رئيس جامعة القاهرة يستقبل رئيس المكتب الثقافي الكويتي لبحث التعاون ودعم الطلاب الوافدين    افتتاح توسعات جديدة بمدرسة تتا وغمرين الإعدادية بالمنوفية    بالتعاون مع «الدواء المصرية».. الجامعة الألمانية بالقاهرة تنظم ورشة عمل عن «اليقظة الدوائية»    رئيس جامعة كفر الشيخ يتسلم نسخا من المشروعات التدريبية لشعبة الصحافة بكلية الآداب    البنك التجارى الدولى يحافظ على صعود المؤشر الرئيسى للبورصة بجلسة الاثنين    ماذا ينتظر أسعار الذهب؟.. توقعات صادمة للفترة المقبلة    برلمانية: وحدة الصف الداخلي والالتفاف الشعبي حول القيادة السياسية باتت ضرورة وطنية    وزير الخارجية يبحث مع نظيره الفلسطيني تطورات غزة وتداعيات التصعيد الإقليمي    إيران تعلن إسقاط 3 طائرات مسيرة إسرائيلية    مفوض الأونروا: يجب ألا ينسى الناس المآسي في غزة مع تحول الاهتمام إلى أماكن أخرى    الرئيس النمساوي يبحث مع زيلينسكي سبل إنهاء الحرب "الروسية الأوكرانية"    مباريات أفضل الأندية في العالم : أبرز إنجازات الأندية المصرية    وزيرا الشباب والعمل يشهدان احتفال مرور 10 سنوات على انطلاق «مشواري»    تقرير يكشف موعد خضوع فيرتز للفحص الطبي قبل الانتقال ل ليفربول    ضبط قائد سيارة "ربع نقل" وضع إشارة خلفية عالية الإضاءة حال سيره بالجيزة    تفاصيل القبض علي المتهم بتقييد نجلته وسحلها بالشارع في حدائق أكتوبر    المشدد 10 سنوات لسائق توك توك خطف طفلة بالشرقية    انقلاب سيارة محملة بمادة ك أو ية على طريق السنطة - طنطا دون حدوث إصابات (صور)    كشف ملابسات فيديو وضع سائق إشارة خلفية عالية الإضاءة بالجيزة    وزير الثقافة يشارك في إزاحة الستار عن "استديو نجيب محفوظ" بماسبيرو    مجانا حتى 21 يونيو.. فرقة بني مزار تقدم "طعم الخوف" ضمن عروض قصور الثقافة    إلهام شاهين توجه الشكر لدولة العراق: شعرنا بأننا بين أهلنا وإخواتنا    عضو ب«مركز الأزهر» عن قراءة القرآن من «الموبايل»: لها أجر عظيم    الجامعة الألمانية تنظم ورشة عمل مع هيئة الدواء والمهن الطبية عن اليقظة الدوائية    رئيس جامعة المنوفية والمحافظ يدشنان قافلة طبية متكاملة بمنشأة سلطان    بعد عيد الأضحى‬.. كيف تحمي نفسك من آلالام النقرس؟    