يعانى دستور 2012 الكثير من المشكلات، وكذلك التعديلات التى أدخلتها لجنة العشرة على الدستور والتى لا يتسع المجال هنا لذكرها كلها، وبالرغم من أن الوضع الأمثل كان كتابة دستور جديد للبلاد إلا أن خارطة الطريق قد قالت بتعديله، ربما لسرعة اتمام عملية الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وملء الفراغ الذى سببه غياب مؤسسات الدولة، وغلق الباب أمام التدخلات الخارجية فى الشأن المصرى، وقطع الطريق أيضا أمام إدعاءات الشرعية ومحاولات عودة مرسى والأخوان المسلمين للحكم مرة أخرى. وإن كان يرى البعض أن هذه الأسباب معقولة ومقبولة للاكتفاء بتعديل الدستور وليس كتابة دستور جديد للبلاد، إلا أن ذلك لا يمنح أى مبررات معقولة ومقبولة لكى تكون التعديلات الدستورية للجنة العشرة متراجعة كثيرا حتى عن المكاسب القليلة التى تحققت فى دستور 2012. فهناك مسائل فنية لن يدركها المواطن العادى ولا حتى الكثير من القانونيين فى التعديلات التى أدخلتها لجنة العشرة على الدستور، ولكنها مسائل تشكل مشكلات حقيقية وتوجهات معينة لدى من قاموا بتعديل الدستور. ومن أهم الأبواب وأخطرها هو باب الحقوق والحريات الذى يكفل للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات ويمنحها ضمانات ضد تغول أى سلطة تأتى إلى الحكم، فتحمى حقوق المواطنين والمواطنات بل والمقيمين على أراضى الدولة بغض النظر عمن فى سدة الحكم. ففى بداية عملى فى الجمعية التأسيسية السابقة التى أصدرت الدستور ورغم استقالتى منها، إلا أنه كانت هناك بعض المكاسب التى تحققت ومنها دمج كل الحقوق والحريات فى باب واحد، بعدما كان دستور 1971 يوزعها ما بين مقومات الدولة الاجتماعية والاقتصادية وبين باب الحقوق والحريات. فكان دستور 1971 يضع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية القليلة التى كان ينص عليها فى باب المقومات، بينما الحقوق السياسية والمدنية فى باب الحقوق والحريات. مما يجعل الحقوق الواردة فى باب الحقوق والحريات لها مكانة قانونية أكبر وضمانات تحميها وهو ما لا يتحقق فى وضع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فى باب مقومات الدولة. فمقومات الدولة عبارة عن مبادئ توجيهية وليست حقوق بالمعنى الصريح الواضح، مما يؤثر أيضا على واجبات الدولة تجاه إعمال هذه الحقوق، ويؤثر أيضا فى عملية التقاضى أمام المحاكم بشأن هذه الحقوق. بالإضافة للمشكلة السابقة فلم يكن القانون الدولى لحقوق الإنسان فى عام 1971 قد تطور بالشكل الذى نحن عليه الأن، فغابت الكثير من الحقوق عن دستور 1971مما أوجب إضافة هذه الحقوق فى الدستور الجديد للبلاد فى عام 2012. ولأن المعركة التى خضتها من أجل إدراج كل الحقوق والحريات فى باب واحد كانت فى بداية عمل التأسيسية حيث كان الأخوان المسلمون حريصين فى بداية الأمر على التوافق وعدم التسبب فى مشكلات تفجر التأسيسية الثانية بعد حل الأولى، فقد وافقوا على ما طرحته بعد صعوبة شديدة ومناقشات مطولة وحشد للأعضاء لدعم الفكرة. وربما أيضا للاستعجال الشديد فى إصدار الدستور لم يلتفتوا لهذا الأمر فى الصياغة النهائية للدستور ولم يقوموا بفصل الحقوق وتوزيعها على أبواب الدستور مرة أخرى. فانتهى الأمر إلى إدراج كل الحقوق والحريات بالفعل فى باب واحد يحمل عنوان باب الحقوق والحريات، الذى وضعت للحقوق الواردة به ضمانات لحمايتها. بالرغم من كون هذه الضمانات غير كافية إلا أن ما تحقق كان انتصارا بمعنى الكلمة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالاعتراف بها كحقوق وليس كمقومات (مبادئ توجيهية)، على الرغم من الصياغة المبهمة والضعيفة التى وردت بها هذه الحقوق. وكنت اعتقد أن لجنة العشرة المكونة من "أساتذة" فى القانون الدستورى سوف تعمل على تطوير الحقوق الواردة بالباب وإضافة الحقوق التى لم ترد به والتى رفضها الأخوان المسلمون، وإضافة ضمانات أخرى لهذه الحقوق وهذا الباب تجعل من تلاعب السلطة التنفيذية والتشريعية به أمرا غير ممكنا، لكن شيئا من هذا لم يحدث، بل العكس قد حدث. لقد أعادت لجنة العشرة مرة أخرى الفصل ما بين "الحقوق السياسية والمدنية" و"الحقوق الاقتصادية والاجتماعية" كما كان فى دستور 1971، فوضعت الحق فى العمل، الحق فى الصحة، الحق فى الضمان الاجتماعى، الحق فى التأمين الاجتماعى، الحق فى التعليم، وغيرها من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فى باب "مقومات الدولة الأخلاقية والاجتماعية"، وتركت الحقوق السياسية والمدنية وبعض الحقوق القليلة جدا من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فى باب الحقوق والحريات. وبهذا تصبح الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الواردة فى باب مقومات الدولة الأخلاقية والاجتماعية مجرد "مبادئ توجيهية" للمشرع وللقضاء تخضع للتفسير والتأويل وغير محمية بالضمانات الواردة فى باب الحقوق والحريات، وتصبح الحقوق الواردة فى باب الحقوق والحريات "مُلزمة" للدولة وللقضاء ومحمية بالضمانات القليلة – مادة واحدة فقط – التى وردت فى هذا الباب، بالإضافة أيضا إلى أن اللجنة لم تضف الحقوق التى لم ترد فى هذا الباب ولم تضع أى مواد ضامنة للحقوق التى لم ترد به. فهل كان هذا مجرد خطأ من اللجنة أم أنه حدث عن عمد حتى تستطيع الدولة التنصل من هذه الحقوق، وحتى لا يستطيع المواطنون التقاضى أمام القضاء حيث لم يسبغ الدستور صفة الحقوق على الحقوق الواردة فى باب مقومات الدولة، وحيث يخضع تفسيرها طبقا للقضاة الذين تعينهم "السلطة التنفيذية"!! إن ما فعلته لجنة العشرة هو تراجع فادح عن نجاحات قليلة تحققت فى دستور 2012، فبدلا من تطوير هذه الحقوق وصياغتها بشكل صريح وواضح، وتحديد مسئوليات الدولة بشكل أيضا صريح وواضح، وإضافة الحقوق التى لم ترد فى الدستور أو على الأقل إضافة ضمانات لها، قامت بالانتقاص من حقوق المواطنين بجعل بعضها (الحقوق الاقتصادية والاجتماعية) مجرد "مبادئ توجيهية" والبعض الأخر (السياسية والمدنية) حقوق ذات صيغة ضعيفة "مبهمة" تخضع للتفسيرات. فسلام على شعب مات وضحى منه الكثيرون من أجل الإعلاء من قيمة حقوق المواطن والمواطنة، وسلام على "أساتذة" قانون دستورى لا يدركون معنى الحقوق والحريات والثورة والدم.