روسيا تفرج عن سفينة مصرية محملة ب 63 ألف طن قمح بعد احتجازها أكثر من شهر    البنك المركزي المصري يصدر قواعدا جديدة لتملك رؤوس أموال البنوك وعمليات الإندماج والاستحواذ    الاقتصاد الأمريكي يضيف 175 ألف وظيفة في أبريل ومعدل البطالة يرتفع إلى 3.9%    «المركزي للتعمير» ينفذ محور الخارجة/ سوهاج بطول 142 كم    موظفون ب ميتا ينتقدون تحيز الشركة ضد المحتوي الداعم لفلسطيني    بعد الانتصار على التعاون، ماذا يحتاج الهلال للفوز بالدوري السعودي؟    غيابات مؤثرة تضرب بايرن ميونخ قبل مباراته أمام شتوتجارت    برشلونة يوافق على انتقال مهاجمه إلى ريال بيتيس    العناية الإلهية تنقذ شابا انقلبت سيارته في ترعة يالغربية (صور)    فيلم السرب.. أحمد السقا يوجه الشكر لسائق دبابة أنقذه من الموت: كان زماني بلوبيف    المؤتمر الدولي لكلية الألسن بجامعة الأقصر يعلن توصيات دورته الثالثة    تخصيص 8 مكاتب لتلقي شكاوى المواطنين بالمنشآت الصحية في الوادي الجديد    آصف ملحم: الهجمات السيبرانية الروسية تجاه ألمانيا مستمرة .. فيديو    الروس والأمريكان في قاعدة عسكرية واحدة .. النيجر على صفيح ساخن    أمين القبائل العربية: تأسيس الاتحاد جاء في توقيت مناسب    طليعة المهن    إعفاء 25% لطلاب دراسات عليا عين شمس ذوي الهمم من المصروفات الدراسية    علاء نبيل: لا صحة لإقامة دورات الرخصة C وهذا موعد الرخصة A    هل تتكرر قصة تشافي؟ توخيل: هذا ردي بشأن الاستمرار مع بايرن    استقبال حافل من جمهور مني الشاذلي لأبطال فريق الجودو.. فيديو    مدير مشروعات ابدأ : طرح مشكلات المستثمرين على موقع المبادرة وحلّها لإتمام أنشطتهم    ميكانيكي يشعل النار في أرض زراعية بأسوان بسبب خلافات جيرة    ضبط ربع طن فسيخ فاسد في دمياط    تشيع جثمان عروس كفر الشيخ ضحية انقلاب سيارة الزفاف    بالإنفوجراف.. 8 تكليفات رئاسية ترسم خريطة مستقبل العمل في مصر    الأمين العام للأمم المتحدة: أشعر بالصدمة إزاء مقتل الصحفيين في حرب إسرائيل على غزة    إلهام شاهين تحتفي بماجدة الرومي بعد إحيائها حفلا بقصر عابدين: نورتي بلدك الثاني    باتمان يظهر في معرض أبو ظبي للكتاب .. شاهد    في تكريم اسمه |رانيا فريد شوقي: أشرف عبد الغفور أستاذ قدير ..خاص    دعاء يوم الجمعة عند الغروب.. استغل اليوم من أوله لآخره في الطاعات    بالصور| انطلاق 10 قوافل دعوية    رغم تحذيرات دولية.. هل تقتحم قوات الدعم السريع الفاشر؟    حسن بخيت يكتب عن : يا رواد مواقع التواصل الإجتماعي .. كفوا عن مهاجمة العلماء ولا تكونوا كالذباب .. " أليس منكم رجل رشيد "    حبس 9 أشخاص على ذمة التحقيقات في مشاجرة بالمولوتوف بين عائلتين ب قنا    مُنع من الكلام.. أحمد رزق يجري عملية جراحية في "الفك"    تنفيذ إزالة فورية لتعدٍّ بالبناء المخالف بمركز ومدينة الإسماعيلية    الصحة: تكثيف الرقابة على أماكن تصنيع وعرض وبيع الأسماك المملحة والمدخنة    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    موعد بدء امتحانات الصف الخامس الابتدائي آخر العام 2024 محافظة القليوبية    أخبار الأهلي : اتحاد الكرة يعلن عن تطور جديد في أزمة حسين الشحات ومحمد الشيبي    انتظروا الشخصية دي قريبًا.. محمد لطفي يشارك صورة من كواليس أحد أعماله    محافظ الغربية يهنئ البابا تواضروس بعيد القيامة    في اليوم العالمي وعيد الصحافة.."