وفود دولية رفيعة المستوى تتفقد منظومة التأمين الصحي الشامل بمدن القناة    إيراد فيلم ريستارت فى 16 يوم يتخطى إيراد "البدلة" في 6 شهور    «حسبي الله في اللي بيقول أخبار مش صح».. لطيفة تكشف تفاصيل اللحظات الأخيرة قبل وفاة شقيقها    اليوم .. محاكمة 15 متهمًا بالانضمام لجماعة إرهابية في مدينة نصر    ما هي علامة قبول الطاعة؟.. أستاذ بالأزهر يجيب    كيف تنظم المرأة وقتها بين العبادة والأمور الدنيوية؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    تخفيف عقوبة 5 سيدات وعاطل متهمين بإنهاء حياة ربة منزل في المنيا    إسرائيل تستعد لإطلاق رحلات جوية لاستدعاء العسكريين والعاملين في الصناعات الدفاعية من الخارج    تنسيق الجامعات.. 6 أقسام متاحة لطلاب الثانوية ب حاسبات حلوان    النائب حازم الجندي: مبادرة «مصر معاكم» تؤكد تقدير الدولة لأبنائها الشهداء    حقيقة استبعاد محمود تريزيجيه من مباراة بالميراس البرازيلي    المصرف المتحد سابع أكبر ممول لإسكان محدودي ومتوسطي الدخل ب3.2 مليار جنيه    وزير الزراعة يفتتح ورشة العمل الأولى لتنفيذ استراتيجية إعلان كمبالا للبحث والتطوير الزراعي في أفريقيا    شوبير يكشف سبب تبديل زيزو أمام إنتر ميامي وحقيقة غضبه من التغيير    توقيع عقد ترخيص شركة «رحلة رايدز لتنظيم خدمات النقل البري»    الثانوية العامة 2025.. أبرز المعلومات عن كلية علوم الرياضة للبنات بالجزيرة    بدء تسليم دفعة جديدة من وحدات مشروع جنة بالمنصورة الجديدة.. 6 يوليو    أحمد السقا يرد برسالة مؤثرة على تهنئة نجله ياسين بعيد الأب    الدخول ب 5 جنيهات.. 65 شاطئًا بالإسكندرية في خدمة المصطافين    محافظ أسوان: 14 ألف حالة من المترددين على الخدمات الطبية بوحدة صحة العوضلاب    أسعار الفراخ اليوم.. متصدقش البياع واعرف الأسعار الحقيقية    الينك الأهلي: لا نمانع رحيل أسامة فيصل للعرض الأعلى    إيران تنفذ حكم الإعدام فى مدان بالتجسس لصالح إسرائيل    إعلام إسرائيلى: تعرض مبنى السفارة الأمريكية في تل أبيب لأضرار جراء هجوم إيرانى    انتصار تاريخي.. السعودية تهزم هايتي في افتتاحية مشوارها بالكأس الذهبية    "عايزة أتجوز" لا يزال يلاحقها.. هند صبري تشارك جمهورها لحظاتها ويكرمها مهرجان بيروت    ارتفاع قتلى الهجوم الإيراني على إسرائيل إلى 16 قتيلا    النفط يرتفع مع تصاعد المخاوف من تعطل الإمدادات    3 أيام متواصلة.. موعد إجازة رأس السنة الهجرية للموظفين والبنوك والمدارس (تفاصيل)    مجموعة الأهلي| شوط أول سلبي بين بالميراس وبورتو في كأس العالم للأندية    هل الزيادة في البيع بالتقسيط ربا؟.. أمين الفتوى يرد (فيديو)    أمين الفتوى: الله يغفر الذنوب شرط الاخلاص في التوبة وعدم الشرك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأخلاق والبلاغة‮ ‬ في خطابات الجاحظ‮!‬

