وفي مايو 2251 أصدر السلطان العثماني مرسوما حملة قاضي العسكر »سيدي جلبي« إلي مصر وفيه الشكل القضائي العثماني الجديد، وأهم سماته إسقاط قضاة مصر الأربعة، وإلغاء وظائف النواب والشهود ما عدا أربعة نواب عن كل مذهب نائب ولكل شاهدان، وتكون المدرسة الصالحية مقرا لهم بجوار قاضي العسكر، وأن »لايعقد عقد ولا يوقف ولاتكتب وصية ولاعتق ولاتكتب إجازة ولا حجة ولا غير ذلك من الأمور الشرعية حتي تعرض علي قاضي العسكر« ونفذت الأوامر، ورضخ الجميع لحكم أمير المؤمنين، ولكن بضيق وكدر، وأصبح القضاء المصري تابعا مباشرة لعاصمة الخلافة يستمد وجوده منها. ومثل قاضي العسكر النموذج التركي الصارم المتعالي المتكبر صاحب الجبروت والسلطة، جعل لنفسه نوابا من مختلفي المذاهب ليساعدوه خاصة أنه لم يكن علي المستوي العلمي اللائق، ولكونهم أتراكا لايعرفون اللغة العربية استعانوا بالمترجمين، كما رئي أن يكون تحت يد كل منهم قاض من نواب القضاة المصريين، والمرجع الأول والأخير لقاضي العسكر. وانصب اهتمام قاضي العسكر علي مقدار ما يجمعه من الرسوم، تلك التي فرضها وغالي فيها، ومعروف أنه كان يشتري هذا المنصب من الأستانة، فلابد من التعويض خاصة أنه لم يكن يتقاضي مرتبا ثابتا بل له 2٪ من قيمة ما يقضي به، بالاضافة إلي ما فرضه علي قضاة أخطاط القاهرة وقضاة محاكم الأقاليم بل المأذونين إذ كان يساومهم في آخر كل سنة علي حقه في الأموال التي يجمعونها من رسوم الشهادات والعقود ويصرف له مرتب جراية وعليق من القمح والشعير كل شهرين ومارس الضغط والشدة، وامتدت يده ليغترف لجنسه علي حساب المصريين حتي إنه »رسم بأخذ الخلاوي التي في المدرسة البرقوقية والأشرفية والغورية وغير ذلك من المدارس وأنزل فيها جماعة من الأروام الأفاقية. وضم قاضي العسكر إلي سلطته القضائية الاختصاصات الإدارية، فهو يلي الباشا في درجته وله أن يحل محله أثناء غيابه، حتي الفرمانات يذكر فيها اسمه، وهو عضو رئيسي في الديوان، ويقوم بدور الوسيط والمصالح أثناء الأزمات بين الجند والأمراء والباشا. وتعددت المحاكم، وقسمت مصر إلي 63 ولاية قضائية، كانت أعلاها درجة محكمة مصر التي اختصت بالقضايا المهمة من جنائية ومدنية وتجارية وأحوال شخصية، وتولي الفصل فيها قاضي العسكر، وكثرت محاكم أخطاط القاهرة، وانتشرت في أحيائها، واختصت بقضايا الأحوال الشخصية والمنازعات وعقود البيع والشراء. ووجدت محكمتان للقسمة: الأولي عسكرية خاصة بضبط تركات ومحاسبات وأيلولات وإشهارات إلي نحو ذلك لرجال الأوجاقات، والثانية مدنية علي نفس الشكل. وأخيرا فهناك محاكم الأقاليم، ولها السلطة القضائية والادارية علي نطاق واسع، فهي تصادق علي تعيين الموظفين، وتنصب مشايخ طوائف الحرف، وتستقبل الشكاوي المرفوعة إليها وتحقق فيها، وتفصل في الخصومات، وتحدد الأسعار وتعاقب من يخالفها، وتسجل القروض، وأصبح لايجري أي اتفاق إلا ويثبت