»فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ».. هكذا شهد الله لرسوله بإنسانيته ورحمته، فقد كان صلي الله عليه وسلم ذا قلب عطوف، محبًا لجميع الناس، حتي لأعدائه الذين آذوه، وحاربوا دعوته، وأخرجوه من داره، وقاتلوه، ومع كل ذلك يدعو لهم.. لم يحمل في قلبه غلاً تجاههم، حتي إنه في معركة »أحد» التي انتهت بدرس قاس للمسلمين كان يدعو لهم: »اللهم اهد قومي»، وما ذلك إلا لكونه إنسانًا استحق أن يقول عنه ربه »وَإِنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيمٍ». فالإسلام دين الإنسانية، وليس دين العنصرية، والقرآن كتاب للإنسان قبل المسلمين، وردت فيه كلمة الإنسان 63 مرة، وكلمة الناس 340 مرة، وفي سورة »العلق» أول ما نزل من القرآن، ذكر كلمة الإنسان في 5 آيات »اقرأ - خلق الإنسان - علم الإنسان»، أما كلمة البشر فقد وردت 37 مرة، وهناك سورة في القرآن تحمل اسم »الإنسان». ما معني الإنسانية؟ الإنسانية، هي: حب الإنسان في ذاته كإنسان، بغض النظر عن دينه، لونه، عرقه، مستواه.. الإنسانية هي التي تجعلني أقبل بالتعايش مع الآخر الذي أختلف معه في العقيدة، لكن لا أختلف معه في كونه إنسانًا، أحترمه، وأقدره، وأتمني له كل الخير، أنصفه، ولا أظلمه، وهذا من احترام تنوع البشر، الذي هو دليل علي احترام نظام الله في الكون.. الإنسانية = الرحمة.. الخير.. الحب.. الجمال. وحب الناس أعظم معاني التدين، النبي يقول: »لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، والمراد بأخيه هنا كل الناس، فلن يكتمل إيمانك بالله حتي تحب الناس، ولن تحبه تمام الحب حتي تحب صنعته.. فإن حب الصنعة من حب الصانع، فتسخر كل قدراتك الإنسانية من أجل الإنسان أيًا ما كان.. »لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»، فالله سبحانه جعل هنا البر - أي الحب - قبل العدل. التدين الخاطئ غير إن هذا لا ينفي أن هناك قطاعًا كبيرًا من المتدينين لديهم فهم خاطئ في هذه المسألة، ما يجعل تدينهم قاسيًا ضد الإنسانية، ويسحق الإنسان الذي بداخلهم، مخالفين بذلك دعوة النبي إلي احترام الإنسان في الحديث »الإنسان بنيان الله ملعون من هدمه»، بينما هناك التدين العنصري، الذي يقوم علي عبادة الله بكراهية غير المسلمين، وكراهية غير المتدينين من المسلمين، بل كراهية المتدينين ممن يخالفونه في الفكر، وهو يعتقد بذلك أنه يحب الله ورسوله. كما أن هناك تدين الكراهية والغل، والذي هو يتنافي مع جوهر رسالة الإسلام في قوله تعالي »وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ»، وهناك تدين لا يحترم تنوع البشر، ومثل هؤلاء لا يحترمون في الحقيقة إرادة الله بتنوع البشر.. »وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَة *، وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ * وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ». وهناك من يقتل الإنسانية بداخله، حتي إنه يرفض مجرد التبسم، بدعوي أنه مهموم بالآخرة، متجاهلاً حقيقة أن النبي كان دائم البشر والابتسام، علي الرغم من كل ما كان يحمله من هم الدعوة.. مثل هذه الأفكار المغلوطة هي التي تخرج المتطرفين والإرهابيين، فهناك أناس نزعوا الإنسانية من الدين من أجل الصراع والعنف والتطرف، انطلاقًا من قيم الكراهية والعنصرية والمفاهيم الخاطئة عن »الولاء والبراء»، الذي هو في حالة الحرب فقط. مواقف إنسانية للنبي هؤلاء يتجاهلون أجمل ما فينا.. وهي إنسانيتنا حتي لو أخطأنا.. الرسول صلي الله عليه وسلم يقول: »والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم غيركم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم»، وهناك العديد من المواقف التي تظهر الجوانب الإنسانية في حياة النبي.. فعند نزول الوحي عليه في الغار، عاد مسرعًا إلي المنزل وهو يرتجف، ويقول للسيدة خديجة: »زملوني»، بينما ترد عليه بكلمات تهدئ من روعه: » أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين علي نوائب الحق».. معددة الصفات الإنسانية التي يتحلي بها. في هجرته إلي الطائف، أتاه ملك الجبال وهو حزين مهموم، بعدما تعرض للأذي والتنكيل، وقال له: »لو أمرتني أطبق عليهم الأخشبين»، لكنه صلي الله عليه وسلم يرد بكل إنسانية: »لا عسي أن يخرج الله من بين أصلابهم من يعبد الله». عندما هاجر إلي المدينة كان دليله في رحلته عبد الله بن أريقط، ولم يكن مسلمًا، لكنها الإنسانية التي جعلت النبي يري فيه الخير حتي لو كان غير مسلم.. يحاول اليهود قتله 3 مرات.. ومع ذلك عندما تمر جنازة يهودي يقف النبي لها، فيقول الجلوس: إنها جنازة يهودي، فيقول النبي صلي الله عليه وسلم: »أليست نفسًا». جاءه شاب أمام الصحابة، وقال: يا رسول الله، أريدك أن ترخص لي في الزنا، فهم الصحابة أن يفتكوا به، فقال النبي دعوه، وخاطبه بروح إنسانية، فقال له: »أترضاه لأمك؟ قال لا، أترضاه لخالتك؟ قال: لا، أترضاه لعمتك؟ قال: لا، أترضاه لأختك؟ قال: لا. قال »كذلك الناس لا يرضون لأولادهم وخالاتهم وعماتهم وأمهاتهم مالا ترضاه أنت لأهلك». كان إنسانًا مع أهل بيته، تحكي السيدة عائشة أنه كان يوم عيد، وكان الأحباش يلعبون في المسجد، ووقفت تشاهدهم من خلف رسول الله صلي الله عليه وسلم بينما وضعت ذقنها علي كتفه وأسندت وجهها إلي خده، وكلما قال لها الرسول حسبك (أي كفي هذا القدر)، تلح عليه في الاستمرار، وكأنها كانت سعيدة بمشاهدة ألعاب الحبشة كما كانت سعيدة أيضًا بوقفتها خلف الرسول تلامس ذقنها كتفه، ويلامس وجهها خده في حالة رومانسية رائعة.. هذه هي إنسانية النبي، وهذه رسالته التي حملها إلي العالمين.