يندرج هذا العمل ضمن المجهود العلمي الذي ما فتئ‮ ‬يبذله الباحث محمد مشبال في سبيل اقتراح تصورات وإجراءات نقدية تسعف في مقاربة النص النثري العربي القديم وإبراز خصوصياته دون الإذعان لسطوة الأنموذج الشعري والامتثال لبلاغته‮. ‬من هنا نري أن هذا العمل‮ ‬ينطوي علي أطروحتين أساسيتين متكاملتين‮:‬
الأولي تمثل استئناف التفكير في المشروع العلمي الذي دشنه الباحث انطلاقا من أعماله الأولي،‮ ‬وهو المتمثل في البحث عن كيفية مقاربة النصوص النثرية العربية القديمة في أبعادها النصية الشاملة،‮ ‬وذلك بالامتثال إلي طبيعة بلاغتها الخاصة‮. ‬ولعل السؤال الذي مهد به الباحث دراسته؛ أي كيف نهتدي إلي ما‮ ‬يمكن وصفه ببلاغة نوعية مستمدة من ماهية النثر؟‮ (‬1‮) ‬يختزل جوهر هذا المشروع العلمي الذي رامت ملامسة إشكالاته عديدٌ‮ ‬من دراسات الباحث،‮ ‬التي اعتمدت نثر الجاحظ مدونة لاختبار هذا المشروع،‮ ‬بدءا من مقاله‮ "‬سمة التضمين التهكمي في رسالة التربيع والتدوير‮"‬،‮ ‬ومرورا ب"بلاغة النادرة‮"‬،‮ ‬ثم‮ "‬البلاغة والسرد‮: ‬جدل التخييل والحجاج في أخبار الجاحظ‮" ‬وانتهاء بهذه الدراسة‮.‬
وأما الأطروحة الثانية فتستشف من عنوان البحث،‮ ‬أي تعرف نوعا من النصوص النثرية العربية القديمة،‮ ‬التي قلما توجهت عناية الباحثين إلي دراستها‮.‬يتعلق الأمر برسائل الجاحظ،‮ ‬وهي خطابات تنتمي إلي ما‮ ‬يمكن وصفه بالأدب العام،‮ ‬الذي‮ ‬يحتفي بالقول البليغ‮ ‬والجميل ويقدم في ذات الأمر المعرفة والثقافة‮. ‬فعلي الرغم من كون رسائل الجاحظ خطابات بليغة،‮ ‬أي تنطوي علي احتفاء لافت للنظر فيما‮ ‬يخص اللغة وجمالياتها،‮ ‬إلا أنها خطابات مضمخة بثقافة العصر،‮ ‬وتقدم قدرا كبيرا من المعرفة‮. ‬ومما‮ ‬يضاعف أيضا من قيمتها العلمية احتفاؤها الكبير بقضايا لازالت تتمتع بقدر وافر من الراهنية‮. ‬ولنا علي سبيل المثال فيما تطرحه رسالة القيان من مواقف تجاه المرأة،‮ ‬وما تبسطه من الصور التي‮ ‬يختزنها التراث عنها،‮ ‬وما تعكسه من رؤي منفتحة للجاحظ في هذا المضمار خير دليل علي ما نزعمه‮. ‬ويمكننا أن نضيف أيضا قضية الهوية وما تتأسس عليه من علاقة مع الآخر،‮ ‬سواء أكان هذا الآخر متميزا علي صعيد العرق مثل ما هو معالج في رسالتي‮ "‬فخر السودان علي البيضان‮"‬،‮ ‬ورسالة‮ "‬مناقب الترك‮"‬،‮ ‬أم كان متميزا علي صعيد الديانة مثل ما متناول في رسالة‮ "‬الرد علي النصاري‮". ‬ونذكر أيضا قضية الأخلاق والسياسة التي كانت مدار حديث مجموعة من الرسائل مثل ما هو الأمر في رسالة‮ "‬المعاد والمعاش‮" ‬ورسالة‮ "‬الحجاب‮" ‬التي تنصرف موضوعاتها إلي الآداب السلطانية وأخلاقيات السلطان‮. ‬
