واكتملت لي ثاني مشاهدة لمسلسل »حريم السلطان» هذا المسلسل البديع، الذي أتقن صنعه علي نحو راق في كل جوانبه وبكل التفاصيل حتي في استحضار »سورة يس» بتلاوة شجية وقد صاحبها صورة خلفية وأداء صامت عند موت »سليمان القانوني» بينما كانت أصوات موسيقي الجيش المنتصر تقترب. نصر تمناه ولم يشهده. هذا المسلسل يدل دلالة واضحة ومنصفة علي قدرة المبدعين الأتراك المحدثين علي استنفار كل طاقاتهم الخلاقة وصولا إلي هذا المستوي وهو ما دعاني إلي وقفة عند هذا الأمر لأن له أكبر الصلة بنا وبالإبداع لدينا وما وصل إليه في معظمه إلي درجة من التواضع وأحيانا التدني بعد تاريخ مزدهر كان يتجاوز الإبداع التركي الحديث أو غيره في المنطقة. المسلسل يتناول حقبة مهمة في تاريخ الدولة العثمانية وهي فترة حكم السلطان العاشر من سلاطين آل عثمان »السلطان سليمان القانوني» الذي طال حكمه واتسعت فتوحاته شرقاً وغرباً. وربما كتبت عما أثاره في نفسي وعقلي استبداد سليمان وجري ذلك من منظور عصرنا الذي يرفض ذلك لكن وهذا هو المهم في الموضوع وهو هذا النص بالغ الذكاء ان الاستبداد لا يخضع في هذا العصر لمقاييسنا رغم ان الاستبداد في ذاته هو الاستعباد هو العبودية وهو ازدراء للإنسان لكن سليمان القانوني يمارسه باعتباره يرفع سيف القانون والعدل والشرع أيضا.. حتي لو نال سيف العدالة هذا الكثير من الضحايا منهم أفضل أبنائه ووزيره ابراهيم صديق عمره.. وأبقي سيف العدالة علي سليم أسوأ أبنائه ليتولي العرش بعده!.. بخلاف الرعايا العبودية صريحة أو تحت شعار الحق الإلهي أو حق السلالة إلي غير ذلك.. استمرت حتي جاءت عاصفة الديمقراطية في عصرنا فاقتلعت مفاهيم من هذه العصور.. ولكن انظر ويا للعجب مازال الكثير من هذه المفاهيم تجد من يقاوم ويتحايل عليها في كثير من الأمم كما في منطقتنا ويراوغ إزاء المفهوم الحقيقي للديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها مما ناضلت شعوب الغرب قرونا حتي انتصرت لها وبها. إلا أننا لو عدنا إلي عصر سليمان وما يماثله.. لا نجد صراعا للشعوب مع الاستبداد إلا فيما ندر مثل ثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس لكن الصراع كان دائما حول العروش وداخل قصورها بخلاف صراع الإمبراطوريات وكان للنساء دور خطير داخل هذه القصور صدي لمفاهيم معادية للمرأة، كما رأينا دور الجارية الرومية التي صارت زوجة سليمان والتي أدارت الصراع علي العرش لصالحها وصالح أبنائها وإن فشلت فيما يخص أبناءها في خضم الصراع الوحشي والأخير علي عرش سليمان قبيل رحيله. أما صراع الشعوب ضد استبداد الحكام بالنسبة لآل عثمان فلم يبدأ إلا صدي للصحوة الغربية مع ضعف إمبراطورية آل عثمان.. وكانت تباشير ذلك في مصر بداية التنوير بعد الحملة الفرنسية بدءا من ثورة عرابي وما تلاها، وكان الرمز المصري الواضح لمعاداة الاستبداد العثماني والاحتلال الإنجليزي هو »عبدالله النديم» أبرز تلامذة الأفغاني تناولت سيرته النديم دراميا