الصحفيين العرب" يطالب بتحرير الصحافة والإعلام من البيروقراطية    الشكاوى الحكومية: التعامُل مع 2679 شكوى تضرر من وزن الخبز وارتفاع الأسعار    الاستعدادات النهائية لتشغيل محطة جامعة الدول بالخط الثالث للمترو    بواسطة إبراهيم سعيد.. أفشة يكشف لأول مرة تفاصيل أزمته مع كولر    خطيب المسجد الحرام: العبادة لا تسقط عن أحد من العبيد في دار التكليف مهما بلغت منزلته    المقاومة الفلسطينية تقصف تجمعا لجنود الاحتلال بمحور نتساريم    المنتدى الاقتصادي العالمي يُروج عبر منصاته الرقمية لبرنامج «نُوَفّي» وجهود مصر في التحول للطاقة المتجددة    بيان عاجل من المصدرين الأتراك بشأن الخسارة الناجمة عن تعليق التجارة مع إسرائيل    دليل السلامة الغذائية.. كيف تحدد جودة الفسيخ والرنجة؟    ضبط 2000 لتر سولار قبل بيعها بالسوق السوداء في الغربية    التعليم العالي: مشروع الجينوم يهدف إلى رسم خريطة جينية مرجعية للشعب المصري    إصابة 6 سيدات في حادث انقلاب "تروسيكل" بالطريق الزراعي ب بني سويف    «الإفتاء» تحذر من التحدث في أمور الطب بغير علم: إفساد في الأرض    إصابة 6 أشخاص في مشاجرة بسوهاج    الفلسطينيون في الضفة الغربية يتعرضون لحملة مداهمات شرسة وهجوم المستوطنين    الغدة الدرقية بين النشاط والخمول، ندوة تثقيفية في مكتبة مصر الجديدة غدا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شخصيات في حياتي


حواراتي مع طه حسين
حدث في يوم‮ ‬27‮/‬10‮/‬1973‮ ‬حينما كنت مسئولاً‮ ‬عن حكومة أكتوبر‮ ‬1973‮ ‬وأرأس مجلس الوزراء بالنيابة عن السادات،‮ ‬أن طلب مني الرئيس السادات أن أصدر قرارًا بإنهاء خدمة الدكتور محمد حسن الزيات وزير الخارجية،‮ ‬علي أن يذاع هذا الخبر في نشرة الساعة الثامنة والنصف يوم‮ ‬27‮/‬10،‮ ‬لكن حدث أن توفي د.طه حسين وهو نسيب د.محمد حسن الزيات،‮ ‬وستكون جنازة د.طه حسين يوم‮ ‬1973/‬10/‬28‮ .‬
فأجلت إذاعة الخبر الخاص بالدكتور الزيات،‮ ‬فلما سألني الرئيس أنور السادات عن سبب عدم إذاعة الخبر أخبرته بوفاة نسيب طه حسين،‮ ‬وأن جامعة القاهرة قررت أن تكون جنازته من الجامعة نفسها يوم‮ ‬28‮/‬10،‮ ‬ولا يجوز نشر هذا الخبر في هذا التوقيت‮ ‬غير المناسب،‮ ‬وقد وافق الرئيس السادات‮ -‬رحمه الله‮- ‬علي هذا محافظة علي شعور د.الزيات‮.‬
وقبل ذلك في عام‮ ‬1960‮ ‬وحينما عينت وزيرًا للإعلام والثقافة والسياحة قال لي الدكتور طه حسين‮: ‬لقد أغلقت السينما،‮ ‬أما المسرح ف‮ -‬رحمة الله عليه‮- ‬يوسف وهبي قفل مسرحه،‮ ‬وزكي طليمات هاجر إلي البلاد العربية،‮ ‬فوعدته بأنني سأعمل تخطيطًا سليمًا للثقافة والإعلام‮.‬
