لا أدعي المعرفة بأمور الدين المسيحي ولا أدعي التبحر في مجال الباباوية والاساقفة والتدرج الوظيفي للكنيسة المصرية. انني لا أنعي في هذا المقال كبير اقباط مصر.. وانما انعي رجلا مصريا أصيلا اسمه البابا شنودة.
البابا شنودة بالنسبة لي كان رجلاً مبهراً في كل شيء. سماحة وجهه وابتسامته التي لاتغيب كانت غريبة رغم مسئولياته الكبيرة عن شئون اقباط مصر. طيبة قلبه وخفة ظله تدعو أي انسان لتأملهما جيداً.. كيف لهذا الرجل في مواجهته لشدائد عظيمة ان يطلق هذه الابتسامة الصافية والتي تشعر انها نابعة من قلب أشد صفاءً؟ ما سر حب هذا الرجل لمصر بمسلميها قبل اقباطها؟ التحليل الوحيد ان البابا شنودة كان مصرياً حتي النخاع.. ولعل مقولته الشهيرة: مصر ليست وطناً نعيش فيه وانما وطن يعيش فينا - اكبر دليل علي حبه الجم لهذه الارض وشعبها بكل طوائفه.
وللحق فإن مواقف البابا شنودة منذ توليه أمر الكنيسة المصرية في عام 1971 شديدة الوطنية. في البداية.. رفض بإصرار تام عدم زيارة الاقباط لبيت المقدس والحج إليه الا مع اخوانهم المسلمين وبعد تحرير كامل الاراضي الفلسطينية من المغتصبين الصهاينة. وهذا موقف لم يقو عليه قادة دول وملوك ممالك.. بل هرعوا للتطبيع مع العدو الإسرائيلي فيما بعد.. وظل البابا شنودة ثابتا علي موقفه حتي رحل عن الدنيا.
مواقف وطنية كثيرة لايمكن نسيانها لهذا المصري الاصلي البابا شنودة.. ولعل اكثرها أهمية الهجمات الشرسة التي تعرض لها من الاقباط العلمانيين واقباط المهجر والذين دعوه صراحة للانفصال بالاقباط عن مصر.. ولكن الرجل بمصريته الشديدة رفض هذه الافكار الشيطانية التي لم يكن هدفها سوي تمزيق نسيج الوطن واشعال الفتنة بين المسلمين والاقباط في مصر. ولا أحد يستطيع ان ينكر ان الرجل المصري الاصيل صمد خاصة مع وجود بعض الحوادث التي تعرض لها الاقباط في مصر علي يد قلة مسلمة جاهلة.. وما كان لأحد أن يلوم البابا ان يستنجد بأمريكا كما كان يدعو البعض.. ولكن البابا شنودة المصري حتي النخاع رفض الاحتماء بأمريكا وظل يناضل بمصريته حتي يعبر بأي أزمة إلي بر الآمان.
البابا شنودة لم يكن مجرد رجل دين طيب القلب.وانما كان سياسياً من طراز فريد.. لم يداهن الرئيس السادات ولم يخضع له وتسبب هذا الموقف في اعتقاله في احداث سبتمبر 1981 مع عدد من قادة الاحزاب والكتاب والسياسيين. وظل كبير الاقباط علي موقفه ورأيه في سياسة الرئيس السادات ولم يخضع حتي تم الافراج عنه في اعقاب اغتيال الرئيس السادات وعاد ليتولي شئون الكنيسة المصرية بنفس الابتسامة ونقاء القلب.
الآن.. وبعد ان رحل البابا شنودة عن عالمنا. الآن.. وبعد ان غابت ابتسامته الصافية عن حياتنا الكئيبة لم يعد امامنا سوي ان نستلهم مواقف الرجل ونتمني ان يأتي من يخلفه في المنصب ويخلفه في طيبة القلب والحنكة السياسية. وداعاً.. البابا شنودة المصري الاصيل. وداعاً.. زميلنا في نقابة الصحفيين والذي ظل يحمل كارنية النقابة رقم (3) لسنة 1966 ورفض التخلي عنه حتي وفاته. وعزائي لكل مصر.. مسلميها واقباطها في خسارتنا الفادحة.. برحيل مصري اصيل وعظيم ظل يجاهد لتعيش مصر آمنة من الفتن حتي آخر نفس في حياته.