لكن الرمز العربي الآخر الذي استوقفني وتعالي صوته في مواجهة الاستبداد العثماني هو »عبدالرحمن الكواكبي» وسبق تناولي له في عدة مقالات وتصاعدت المواجهة الفكرية حتي حركت الرفض الشعبي حين أدان السلطان العثماني حركة عرابي ودعم بذلك دخول الإنجليز إلي مصر! ان موجة التنوير هي التي قادت العالم العربي بقيادة مصر إلي منعطف جديد نحو معركة الديمقراطية والتي مازالت قائمة حتي الآن! ونعود إلي السلطان سليمان وعصره ونسأل: كيف تناول هذا المسلسل بفكر عصري فترة لها فكر مختلف؟ هذا المسلسل وصناعه بداية من النص الذكي حاول تجاوز هذه المفارقة معتمدا علي جانب إنساني يجمع بين كل العصور.. وهو أن سليمان وكل الشخصيات دون استثناء تقدم بزوايا متعددة حتي من يبدو لنا موغلا في الشر إلي أبعد حد مثل »رستم» السايس الذي صار الوزير الأعظم.. حيث قدم من زوايا متعددة بدءا من اختطافه طفلا.. كله قُدم من زوايا متعددة تجمع بصدق بين الخير والشر، القبح والجمال.. إلخ وهذا تناول يفلت من أحادية النظر إلي الإنسان الفرد أيا كانت الظروف والنتائج ومهما كانت معايير عصره حيث تصعب الإدانة بشكل قطعي!.. مثل أعمال شكسبير العظيمة.. الكل مدان.. ولا أحد مدان! إن التناقض بين أفعال السلطان سليمان.. ينشأ في عقلي أنا وعصري.. مما دعاني إلي رفضه حين قتل وزيره وصديق عمره ابراهيم أو تصفية ولديه هما الأقرب لمعايير عصرنا بخلاف عبودية رعاياه وتلك الجارية التي صارت سلطانة العالم إلي جانبه بعدما أطاحت بكل من يعوق طموحها حتي ابراهيم الضحية تصل صورته إلينا وقد تشرب قيم عصره من قسوة بالغة لا تهزه وتضخم ذاتي لا يقلقه.. ان العمل يقيم توازنا محسوباً بين قيم عصرنا وقيم عصر سليمان. إلا أننا نخرج في النهاية نحن الآن بإدانة قيم الحق الإلهي للحكام أو سلالتهم أو أي زعم مرفوض قطعيا في مرآة عصرنا.. ودعوة خاصة لمقاومته والإعلاء من قيم الحقوق الإنسانية وشموليتها للجميع. انها مقابلة ضمنية بين عصرين مختلفين ننحاز فيها بالضرورة إلي ما ينتمي إلي معاركنا من أجل الحرية والتغيير والتقدم. إلا أن أمراً واحدا استوقفني في النهاية وهو أمر لا يختلف فيه أي عصر من غيره وهو قضية الإرادة الإنسانية.. وهو أمر بالغ الأهمية للفرد وللجماعة أو للأمم. ويعنيني في هذا حقيقتان تؤرقانني.. أولاهما ان هذا المسلسل يقف وراءه إرادة تفوق حكمة كل صانعيه. وإن كنت أغبطهم عليه .. إلا أنه يذكرني بافتقاد مبدعينا لإرادة التفوق بعدما حققناه من تفوق وضعنا في موقع الريادة.. وكذلك الشأن في غير مجال الابداع الفني حتي ان دولا مثل اليابان كانت تحبو وتنظر إلينا كأمل بعيد المنال، وقت أن كنا طرفاً في صنع التاريخ.. والآن هي من هي.. فهل تسعفنا إرادة الحياة والتفوق مرة أخري؟.. الأمر الآخر يتعلق بالوضع في المجتمع البشري الآن وهو بالغ الحرج والضلال.. مما يثير مخاوف شتي تنذر بالهلاك.. فهل يملك عقلاء من العالم المنفلت في استنهاض غريزة البقاء لدي البشرية وسط جنون زاحف؟