يبدو،‮ ‬إذن،‮ ‬أن خطابات الجاحظ تتحدد قيمتها أساسا في جانبين اثنين علي الأول؛ فأما الأول فيتمثل في عنايتها بالصياغة البليغة،‮ ‬فالجاحظ أحد فرسان البلاغة العربية ورائد من روادها‮. ‬وقد خاضت مصنفاته في قضايا البلاغة ومفهوماتها،‮ ‬وأبرز مثال علي ذلك كتابه‮ "‬البيان والتبيين‮"‬،‮ ‬كما أن خطاب الجاحظ خطاب بليغ،‮ ‬يعني باللغة وفنون الصياغة،‮ ‬ويتمتع بقدر كبير من جمالية القول‮. ‬وأما الجانب الثاني فيتصل بالمعرفة التي تحملها نصوصه وخطاباته‮. ‬فهي تعكس ثقافة العصر،‮ ‬وتعالج قضاياه وانشغالاته الفكرية وأزماته الثقافية،‮ ‬ولعل جزءا منها لايزال‮ ‬يحتفظ براهنيته وحيويته‮.‬
وإذا كان هذان الجانبان‮ ‬يمثلان مصدر قيمة هذه النصوص،‮ ‬فإن ذلك‮ ‬يترتب عنه صعوبات جمة‮ ‬يمكن أن تعترض أية دراسة تروم معالجة بلاغة خطابات الجاحظ‮. ‬فقد انصرفت عناية كثير من الدراسات إلي النظر في القضايا الفكرية فقط التي تفرزها مضامين رسائل الجاحظ،‮ ‬وبالتالي كان حظ الخطاب الذي صيغت به هذه القضايا الفكرية الإغفال والإهمال‮.‬
ولعل هذا الرهان المتمثل في الأخذ بهذين الجانبين قد شكل تحديا منهجيا لم‮ ‬يتجاوزه الباحث محمد مشبال إلا باعتماد تحليل بلاغي موسع ومنفتح،‮ ‬جنّب الدراسة الوقوع في مآزق شابت أبحاثا عديدة،‮ ‬بعضها احتفي بالقضايا الفكرية التي تعرضها مضامين الرسائل،‮ ‬وأغفل في المقابل البعد الخِطابي وبلاغته في هذه الرسائل،‮ ‬والبعض الآخر أولي الخطاب أهمية‮ ‬بالغة،‮ ‬ولكن علي حساب البعد المعرفي والثقافي،‮ ‬مثلما هو الحال مع دراسات تقاطعت مع عمل الباحث منهجا ومتنا،‮ ‬مثل دراسة محمد علي سلمان،‮ ‬الموسومة ب"كتابة الجاحظ في ضوء نظريات الحجاج‮" ‬‮(‬2‮)‬،‮ ‬أو منهجا فقط‮ ‬مثل دراسة عبد العالي قادا الموسومة ب"الحجاج في الخطاب السياسي،‮ ‬الرسائل السياسية الأندلسية خلال القرن الهجري الخامس أنموذجا‮" ‬‮(‬3‮)‬‮.‬
1 المقاربة البلاغية التأويلية‮:‬
يتشكل هذا البحث من ثلاثة أقسام متعلقة بإشكال علمي دقيق،‮ ‬وهو استخلاص البلاغة النوعية لرسائل الجاحظ‮. ‬فلقد أولي الباحث جهدا بالغا في صياغة القسم النظري من الأطروحة،‮ ‬حيث كان ملزما ببلورة ملامح المقاربة البلاغية الحجاجية المعتمدة في الدراسة أولا،‮ ‬وتبريرها عبر الكشف عن مدي ملاءمتها لمتن الدراسة ثانيا،‮ ‬ثم تطويعها لسلطة النصوص ثالثا‮.‬