وكانت لي معه حوارات،‮ ‬فمرة ذهبت ومعي كمال الملاخ‮ -‬رحمه الله‮- ‬وسألت د.طه حسين عدة أسئلة وكانت إجابته عظيمة كعظمته وشموخه‮.. ‬وفي إحدي المرات ناقشته في مزاح وجد عن قوله‮: ‬إن التعليم كالماء والهواء‮.. ‬سألته ماذا تقصد يا دكتور بهذا التعبير‮.. ‬هل تقصد أن تكون ميزانية وزارة التربية والتعليم ليس بها المال الكافي لذلك،‮ ‬أم تقصد أن التعليم ضرورة الحياة،‮ ‬علمًا بأن الماء له أنواع أيضًا،‮ ‬منه الماء النقي مثل المياه المعدنية‮ ‬evian ‮ ‬وهذه‮ ‬غير قادر عليها محدودو الدخل،‮ ‬ونوع ثان من الماء هو الذي يأتي لنا في حنفيات البيت وثمنه أقل‮.. ‬ثم النوع الثالث وهو مياه الترع وهي ملوثة وتسبب الأمراض‮.. ‬وهذه لا ثمن لها وضررها أكثر من نفعها‮.‬
كذلك نجد أن الهواء أنواع‮.. ‬هواء علي شاطئ البحر في المصايف تسعي إليه وبه أكسجين،‮ ‬وهواء سام ملوث صادر من مداخن المصانع‮.. ‬ومع كل فإن الماء ضروري والهواء ضروري‮. ‬فأخذ يضحك من هذا التصنيف‮.. ‬وإذا به يقول‮: ‬حقًا لقد جمعت فصنفت فأبدعت‮.. ‬وكذلك فإن التعليم تمامًا له أصناف مثل الماء والهواء‮.. ‬إنني أقصد أن التعليم ضروري كالماء والهواء‮.‬
‮ ‬
أتذكر الحوارات مع الدكتور طه حسين وكنا في الستينات والآن وقد مضي أكثر من ثلاثين عامًا،‮ ‬وأصبحنا‮ (‬ونحن علي أبواب القرن الواحد والعشرين‮) ‬وظهرت العولمة التي تنادي بالانفتاح علي عالم لا حدود ولا قيود ولا سدود فيه‮... ‬عالم جديد يتطلب عقولاً‮ ‬جديدة،‮ ‬ولكن عقل العظماء دائمًا يفكر ويجدد للمستقبل‮.. ‬دون أن يذكر ذلك،‮ ‬وهذا ما شعرت به في حواراتي مع الدكتور طه حسين‮.‬
وأتذكر هذه المحاورات وقد طلبت أن تضاف‮ "‬المستقبلية‮"‬،‮ ‬مع الأصالة والمعاصرة للثقافة،‮ ‬والتي سمعناها آلاف المرات،‮ ‬فنحن حينما نتحدث يجب أن نناقش الأصالة والمعاصرة والمستقبلية‮.. ‬تذكرت ذلك‮.. ‬وقد سألت د.طه هذا السؤال‮:‬
كنا ونحن طلبة في الثلاثينات ننادي في المظاهرات‮.. ‬الاستقلال التام أو الموت الزؤام،‮ ‬ونادينا بالحرية،‮ ‬وسألته‮: ‬الآن ونحن في الستينيات‮: ‬لقد أصبح لنا الاستقلال والحرية،‮ ‬وأصبحت الحرية والاستقلال ليسا‮ ‬غاية يقصدها شعبنا وإنما وسيلة إلي أغراض أرقي منهما وأبقي وأشمل فائدة وأعم نفعًا‮.. ‬فما هو رأيك يا دكتور طه في تخطيطنا إلي الغاية التي يجب أن نقصدها؟
فأجاب‮: ‬إن هناك شعوبًا كثيرة في أقطار تعيش حرة مستقلة فلم تغن عنها الحرية شيئًا،‮ ‬ولم يجد‮ - ‬عليها الاستقلال نفعًا،‮ ‬ولكن اعتدي عليها المعتدون‮.. ‬إننا فعلا يجب أن نضيف إلي الحرية والاستقلال،‮ ‬الحضارة التي تقوم علي الثقافة والعلم والقوة التي تنشأ منها‮.‬
يجب ألا يصرفنا الأمل عن العمل‮.. ‬إن الاستقلال وسيلة إلي الكمال والرقي‮.. ‬يجب أن نعرض عن الألفاظ التي لا تغني إلي الأعمال التي تغني‮.‬
ما هو مستقبل الثقافة في مصر؟
