تحدي جلاد إسمه الزمن. التحدث إلى عمي سعيد ومحاولة معرفة المزيد عنه لم يكن سهلا، لذلك حاولت إقناعه بمساعدته ومنحه قدرا من المال، مقابل البوح لنا بما يختلج صدره. في البداية نظر إلي نظرة شرسة حادة، معتقدا أني ظننته متسولا، مخاطبا إياي بصرامة " أنا لا آخذ مالا لا أتعب فيه يا آنسة فأصابع يدك ليست متشابهة" .. لكن بعد الأخذ والرد معه في الحديث لمدة نصف ساعة، حاولت تصحيح إعتقاده بي ووافق على التحدث إلينا. يقول " ولدت أيام الإستعمار الفرنسي، لكني لا أتذكر السنة بالضبط، من أب يعمل بالفلاحة وأم تعمل ربت بيت، رزقا بعشرة أبناء، أنا أكبرهم ثم انفصلا. ومنذ ذلك الوقت تكفلت برعاية والدتي حتى توفيت، وإخوتي حتى شق كل واحد منهم مساره، بدأت دراستي بالمسجد لكني لم أتممها لظروفي العائلية القاهرة، لذلك فكرت التفرغ للبحث عن لقمة عيش، ولا شيئ غير ذلك. فقررت امتهان حرفة ماسح الأحذية، التي لا أستعر من مزاولتها كما يعتقد البعض الذين يوزعون علي نظرات شفقة من هنا وهناك، هي مهنتي التي أحبها وأخدمها بوفاء، طويت فيها رداء شبابي وها أنذا أطوي فيها رداء شيخوختي، ولا يهمني الآخرون. يقولها وسيجارة بئيسة أوشكت على الإنقراض بين أصابعه الطويلة الخشنة. لدى عمي سعيد برنامج يومي منظم، يطبق تفاصيله كل يوم، يستيقظ في الصباح الباكر لصلاة الفجر، وبعدها يتوجه إلى المكان الذي تعود الجلوس فيه للعمل لسنوات طويلة، لتبدأ بعدها رحلة البحث عن لقمة رزق، لا يهمه إن كان ما يجنيه في اليوم قليلا أو كثيرا، ما يهمه هو أن يرضى الزبون على عمله، والأهم من ذلك أن يرضى عليه خالقه.يقولها بابتهاج عارم. لا ينطبق على عمي سعيد كل تلك الأمثلة التي تجعل من شخص الذي تقدم في السن لا حق له في الذهاب لمقاعد الدراسة، لأن كل مساء له موعد مع دروس محو الأمية " أحب القراءة والكتابة كثيرا لولا الظروف لأكملت دراستي وأصبحت مدرسا، الحمد لله على كل حال، يقولها بنغمة منتصرة. أنا سعيد بحياتي كما يحملها لقبي، وكما يقولون "سيد الناس خادمهم"، صحيح أنني أتألم أحيانا، لكني أخفي علامات الألم وراء عبارة الحمد لله، التي تعطيني قوة خارقة لتحمل أعباء الحياة. كنت أتمنى إرسال صورة له مع "التحقيق" لكنه رفض ذلك .. أعتذر.