إن هذا القسم نجح في رفع التحديات المنهجية المطروحة،‮ ‬وقلص المساحة القائمة بين التنظير والتطبيق،‮ ‬وتجنب استعراض النظريات وإجراءات المنهج،‮ ‬وذلك عن طريق اجتراح تصور نظري انطلاقا من استلهام النظريات البلاغية المعاصرة والإنصات لنبض النصوص‮. ‬وقد اتخذ هذا القسم الموسوم ب"بلاغة النص النثري العربي القديم،‮ ‬المكونات والمبادئ‮" ‬من نصوص الجاحظ أمثلة توضيحية لإبراز مختلف المبادئ والأسس التي تقوم عليها المقاربة البلاغية المعتمدة‮. ‬وهذه المبادئ محصورة في الإطار النوعي للنصوص،‮ ‬مما أتاح الحديث عن أنماط من الرسائل كالرسالة المناظرة والرسالة المفاخرة والرسالة الوصية؛ ومبدأ الحوارية نظرا لأن خطابات الجاحظ قد تشكلت في فضاء من الخطابات المناقضة في معظم الأحيان،‮ ‬لذلك‮ ‬يري الباحث‮ "‬أن المقاربة البلاغية في هذه الدراسة اتجهت إلي تحليل مظاهر الحوارية التي تجلت في هيمنة بعض الاستراتيجيات الحجاجية‮" ‬‮(‬4‮)‬؛ واستخلاص الحجج أو التشكيل الحجاجي الذي كان‮ ‬يعمد إليه الجاحظ في سبيل الدفاع عن دعاويه وأطروحاته‮. ‬وعلي الرغم من التوجه النظري الذي طبع عموما هذا القسم،‮ ‬إلا أن النزعة التطبيقية لائحة بوضوح في جل مفاصل الدراسة ومباحثها،‮ ‬لم تغب عن جوهر هذا القسم،‮ ‬حيث بدا جليا الحضور المكثف لعدد من الرسائل قصد استجلاء ملامح المبادئ الموجهة للمقاربة البلاغية المقترحة‮. ‬ومن نماذج هذه الرسائل نذكر رسالة‮ "‬خلق القرآن‮" ‬ورسالة‮ "‬الجواري والغلمان‮" ‬ورسالة‮ "‬تفضيل النطق علي الصمت‮" ‬ورسالة‮ "‬تفضيل البطن علي الظهر‮" ‬ورسالة‮ "‬مدح التجار وذم العمل مع السلطان‮" ‬وغيرها من الرسائل‮. ‬
تقوم،‮ ‬إذن،‮ ‬هذه المقاربة المعتمدة علي فهم موسع لبلاغة النص،‮ ‬التي حددها الكاتب بأنها‮ "‬كل ما‮ ‬يسهم في خلق تأثيره سواء أكان مصدر هذا التأثير صورة أسلوبية مقننة أم تقنية حجاجية محددة،‮ ‬أم‮ ‬غير ذلك من المظاهر العديدة التي لا نجد لها بالضرورة تسمية في حقل البلاغة بمعناه الدقيق‮" ‬‮(‬5‮)‬‮. ‬فقد قامت هذه المقاربة علي تفادي النظر إلي البلاغة بوصفها خطاطة جاهزة تمتثل لها النصوص وتعمل علي توضيحها في إطار شواهد وأمثلة‮. ‬إذ إن إصغاء الباحث إلي نبض النصوص مكنه من اقتراح مبادئ تقوم عليها هذه القراءة البلاغية،‮ ‬وهي‮:‬الأخذ بعين الاعتبار الإطار النوعي الذي تنتسب إليه النصوص،‮ ‬ومبدأ الحوارية،‮ ‬واعتبار الحجج سواء أكانت تنتمي إلي اللوغوس أم إلي الإيتوس أم إلي الباتوس بنية‮ ‬غير معزولة عن طبيعة النصوص‮.‬