يجب أن نفكر في مستقبل الثقافة علي ضوء الماضي البعيد والحاضر القريب‮. ‬يجب أن نحدد‮: ‬هل مصر من الشرق أم من الغرب؟
لا أقصد الشرق الجغرافي والغرب الجغرافي إنما أريد الشرق الثقافي والغرب الثقافي،‮ ‬الصلة بين المصريين القدماء والبلاد الشرقية هي الشرق القريب‮: ‬فلسطين والشام والعراق،‮ ‬أي الشرق الذي يقع في حوض البحر الأبيض المتوسط‮.‬
إن العقل المصري من عصوره الأولي عقل إن تأثر فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط،‮ ‬وتبادل المنافع تم ويتم مع شعوب البحر الأبيض المتوسط‮.. ‬يجب أن نفكر بأن المؤثر الأساسي في تكوين الحضارة المصرية وتكوين العقل المصري هو البحر الأبيض المتوسط‮.. ‬إن الإسكندرية كانت عاصمة من عواصم اليونان،‮ ‬ومصدرًا من مصادر الثقافة اليونانية للعالم القديم،‮ ‬بل أعظم مصدر لهذه الثقافة في ذلك الوقت،‮ ‬لم تكن الإسكندرية مدينة شرقية بل مدينة يونانية‮.‬
ما رأيك في رأي كيبلنح في بيته المشهور‮ "‬الشرق شرق والغرب‮ ‬غرب ولن يلتقيا"؟
إن هذا القول لا يصدق علي المصري‮. ‬ويجب أن يفهم المصري أنه ليس بينه وبين الأوروبي فرق عقلي قوي أو ضعيف أو ثقافي،‮ ‬إنما هي ظروف السياسة والاقتصاد‮. ‬فلا يوجد عقل أوروبي يمتاز عن هذا العقل الشرقي الذي يعيش في مصر،‮ ‬إنما هو عقل واحد ولكنها الظروف المتباينة‮.‬
هل المشاركة الأوروبية المصرية لها أهمية في هذا التحليل الثقافي؟
في هذا العصر الحديث كان الاتصال بين مصر وأوروبا قويًا،‮ ‬فحياتنا المادية أوروبية خالصة في الطبقات الراقية،‮ ‬وهي في الطبقات الأخري تختلف قربًا أو بعدًا من الحياة الأوروبية حسب الحظوظ من الثروة وقدرة الأفراد والجماعات‮.‬
إننا نستمتع بالحياة علي النحو الذي يستمتع به الأوروبيون،‮ ‬ونأخذ من زينة الحياة ما يتخذون،‮ ‬ونفعل ذلك عن علم به وتعمد له،‮ ‬أو علي‮ ‬غير علم وعلي‮ ‬غير تعمد،‮ ‬ولكن نحن ماضون فيه علي كل حال‮.‬
حياتنا المعنوية علي اختلاف مظاهرها وألوانها أوروبية خالصة‮: ‬نظام الحكم والحياة السياسية‮.. ‬المصدر أوروبي جوهرًا وشكلاً‮.‬
إننا في هذا العصر نريد الاتصال بأوروبا اتصالاً‮ ‬قويًا يومًا بعد يوم حتي نصبح جزءًا منها لفظًا ومعني وحقيقة وشكلاً‮.‬
هل التعليم في مصر تأثر بالاتجاهات الثقافية الأوروبية؟
إن صروحه ومناهجه أوروبية،‮ ‬لقد وضعنا في رؤوس أبنائنا عقولاً‮ ‬أوروبية في جوهرها وطبيعتها وفي مذاهب تفكيرها‮.‬
إن الله أراد بنا خيرًا،‮ ‬فقد بلغ‮ ‬العالم من الرقي طورًا يمكننا أن نبلغه في عصر قصير،‮ ‬بينما أنفق الأوروبيون في سبيله عشرات السنين بل مئاتها،‮ ‬فويل لنا إذا لم ننتهز هذه الفرصة ولم ننتفع بهذا التوفيق‮.‬
ماذا تقترح بالنسبة لإنشاء مدارس مثل ما هو موجود في أوروبا وأمريكا؟
إن من يريد الغاية فعليه أن يريد الوسيلة‮.. ‬أوروبا وأمريكا أصبحت قوية اقتصاديًا لذلك يجب أن يهيأ شبابنا للجهاد الاقتصادي علي النحو الذي يهيئ الأوروبيون والأمريكيون عليه شبابهم لهذا الجهاد،‮ ‬ولابد أن ننشئ المدارس والمعاهد التي تهيئ لهذا الجهاد علي النحو الذي أنشأ الأوروبيون والأمريكيون عليه مدارسهم ومعاهدهم،‮ ‬ولا يكفي ولا يستقيم في العقل أن نريد الاستقلال ونسير سيرة العبيد‮.‬