فيها، ومنها تخرج الحجج الشرعية، كما كانت تستقبل القضايا المحمولة إليها من الديوان العالي الخاصة بالمنازعات بين كبار الملتزمين، وهي في الوقت نفسه تعقد الالتزامات بين الفلاحين والملتزمين، وحتي إقرار العملة وقيمتها صار من اختصاصها، وكانت سجلاتها تجري كل وقائع الأحداث التي تطرأ علي مصر، كل هذا بالاضافة إلي النظر في القضايا العادية الخاصة بالأحوال الشخصية والتركات. وقضاة تلك المحاكم حنفيون، يجلسون طوال أيام الأسبوع، وأجرهم مرتبط بما يفصلون فيه من قضايا بحيث لايتجاوز الرسم المقرر، وفي مسائل عقود الزواج حدد ما يؤخذ عليه حسب نوعية المعقود عليها، ووضع نظام للتركات وخصص لبيت المال جزء من المتحصل. وتدرجت المحاكم من الأولي وحتي السادسة، وقسمت وفقا لأّهمية مدن مصر، والدرجة عرفت باسم مرتبة حيث ان القضاة لايتوصلون إلي ما فوقها إلا بعد الدخول فيها، والهدف اكتساب الخبرة من خلال هذا السلم القضائي، والقاضي يشغل وظيفته في المرتبة لمدة عامين وأحيانا عام. وكان هناك قضاة للمواني، يقررون الرسوم علي التجار الأجانب، ويراقبون المتهربين من دفع الضرائب الجمركية ويشرفون علي تسليحها وترميمها. وعند تطبيق العقوبات وتنفيذها كانت القسوة الصارمة من السمات الواضحة، خاصة إذا صدرت الأحكام من الوالي الذي كان له حق التدخل والتحكيم في القضاء، فتري حكما بتعذيب واعدام شخص بتهمة التزوير، وحكما آخر باعدام ثلاثة من القواسة - وكانوا حراسا عي قصب في شبرا - حينما تصدوا لأحد اللصوص الأتراك وأردوه قتيلا. وتضاربت الأحكام بالنسبة للقضايا الواحدة والمتشابهة، واستعمل قاضي العسكر أو تقراطيته ليقضي علي المكانة التي تمتعت بها المرأة المصرية »فنودي في القاهرة علي لسان ملك الأمراء وقاضي العسكر بأن المرأة لاتخرج إلي الأسواق مطلقا ولاتركب علي حمار مكاري وألا يخرج إلي الأسواق إلا العجائز فقط وكل من خالف بعد ذلك من النساء تضرب وتربط بشعرها في ذنب كديش ويطاف بها في القاهرة فحصل للنساء بسبب ذلك غاية الضرر... ونودي بأن كل مكاري ركب امرأة شنق من يومه من غير معاودة في ذلك وكانت الأحكام تنفذ فورا بدون أن يكون للمحكوم عليه حق الاستئناف. ولم يكن هناك من يقوم بالدفاع عن المتهمين رسميا، حقيقة كانت المرافعات تسجل علي يد كتبة المحاكم، ولكن لم يكن للخصوم وكلاء يدافعون عنهم أمام المحاكم بل كل خصم يدافع عن نفسه، وأحيانا يكلف بذلك رجل من أهل العلم العارفين بنصوص الشريعة. واستمرت سطوة القضاة الأتراك علي مقاليد القضاء في مصر حتي ثبت عجزهم بل فشلهم وسري الضعف في الادارة العثمانية من فرع لآخر وتعددت أسبابه، وما ان حل القرن السابع عشر حتي كان المصريون يعيرون أحكام القاضي الحنفي أذنا صماء، ويذهبون إلي شيخ الجامع الأزهر والذي كان علي الدوام شافعيا أو إلي غيره من أئمة الحنابلة أو المالكيين، فأعادوا بطريقة غير مباشرة حكم القضاة