ومن سمات هذه المقاربة النزعة الشمولية في التحليل المتوجه أساسا إلي الرسائل ذات الصلة بموضوع الكتاب؛ أي تلك التي تندرج في الأدب الأخلاقي والأدب السياسي،‮ ‬لتداخلهما في الثقافة العربية الكلاسيكية‮. ‬ففي القسم الثاني تركز التحليل علي رسائل‮ "‬المعاد والمعاش‮" ‬و"كتمان السر وحفظ اللسان‮"‬،‮ ‬ورسالة‮ "‬الحجاب‮"‬،‮ ‬و"في ذم أخلاق الكتاب‮"‬،‮ ‬و"التربيع والتدوير‮"‬،‮ ‬و"فصل ما بين العداوة والحسد‮". ‬وهو قسم تولي الرسائل التي تدرج في باب الأدب الأخلاقي أو الأدب السياسي‮. ‬فقد حرص الجاحظ علي إبراز الصلة الوثيقة بين الأخلاق والآداب من جهة وبينهما وبين السياسة من جهة أخري‮. ‬ولعل التركيز علي الرسائل السابقة في هذا القسم امتثل لمقياس واضح‮ ‬يتجسد في هيمنة الموضوع الأخلاقي علي خطابها‮. ‬وقد خلص التحليل إلي نتائج مهمة أبرزها إثبات تداخل الأخلاق والبلاغة‮. ‬
وفي القسم الثالث توجه التحليل إلي الرسائل التي مثلت حضور الهوية الذاتية والهويات الأخري،‮ ‬وهي رسالة‮ "‬الأوطان والبلدان‮"‬،‮ ‬ورسالة‮ "‬فخر السودان علي البيضان‮"‬،‮ ‬ورسالة‮ "‬مناقب الترك‮"‬،‮ ‬ورسالة‮ "‬الرد علي النصاري‮". ‬هكذا‮ ‬يتضح أن تمثيل الآخر وتحديد هويته المختلفة شكل محورا من المحاور‮ "‬التي استقطبت بلاغة الجاحظ وكفايته الحجاجية في عديد من رسائله‮". (‬6‮) ‬يكشف هذا القسم،‮ ‬إذن،‮ ‬انفتاح الرؤية الفكرية التي دافع عنها الجاحظ،‮ ‬حيث توجه في رسائله إلي تحديد سمات الهويات المغايرة والدفاع عنها والحوار معها ومناظرتها‮ (‬7‮).‬
يتضح مما سلف نزوع الدراسة إلي أن تشمل جل الرسائل‮. ‬وهو الأمر الذي مكّن الباحث من تصنيف الرسائل في عينات‮ ‬يهيمن عليها مقوم بلاغي محدد،‮ ‬مثل قوله‮:" ‬استخدم الجاحظ في رسائله عديدا من الصيغ‮ ‬الحجاجية المرتبطة بالحجاج السببي،‮ ‬وعلي رأسها الحجة النفعية التي هيمنت علي رسالة تفضيل النطق علي الصمت ورسالتي في مدح النبيذ وصفة أصحابه والشارب والمشروب‮» (‬8‮).‬
غير أننا لا نقصد بالتحليل الشمولي المذكور إلحاح الباحث علي النظر في جل مدونة البحث فقط،‮ ‬وإنما نقصد به أيضا النظر في النصوص بوصفها كلا لا أجزاء،‮ ‬وهو مما‮ ‬يؤطر الدراسة ضمن حقل تحليل الخطاب‮. ‬
إن هذا الهاجس الذي كان حاضرا في ثنايا البحث مثّل تحديا قلما نجحت في تجاوزه إلا دراسات نادرة‮. ‬فمثلا في الدراستين اللتين أشرت إليهما آنفا‮ (‬9‮)‬،‮ ‬لم تحضر النصوص في التحليل إلا كمقتطفات مختصرة علي سبيل التمثيل للظواهر البلاغية والحجاجية المعروضة‮. ‬ولعل مما‮ ‬يكشف عن وعي الكاتب بهذا التحدي قوله‮:" ‬فلا‮ ‬يجوز الاكتفاء برصد السمات الجزئية سواء أكانت استعمالات لغوية أم صورا أسلوبية أم تقنيات حجاجية،‮ ‬بل‮ ‬ينبغي تجاوز ذلك إلي النظر في طرق تشكل هذه السمات نصيا والاستراتيجيات الخطابية المعتمدة في بناء النص في كليته‮"(‬10‮).‬