ما رأيك في الشخصية المصرية؟
إننا لم ننس استقلالنا يومًا ما،‮ ‬ولم نفن شخصيتنا الوطنية في جيل من هذه الأجيال الكثيرة التي‮ ‬غارت علينا،‮ ‬لقد احتفظنا بشخصيتنا دائمًا وطالبنا بالاستقلال دائمًا،‮ ‬وأصبحنا بعد أن حصلنا علي الاستقلال أن نحقق لمصر حقها من العزة والكرامة والاستقلال‮. ‬فالحق علينا أن نحتفظ بمكاسبنا وألا نضيع ما فزنا به،‮ ‬وننمي العزة التي كسبناها،‮ ‬وننشيء لمصر الحديثة أجيالاً‮ ‬من الشباب كرامًا أعزاء،‮ ‬أباة للقيم لا يتعرضون للذل والهوان‮.‬
ما هي وسيلة ذلك؟
سبيل ذلك واحدة لا ثانية لها وهي‮: ‬بناء التعليم علي أساس متين‮.‬
نسمع أن هناك عيوبًا كثيرة في الحياة الأوروبية‮.. ‬كثير من الآثام والموبقات واستباحة لأشياء لا يبيحها ديننا‮.. ‬إن الدعوة إلي الاتصال بالحياة الأوروبية كما تدعو لها قد تكون خليقة في توريطنا في الآثام والموبقات وتحرض علي ما فيها من مخالفة الدين؟
إن الحياة الأوروبية ليست إثمًا كلها،‮ ‬وإن فيها خيرًا كثيرًا،‮ ‬وإن حياتنا الحاضرة والماضية ليست خيرًا كلها بل فيها شر كثير،‮ ‬والخير الخالص لا يدفع إلي الانحطاط،‮ ‬وقد انحطت حياتنا ما في ذلك شك‮.‬
إننا لا ندعو إلي آثامهم وسيئاتهم وإنما ندعو إلي خير ما عندهم وأنفع في ما سيرتهم‮.‬
إننا لا ندعو إلي أن نكون صورة طبق الأصل للأوروبيين كما يقال،‮ ‬فذلك شيء لا سبيل إليه ولا يدعو إليه عاقل،‮ ‬فالأوروبيون مسيحيون،‮ ‬ونحن لا ندعو إلي أن نصبح مسيحيين‮. ‬وإنما ندعو إلي أن تكون أسباب الحضارة الأوروبية هي أسباب الحضارة المصرية لأننا لا نستطيع أن نعيش بغير ذلك،‮ ‬فضلاً‮ ‬أن نرقي ونسود‮.‬
معني ما تقول أننا نسير علي نهج أسلافنا المسلمين الذين أسسوا مجد المسلمين والحضارة الإسلامية،‮ ‬إما أن ننهج نهجهم ونأخذ بأسباب الحضارة الأوروبية كما أخذوا هم من حضارة الفرس والروم،‮ ‬أو أن ننكر ماضينا كله ونجحد أسلافنا جميعًا ونرفض مجد المسلمين الذين أسسوا الحضارة الإسلامية؟
إن هذا ما أقوله وأدعو إليه،‮ ‬بل إننا فعلاً‮ ‬اتصلنا بأوروبا منذ أوائل القرن الماضي وأخذنا بهذه الحضارة الأوروبية ولا نملك العدول عنها،‮ ‬وهناك منا قوم صالحون منكرون ل"السفور‮" ‬واختلاط الفتيات والفتيان في المدارس وغيرها،‮ ‬بينما بناتهم في المدارس الأجنبية يتخذون من الأزياء ما ليس بينه وبين الحجاب صلة‮. ‬إنني أدعو إلي أن تطمئن قلوب هؤلاء الأخيار وتستريح ضمائرهم وتتم الملاءمة بين ما يقولون وما يعملون وما يعتقدون‮.‬
لقد دخل الراديو في الأزهر،‮ ‬ويتحدث شيخ الإسلام في الراديو إلي سائر المسلمين،‮ ‬والراديو اختراع من أوروبا وأمريكا وآسيا‮.‬
أريد أن نلائم بين آرائنا وأقوالنا وأعمالنا وألا ننكر الحضارة الأوروبية ونحن مقبلون عليها وغارقون فيها،‮ ‬نريد أن نصارح أنفسنا بالحق وأن نبرئها من النفاق وأن نقبل علي هذه الحضارة الحديثة باسمين لا عابثين وذلك راحة للضمائر وآمن للقلوب‮.‬
