إذا ماتت القلوب، فكل شئ مباح حتى إرتكاب أبشع الجرائم، فالأمر فى البداية منوط بالرحمة، وطالما أن الرحمة قد انتزعت من القلب فلا تستعجب عندما تجد أم فى ظلام الليل تلقي برضيعها أمام دار أيتام، مشهد كنا نراه في أفلام الأبيض والأسود زمان، وما كنا نتخيل أن يحدث كثيرًا فيما بعد، وأخرى تضع طفلتها الرضيعة داخل شنطة بسوق العاشر من رمضان، التفاصيل فى السطور التالية. أن تجرفك الشهوة فى مستنقع الرزيلة - بالرغم من هول الجرم ذاته - أهون من أن تخرج منها الأنثى بجنين ينمو فى أحشائها، هنا الجرم أفدح، والعاقبة أشد وأنكى، ليست فى السيدة وحسب، وإنما فى مصير ذلك الجنين، ماذا ستفعل به، وهى لا تراه أمامها إلا السبيل لفضحها وكشف ما جنته بأيديها، وعليها أن تتخلص منه فور قدومه، وبسرية تامة وكتمان رهيب، بدلا من تستقبل دخوله الدنيا مستبشرة به ضاحكة، تستقبله بيدها التى ستتخلص منه وإلى الأبد! كانت عقارب الساعة تشير إلى نحو الحادية عشر مساءاً، هنا فى مدينة العاشر من رمضان، ومنطقة المجاورة رقم 40 الهادئة بطبعها، تكاد تخلوا شوارعها من المارة تقريباً، ولا سيما فى الشوارع الجانبية، وعلى بعد خطوات صغيرة أتى المجهول بجرمه، إمرأة تلتفت يميناً ويساراً، وملامحها قد امتزجت والخوف، حتى وكأنك تراها شبحاً يمشى على الأرض من هول مظهرها، وذلك وفق ما قالوه بعض شهود العيان ل"أخبار الحوادث" أنهم رأوا أمرأة فى هذه الناحية ولكن لم يلقوا لها بال فى بداية الأمر. كانت خطواتها مترددة بعض الشئ، فزعة، وهى تدرك تماماً ما تنوى فعله، وتحمل بين يديها صغيرتها الذى لم تتم شهرها الأول بعد، داخل شنطة من أولئك التى تستخدمها ربات البيوت عند الذهاب إلى السوق، لونها أسود وكأنه يشير إلى سواد ما قد ستفعله الأم، وأمام دور رعاية كائنة بتلك الناحية وضعت الشنطة التى بحوزتها، وذهبت دون أن تلتفت ورائها، وكأنها تخلصت من عبء كان يثقل كاهلها، وأطلقت لساقيها العنان واختفت كما اختفت الرحمة من قلبها. داخل السوق! دقائق قليلة وبدأت الرضيعة تصرخ، معلنةً عصيان قدرها الذى جعل تلك السيدة أمها، وجعل هذا المصير مصيرها، حتى سمع بعض الأهالى صرخاتها وكأنه إنذار بحلول كارثة، وما أشد تلك الكارثة عندما تلقى الأم رضيعها، هرع إلى مصدر الصوت بعض الأهالى ليستطلعوا الأمر، فوجدوا شنطة سوداء أمام دور الرعاية ويخرج منها هذا الصراخ المتواصل، فى لمح البصر كان الجميع قد وقف بجوار الشنطة، وبالفعل تم فتحها، ليظهر أول ما يظهر لهم وجه الجنين الملائكى، مصدرة عنوان سوء أمها وسواد مصيرها. على الفور أبلغوا قسم ثانى العاشر من رمضان، وما هى إلا ثوانى قليلة حتى حضرت الشرطة، واستعلمت من الأهالى على ما قد يمكن أن يكون لفت نظرهم فى تلك السيدة، وتم إيداع الجنين إحدى دور الرعاية بمعرفة النايبة العامة. البداية كانت عندما لقى اللواء جرير مصطفى، مدير أمن الشرقية، إخطارًا من اللواء محمد والي، مدير المباحث الجنائية، يفيد بورود بلاغًا بالعثور على رضيعة، فى "شنطة سوق" أمام إحدى دور رعاية الأيتام بالمجاورة رقم 40 بدائرة قسم شرطة ثانٍ العاشر من رمضان. تحرر عن ذلك المحضر اللازم، وبالعرض على النيابة العامة قررت بإيداع الصغيرة بإحدى دور الرعاية.