2 الكفاية التفسيرية للمقاربة التحليلية‮:‬
وهي تلك الكفاية القائمة علي التعليل والتبرير وأيضا التأويل،‮ ‬والتي تعكسها مؤشرات نصية موزعة علي امتداد البحث‮. ‬فأولي مظاهر هذه الكفاية تتجلي في الجهد النظري الذي رام من خلاله الباحث تبرير اعتماد المقاربة البلاغية الحجاجية كاختيار منهجي لتحليل رسائل الجاحظ،‮ ‬إذ بين أن هذا الاختيار ليس من قبيل الترف الفكري،‮ ‬أو استجابة ظرفية لتقليعة جديدة في حقل المناهج،‮ ‬بقدر ما هو اختيار‮ ‬يجد مسوغاته العلمية فيما تزخر به نصوص الرسائل ذاتها من مقومات خِطابية،‮ ‬اجتهد الباحث في تجليتها‮. ‬إذ لا‮ ‬يستقيم البحث في بلاغة خطابات الجاحظ إلا باستحضار مكونها الإقناعي والحجاجي‮. ‬ويمكننا أن نجمل هذه المقومات الخطابية فيما‮ ‬يأتي‮: ‬انشغال رسائل الجاحظ بالمتلقي،‮ ‬وارتباطها بمواقف تواصلية محددة،‮ ‬وقيامها في فضاء حواري،‮ ‬وتقاطعها مع أنواع خطابية من قبيل المناظرة والمفاخرة والوصية وغيرها‮. ‬إن هذه المقومات حتمت اعتماد الباحث المقاربة البلاغية المقيدة بجملة من المبادئ مثل الإطار النوعي والحوارية والحجج سواء تلك المرتبطة باللوغوس؛ أي التقنيات الحجاجية ومقدمات الحجاج ومواضعه،‮ ‬أو بالإيتوس؛ أي صورة الخطيب أو المتكلم المبثوثة في الخطاب،‮ ‬أو بالباتوس؛ أي المشاعر والنوازع التي حرص المتكلم علي إثارتها عند المخاطَب لتيسير السيطرة عليه والحصول علي تأييده لأطروحات المتكلم،‮ ‬ووظيفية الوجوه الأسلوبية وتحولها من أداء وظيفة جمالية إلي الاضطلاع بالوظيفة الحجاجية.ويفضي العمل بهذه المبادئ مجتمعة إلي اعتماد منظور بلاغي موسع ومنفتح‮.‬
وتتجلي هذه الكفاية أيضا في دعوة الكاتب إلي ضرورة استعاضة البلاغة النوعية بالبلاغة العامة،‮ ‬أي البلاغة المتجذرة في الخطابات،‮ ‬الحريصة علي تأملها وتأويلها،‮ ‬وذلك بإبراز قصور القراءة البلاغية العامة التي اختزلت طموحها في رصد فنون العبارة والوجوه الأسلوبية،‮ ‬في المقابل تستعيد القراءة البلاغية النوعية رحابة البلاغة التي كانت عليها في أصلها الأرسطي؛ أي تشمل اللوغوسوالإيتوسوالباتوس‮.‬
كما تتمثل هذه الكفاية في حرص المؤلف علي تفسير الإجراءات البلاغية المشغّلة في المقاربة رغبة في إحراز التواصل مع القارئ‮. ‬فاستحضار القارئ وتوخي التأثير فيه مَلَكَا وعي الباحث وهو في خضم انشغاله ببناء أطروحته‮. ‬ومن الأمثلة الدالة علي ذلك،‮ ‬قوله في سياق إبراز حجاجية الوجوه الأسلوبية‮:" ‬وفي هذه الحال تتسع الوجوه الأسلوبية،‮ ‬التي‮ ‬يعني بها المحلل البلاغي،‮ ‬لتستوعب كل الأشكال اللغوية المحوَّلة عن جهتها المعيارية لأداء وظائف بلاغية‮. ‬فالقيمة التي‮ ‬يحظي بها الوجه الأسلوبي ليست قيمة ذاتية،‮ ‬بل قيمة مرتبطة بالوظيفة التي‮ ‬يضطلع بها في مقام محدد‮"(‬11‮).‬