لست أدري أمخطئ أنا أم مصيب،‮ ‬ولكني أوثر إذا أردت شيئًا أن أسعي إليه جهرة وفي وضوح النهار،‮ ‬ولا أسعي إليه سرًا وفي ظلمة الليل‮.‬
هناك آثار لسلبيات الحياة الثقافية الأوروبية؟
أنا لا أدعو إلي أن ننكر أنفسنا ولا أن نجحد ماضينا ولا أن نفني في الأوربيين،‮ ‬كيف يستقيم هذا وأنا أدعو إلي أن نثبت للأوروبيين وغيرهم أننا نحفظ استقلالنا من عدوانهم،‮ ‬وطغيانهم من أن يأكلنا‮.‬
لقد كنا معرضين لخطر الفناء في أوروبا حين كنا ضعافا مسرفين في الضعف،‮ ‬كنا نجهل تاريخنا،‮ ‬وحينما كان هناك عملاء يفضلون الأجنبي علي المصري،‮ ‬ولكن هذا الزمان مضي‮.. ‬وانتهي‮.‬
لقد أغارت أمم قوية علي مصر وبسطت سلطانها عليها قرونا متصلة وأزمانًا طوالاً‮ ‬فلم تستطع أن تهضمها ولا أن تفني شخصيتها‮.‬
إن مصر لديها الإيمان بنفسها وثقتها بحقها،‮ ‬إن مصر تفني حينما لا تقاوم ولا تتقدم،‮ ‬لن تضيع أبدًا شخصية مصر،‮ ‬وليس عليها خطر من الحضارة الحديثة،‮ ‬كما أنه لم يكن علي الشخصية اليابانية خطر من الحضارة الحديثة‮.. ‬إن لمصر مجدًا وعزةً‮ ‬وتاريخًا وجهادًا‮.‬
يقولون إن الحضارة الأوروبية مادية مسرفة في المادية لا تتصل بالروح،‮ ‬وهي بذلك مصدر شر كثير تشقي به أوروبا ويشقي به العالم كله أيضًا‮.‬
إن الحضارة الأوروبية مادية المظاهر،‮ ‬ولكن من أجهل الجهل وأخطأ الخطأ أن يقال إن هذه الحضارة المادية صدرت عن المادة الخالصة،‮ ‬إنها نتيجة العقل،‮ ‬إنها نتيجة الروح الخصب المنتج الذي يتصل بالعقل فيزداد الإنتاج مع الجودة والإبداع‮.‬
هناك كتاب أوروبيون يضيقون بالحضارة الأوروبية؟
نعم،‮ ‬ولكنهم يبذلون حياتهم في سبيلها إن تعرضت للخطر،‮ ‬ويرفضون الرفض كله أن يعيشوا عيشة الشرقيين أو يسيروا سيرتهم‮.‬
إن الضيق بالحياة الحاضرة خصلة يمتاز بها الرجل الراقي الحي،‮ ‬ولن يرضي عن الحياة رضًا مطلقًا قوامه الإذعان إلا الذين خلقوا للخمول والخمود‮.‬
إذا رأيت الأوروبي يضيق بحياته ويزدريها فاعلم أنه ما زال حيًا راقيًا ممتازًا مستعدًا للكمال،‮ ‬وإذا رأيت الأوروبي مذعنًا راضيًا بما قسم له فاعلم أن دولته قد آذنت بالزوال‮.‬
لذلك يجب أن نحمي شبابنا من العلم الكاذب ومن هؤلاء الذين يعرفون ظواهر الأشياء،‮ ‬ولا يتعمقون حقائقها‮.‬
يجب أن نحمي الشباب من هذا الشر،‮ ‬ولا سبيل إلي ذلك إلا أن نقيم ثقافة الشباب علي أساس متين‮.‬
إن العرب المسلمين لم يتحرجوا من أن يأخذوا بأسباب الحضارة الفارسية واليونانية كما أخذ بها الفرس والروم الذين لم يكونوا مسلمين في ذلك الوقت‮.‬
وهذه الحضارة الإسلامية الرائعة لم يأت بها المسلمون من بلاد العرب وإنما أتوا ببعضها من هذه البلاد،‮ ‬وببعضها الآخر من مجوس الفرس ومن نصاري الروم‮.‬
إن الحياة لا يمكن أن تكون كلها خيرًا وصلاحًا،‮ ‬ومن يظن ذلك فهو مخطئ،‮ ‬وقد أراد الله للناس أن تكون حياتهم مِزاجًا من الخير والشر،‮ ‬وأودع الله الإنسان عقله وإرادته،‮ ‬وأنزل إليه دينه ليميز بين الخير والشر،‮ ‬ولينصح لنفسه ويختار لها‮.‬