الأربعة. وأمام هذه الظروف كان طبيعيا أن يحدث تحول في الميدان القضائي أعاد لبعض الأمور نصابها، وذلك بدخول القضاة المصريين إلي محاكم القاهرة، واصدار أحكامهم فيها حتي ان قاضي العسكر عينهم نوايا له وحكموا في محاكم الأقاليم بعد أن أذن لهم من السلطات العثمانية بممارسة مهتهم بناء علي اختيار قاضي العسكر. ومع ذلك فلم يقو الجهاز القضائي بالدرجة التي تجعله تتلاشي أمامه العيوب التي تغلغلت فيه، واستمر الوضع علي ما هو عليه حتي أواخر القرن الثامن عشر حينما أطلت مصر علي المدنية الغربية، وجاء نابليون بونابرت بحملته علي مصر عام 8971، يحمل معه الأفكار والأنظمة معتقدا أن لفرنسا دورها في العمل علي صحوة الأمم التي طال سباتها. وفي البداية نراه لايمس القضاء في جوهره حيث اجتهد في تأييده مراعاة لخاطر قضائه واستجلابا لأئمته، لكنه هو ومن ولاهم من الحكام كانوا يبثون روح القانون الفرنسي بل يفصلون فيما يعرض عليهم من المسائل القانونية بموجب هذا القانون. تلا ذلك خطوة ارتكزت علي محاولة لتنظيم القضاء بإنشاء محكمة ذات نوعية جديدة. يصفها لنا الجبرتي بقوله »شرعوا في ترتيب ديوان آخر وسموه محكمة القضايا وكتبوا في شأن ذلك طومارا ورتبوا فيه ستة أنفار من النصاري القبط وستة أنفار من تجار المسلمين وجعلوا قاضيه الكبير ملطي القبطي الذي كان مكاتبا عند أيوب بيك الدفتردار وفوضوا إليهم القضايا في أمور التجار والعامة والمواريث والدعاوي ودخل تحت هذا النظام الأراضي والمبايعات والمنازعات والجزئيات. ووضعت قواعد جديدة بشأن حجج الملكية لها من الترتيبات والجزاءات ما جعلها غير مقبولة لدي المصريين، حيث طلب من أصحاب الحجج إثبات مضمونها، وكان هذا شيئا غريبا عليهم. أما عن جلسات هذه المحكمة، فيحضرها وكيل فرنسي يجلس بين القضاة ليباشر بنفسه سير المحاكمة، يساعده مترجم ليتفهم الأمور، ويدخل أصحاب الدعاوي بالترتيب، وكل يقدم دعواه، فإذا كانت من القضايا الشرعية إما أن ينظرها قاضي المحكمة أو ترسل للقاضي الأعلي إذا احتاج الأمر إلي اختصاصه، وكان هناك من يقوم بتسجيل وقائع الجلسة، وبالنسبة للمرتبات فقد كانت مرتفعة »تكفيهم وتغنيهم عن الارتشاء«. وصدرت لائحة تحددت فيها الرسوم بواقع 2٪ من القيمة. ولكنها لم تكن خالصة للقضاة بل كان عليهم أن يدفعوا منها للكتاب. كما أنشيء ديوان للمحفوظات تحفظ به الأحكام القضائية، ولم يقتصر هذا النظام القضائي علي القاهرة بل امتد إلي الإسكندرية ورشيد ودمياط. وأعطي منو المزيد من السلطة لتلك المحكمة حتي أصبحت بمثابة محكمة نقض وإبرام، وصار لقضائها حق تفسير الشريعة الاسلامية، والاشراف علي المحاكم الشرعية، وإلغاء الأحكام أو تعديلها، واقتراح عزل القضاة. ووضعت قواعد لتنظيم الطعن أمام المحكمة، منها أن تصحب صحيفة الطعن بفتوي صادرة من مفتي المذاهب الأربعة، فإذا وافق ثلث أعضاء المحكمة علي الحكم نفذ وإلا أعيد للقاضي.