حين تعرضت لمسلسل »حريم السلطان» وتفرده بالقياس إلي ما تقدمه الدراما التركية المعاصرة، وجدتني في مواجهة تاريخ الدولة العثمانية الذي سبق لي التعامل معه في مرحلة الأفول.. وأجد أن محور مرحلة »سليمان القانوني» -أعلي مراحل القوة والازدهار- هو نفس محور مرحلة الأفول وهو »الاستبداد» الاستبداد هو محور هذه الدولة الكبيرة منذ بدأت وصعدت.. وحتي ضعفت وأفلت بما جعل لها الباع الأطول -حوالي ثمانية قرون- في تكريس هذه الظاهرة قديما وحديثا من سبقها ومن تلاها لدي الأممالشرقية والمتخلفة برغم ما أضفاه وحتي الآن بعض المؤرخين المتحيزين لها أو بعض صنائعها في عصورها من أسباب أو مزاعم تتعلق بأذيال الخلافة أو الدفاع عن الإسلام وفتوحاته.. أو سياسية دينية تتعلق بالصراع مع الغرب -راجع المسلسل ان شئت والذي يعري هذه المزاعم بذكاء ولعلي أجد دافعا قويا للتوقف عند فترة القرون الأربعة التي دخلت فيها معظم الدول العربية تحت حكم العثمانيين الغاشم بما في ذلك مصر، حيث ظلت جميعها تحت نير استبدادها وكل أشكال التخلف والفساد بين ولاتها وأذنابهم وخاصة حين اقتربت من الأفول مع ضعف قبضتها عند القمة وصعود أوروبا عند هذه المرحلة نتوقف لأهميتها بالنسبة للبلاد العربية حيث كانت المواجهة الفكرية ضد الاستبداد العثماني وكانت مصر مركزا مهما في تلك المواجهة حين استيقظ عامة الناس علي أصوات تدعوهم إلي الحياة والحرية كانت الصحافة قد بدأت في دورها وتتابعت الأقلام تدعو إلي رفض الاستبداد العثماني وكل أشكال العبودية رغم انكسار الثورة العرابية بدعم من الخلافة المزعومة حين أعلنت عصيان عرابي وادانة الثورة ولسنا نبغي التوقف عند الافغاني وتلاميذه الكبار مثل النديم أو محمد عبده غير أني أري أن خير وأنصع تعبير عن هذه المواجهة في أعقاب الافغاني يأتينا من "حلب" حين بزغ نجم "عبدالرحمن الكواكبي" مناطحا الاستبداد العثماني بفكر كاشف أكثر تطورا وتأثيرا.. ولم ينجح العثمانيون في اسكانه إلا بالسلم دون ان يتوقف صوته عن تردده في كل الآفاق وحتي الآن حيث العرب في أمس الحاجة إلي سماعه وهم في محنتهم الدامية المروعة!. عبدالرحمن الكواكبي كاتب سوري متفرد في دفاعه المستميت عن "الحرية" والتي رأي أن أكبر اعدائها بالنسبة لأمته هو الاستبداد.. والذي يرجح أن كتابه الأشهر "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" كتبه في مصر حين قرر الاستقرار بها وكانت في الارجح أيضا هي مجموعة مقالاته في جريدة "المؤيد" المصرية وأغلبها موجه للاستبداد العثماني وكل أثاره ومظاهره سواء في مجال العدالة الاجتماعية والاتجار بالدين وكان اللعبة الكبري للطغاة راجع شخصية السلطان سليمان القانوني طوال المسلسل المذكور وما أضفاه علي نفسه من ألقاب لا يطلق بعضها إلا علي الذات الإلهية وذلك أيضا باسم الدين وأيضا العداء للعلم. ومعاداة العقل افتراء علي العلم والعقل والدين.. إلي غير ذلك من علل مازالت تحيط بنا وتقف خلف ما يحيط بنا من غلو وجهل وعنف دموي وتمزق. مات الكواكبي في سن مبكرة "1854م- 1902" إذ دس له السم واحد من عملاء العثمانيين ولست بصدد التعرض تفصيلا لسيرة حياته بقدر ما دفعني إلي التعرض للدولة العثمانية وإلي استحضار هذا الرمز اللامع الناضج في مواجهة استبداد تلك الدولة المحاطة بكثير من أكاذيب بعض المؤرخين والمناصرين بخلاف ما أثاره تاريخها المعمر من خلط بين الحقيقة والأساطير وهو ما لا يساعد علي النظر الصحيح بعكس قوة البصيرة كما نري في المسلسل المذكور نسبيا.. أو لدي الكواكبي بسبب اتساع أفقه والشمول في ثقافته وعمقها مما وفر له قراءة صحيحة للتاريخ وللواقع وبإضافات غير مسبوقة لذا نستطيع ان نقرأ واقعنا الحالي من خلال كتاباته أكثر مما نجده لدي كتاب معاصرين لنا في فهم واقعنا واستقصاء حقيقة الاستبداد واثاره.. وأكثره ما استنه العثمانيون ومن سبقهم ومن تلاهم من الطغاة وصانعي تاريخ البغي.. في كتابات عبدالرحمن الكواكبي. ومع ذلك قد يكون من الضروري الإلمام في إيجاز بحياته. فرغم ان الكواكبي الشاب كان لوضع أسرته العريقة في حلب واتساع ثقافته ما سمح له بتولي أعلي المناصب إلا أنه لفظ كل ما تولاه حين أحس بضغوط يفرضها عليه ما يحيط به من فساد.. واختار -للغرابة- العمل "كعرضحالجي" يكتب شكاوي كل من له مظلمة من الوالي العثماني أو رجاله.. وصار الواقع بذلك.. كتابا مفتوحا لكل الحقائق المرة التي يعاني منها الناس في ظل الحكم العثماني. وحين أطلق رجل أرمني الرصاص علي الوالي.. وجدها هذا الوالي فرصة للقبض علي الكواكبي وكان الحكم بإعدامه لولا أن هب الناس دفاعا عنه حتي أفرج عنه. ثم بدأ رحلته مع الصحافة مستهدفا استكمال مواجهته مع الاستبداد العثماني مات عن عمر قصير وإن كان حصاده عظيم الثراء متفردا في تحليله لطبائع الاستبداد وحتمية استئصاله، وخاصة حين استقر بمصر عام 1899 فاحتضنته بحكم حركة التنوير حينها وصدام "عباس الثاني" مع العثمانيين، وكذلك انضم لكل المناوئين للاستبداد العثماني ولكنه ظل متفردا بتحليل ورؤي جديدة للاستبداد علي نحو غير مسبوق ورغم ان كتابه الهام "أم القري" كتبه في حلب إلا أن كتابه الأشهر "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" كتبه في مصر بجريدة "المؤيد" للشيخ "علي يوسف" كمقالات وفيها تناول بوضوح عداء المستبد للعلم وللعلماء والعداء للعقل لصالح الجهل والخرافات.. والعداء لأي فكر عن الشراكة العامة أو ملكية البشر لكل أشكال الثروة العامة والعداء الفكرة الوطن وتغليب المتاجرة بالدين خلطا بالسياسة والطمس المتعمد لهدف المستبد في ان يسوس العامة ويضللهم. وهذا ما سوف نعرض له لاحقا من خلال ما كتب في رسم محكم للدائرة الجهنمية لطبائع الاستبداد ومرامية في كل عصر، ويظل ما سجلته الكاتبة التركية النابهة في "حريم السلطان" مرآة صادقة لكل رؤاه عن الاستبداد في الدولة العثمانية.