وحياة الأوروبيين كالأمر في حياة المسلمين أيام بني أمية وبني العباس لهم حضارة خصبة مزدهرة تنتج ما تنتجه الحضارة الإنسانية دائمًا من الخير والشر،‮ ‬ففيهم أصحاب الجد وفيهم أصحاب الهزل،‮ ‬فيهم التقوي وفيهم الفجور‮.‬
ولن توجد في الأرض حضارة إلا وهي تنبت الخير والشر وتثمر التقي والآثم‮.‬
وما رأيكم في التعليم الأوليّ؟
أثناء القرن الماضي‮ "‬التاسع عشر‮" ‬كان التعليم الأوليّ‮ ‬أيسر وأدني إلي السذاجة منه الآن،‮ ‬فقد كان يكتفي بمحو الأمية،‮ ‬وتمكين الصبي من أن يقرأ ويكتب ويحسب،‮ ‬ولكن العقل يرقي من يوم إلي يوم،‮ ‬وكلما ترقي أمعن في التفكير،‮ ‬وكلما أمعن في التفكير استكشف كثيرًا من الحقائق المجردة التي تأثرت بها الحياة العملية للناس،‮ ‬فاخترعت أشياء لم تكن تلائم الحياة المعقدة،‮ ‬وأصبح علينا أن نأخذ ما ينبغي أن نأخذ به أنفسنا من العلم لننهض بما يفرض علينا من تبعات،‮ ‬وما يلقي علي كواهلنا من أثقال‮.‬
لذلك لا ينبغي أن نكل أمور التعليم الأولي إلي قوم متواضعين في الثقافة،‮ ‬متوسطين في العلم،‮ ‬لأن هؤلاء لا يقدرون علي أن يفهموا هذا التعليم،‮ ‬لأن قلة حظهم من العلم تجعلهم عاجزين عن أن يحيطوا بما يقتضيه تطور الحياة من تطور التعليم،‮ ‬إن كلمة أو لفظ التعليم الأوليّ‮ ‬تعطي انطباعًا بأن نراه سهلاً‮ ‬يسيرًا متواضعًا ضئيلاً،‮ ‬فنحسب معناه كلفظه سهلاً‮ ‬يسيرًا متواضعًا ضئيلاً،‮ ‬وننسي أن التعليم الأوليّ‮ ‬هو إعداد كثرة الشعب للحياة من جهة،‮ ‬وتحميل كثرة الشعب تراث الأجيال الماضية من جهة أخري‮.‬
ما رأي د‮. ‬طه حسين في معلمي المدارس الابتدائية؟
ليس هذا بالشيء اليسير الهين الذي يستطيع أن ينهض به أنصاف المتعلمين،‮ ‬إنما أمر التعليم الأوليّ‮ ‬خليق أن يكون إلي صفوة الأمة وخلاصة النابغين من علمائها وقادة الرأي فيها،‮ ‬أولئك الذين تتسع عقولهم لا لفهم التطور الوطني الخاص فحسب بل لفهم التطور العام الذي تخضع له الحضارة الإنسانية كلها‮.‬
والخطر علي التعليم الأوليّ‮ ‬من جهل المشرفين عليه أشد جدًا من الخطر علي التعليم العالي،‮ ‬لأن قصور المشرفين علي التعليم العالي يمكن أن تتقي شروره وتجنب سيئاته،‮ ‬لأن أساتذته يمكنهم الوقوف أمام أي اتجاه من سلطات عليا،‮ ‬بينما المعلمون في التعليم الأوليّ‮ ‬أضعف من أن يقاوموا سلطان الرؤساء‮.‬
إن الغرض من التعليم الأساسي هو إعطاء الفرد مقدارًا من العلم لا يستطيع أن يعيش بدونه في بلد متحضر‮.‬
ما هي الصلة بين الديمقراطية والتعليم؟
من المضحك حقًا أن يقال إن الشعب مصدر السلطات وأن يظن أن هذا الكلام يدل علي شيء في بلد كثرته جاهلة‮ ‬غافلة،‮ ‬وقلة ذكية مثقفة‮.‬
كيف نصدق أن الرجل المثقف الممتاز الذي يؤمن فيما بينه وبين نفسه بأنه يستمد سلطانه الذي يصرف به الأمور العامة من هذا الشعب الجاهل الغافل الذليل،‮ ‬وبأنه مسئول حقًا أمام هذا الشعب يؤدي إليه حسابًا دقيقًا عما عمل في أثناء الحكم أو في أثناء النيابة البرلمانية‮.‬