إن مرد وضوح أطروحة البحث وسلاستها هو سريان هذه الكفاية في جل مباحث هذه الدراسة،‮ ‬مما رفع مختلف أشكال الغموض عنها،‮ ‬وضاعف من طاقتها التواصلية مع القارئ‮.‬
ختاما لا ندعي من خلال هذه القراءة إحاطتنا الشاملة بكل المزايا العلمية التي تتمتع بها هذه الدراسة،‮ ‬ولا كان في وعينا التعبير عن كل الجهد المبذول في بنائها،‮ ‬وإنما حسبنا أننا سجلنا جانبا من القيمة العلمية التي‮ ‬يتمتع بها هذا الكتاب‮. ‬وهو‮ ‬يعكس جهدا علميا‮ ‬يبرز جانب أول منه،‮ ‬ولعله الأهم،‮ ‬في المستوي المنهجي‮. ‬إذ‮ ‬يحمل الباحث وراءه تاريخا من التفكير البلاغي،‮ ‬حيث عايش مختلف تحولاتها،‮ ‬وحرص علي إحداث تفاعل إيجابي بين الرؤية البلاغية العربية القديمة والأصيلة والرؤية البلاغية الغربية المعاصرة التي تشهد منذ خمسينات القرن الماضي تجديدا في هذا الحقل المعرفي‮. ‬ويتجلي الجانب الثاني فيما‮ ‬ينطوي عليه من قيمة علمية وأدبية،‮ ‬وهو متن‮ ‬غير مطروق من الزاوية التي تعني بغني طاقته البلاغية وحمولته المعرفية والثقافية كما أفرزتها الحضارة العربية في العصر العباسي‮. ‬وليس تتويج هذا العمل بوصوله إلي القائمة الطويلة لجائزة للشيخ زايد فرع الدراسات النقدية‮ ‬2016م‮ / ‬2017م إلا دليلا علي ما‮ ‬يزخر به من قيم‮ ‬علمية وأدبية‮.‬
الهوامش‮ ‬
1‮ ‬خطاب الأخلاق والهوية في رسائل الجاحظ مقاربة بلاغية حجاجية،‮ ‬للدكتور محمد مشبال،‮ ‬دار الكنوز،‮ ‬عمان،‮ ‬الطبعة الأولي،‮ ‬2015م،‮ ‬ص‮: ‬5‮ .‬
2‮- ‬صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر،‮ ‬بيروت،‮ ‬الطبعة الأولي،‮ ‬2015م‮.‬
3‮- ‬صدرت عن دار كنوز المعرفة،‮ ‬الطبعة الأولي،‮ ‬الأردن،‮ ‬2015م‮.‬
4‮ - ‬خطاب الأخلاق والهوية في رسائل الجاحظ مقاربة بلاغية حجاجية،‮ ‬ص‮: ‬9‮ .‬
5‮- - ‬المرجع نفسه،‮ ‬ص‮: ‬13‮ .‬
6‮ - ‬المرجع نفسه،‮ ‬ص‮: ‬217‮ .‬
7‮ - ‬المرجع نفسه،‮ ‬ص‮: ‬217‮ .‬
8‮- ‬المرجع نفسه،‮ ‬ص‮: ‬78‮ .‬
9‮ - "‬كتابة الجاحظ في ضوء نظريات الحجاج رسائله نموذجا‮"‬،‮ ‬و"الحجاج في الخطاب السياسي،‮ ‬الرسائل السياسية الأندلسية خلال القرن الهجري الخامس أنموذجا دراسة تحليلية‮".‬
10‮ - ‬المرجع نفسه،‮ ‬ص‮: ‬13‮ .‬
11‮ - ‬المرجع نفسه،‮ ‬ص‮: ‬118‮ .‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.