كذلك فإن الديمقراطية الصحيحة كفرض المساواة بين أبناء الشعب في الحقوق والواجبات،‮ ‬فهي لا تقبل أن يفرق بينهم في حرية التعليم‮.‬
إذا تعلم أبناء الشعب عرفوا ما لهم من حق في حياتهم الداخلية،‮ ‬فلم يسمحوا لقلة مهما تكن أن تظلم الكثرة،‮ ‬وعرفوا ما لهم من حقوق في حياتهم الخارجية،‮ ‬والتعليم يضمن للمصريين العدل والمساواة فيما بينهم وبين أنفسهم،‮ ‬والعزة والكرامة فيما بينهم وبين الأجنبي‮.‬
أي اللغات الأجنبية ندخلها في التعليم في مصر؟
حاجتنا إلي اللغات الأجنبية شديدة جدًا،‮ ‬ولكن اللغات الأجنبية ليست مقصورة علي الإنجليزية والفرنسية،‮ ‬فالمعرفة عامل هام،‮ ‬والمقولة الدينية تقول‮: ‬خذ العلم ولو في الصين،‮ ‬وهناك أمم راقية في العالم لغتها الألمانية واليابانية،‮ ‬وهذه ليست أقل تفوقًا وامتيازًا في المعرفة من الإنجليز والفرنسيين‮.‬
فمن‮ ‬غير المفهوم أن تظل حياتنا العقلية محتكرة للإنجليز والفرنسيين،‮ ‬أو موضوعًا للتنافس بين الإنجليز والفرنسيين‮.‬
إننا أحرار في أن نتعلم من اللغات ما نشاء وأن نستمد العلم من أي مكان حيث نشاء‮.‬
طه حسين الذي أيقظنا
في‮ ‬1968‮ ‬كنت في منزلي بعد أن تركت وزارة الإعلام والثقافة والسياحة عام‮ ‬1966‮ ‬فإذا بالتليفون يدق وأسمع صوت الدكتور طه حسين وهو يقول‮: ‬مبروك يا فلان فقد سمعت الآن من وكالات الأنباء أن الجنرال ديجول رئيس جمهورية فرنسا اعتمد اختيارك بعد ترشيح أقدم جامعة في فرنسا لتمنحك الدكتوراه الفخرية في عيدها المئوي،‮ ‬جامعة اكس دي بروفانس‮.. ‬إنها اختارتني للحصول علي الدكتوراه الفخرية منذ مدة وكنت أول وآخر عربي تمنحه هذه الدكتوراه‮.. ‬ثم قال إنها قررت أن تمنح أربع شخصيات عالمية في هذا العيد المئوي عن العرب وإفريقيا‮.. ‬أنت،‮ ‬وعن أوروبا مدير جامعة أكسفورد،‮ ‬وعن أمريكا مدير جامعة،‮ ‬وعن آسيا مدير جامعة طوكيو‮.‬
فشكرته وقلت‮: ‬إن سعادتي قد زادت يا د.طه حسين لأنك أول من يهنئني بهذا التكريم‮.. ‬ثم قال لي مداعبًا‮: ‬إن هذا التكريم بعد تركك الوزارة له معانٍ‮ ‬يا دكتور حاتم لأنني حينما كنت أترك الوزارة كنت لا أجد من يحضر إليّ،‮ ‬وحينما أعود إلي الوزارة أجد الآلاف ولكن الحمد لله أنك تركت الوزارة وأكبر جامعة في فرنسا تقدم لك الدكتوراه الفخرية‮.. ‬فضحكت لما قال وأخبرته أنني أحفظ عبارة له تذكرتها،‮ ‬فذكرتها له حينما قال عقب رجوعه مرة ثانية كوزير للمعارف فوجد الآلاف يهنئونه في الوزارة فقال‮: "‬أقبلتم حينما أقبلت وأدبرتم حينما أدبرت‮".. ‬وكان الحديث حقًا ممتعًا مع عميد الأدب العربي‮.. ‬هذا هو الدكتور طه حسين‮.‬
والحقيقة أننا كنا نحفظ دائمًا عباراته الخالدة‮.. ‬ومنها عبارة قالها ولم أذكرها له في هذا الحديث،‮ ‬وهي أنه حينما كان وزيرًا للمعارف أصدر قرارًا اعتبره الطلبة قرارًا ظالمًا فتجمعوا وقاموا بمظاهرة تحت مكتبه ويهتفون هتافًا‮ ‬غير لائق‮ "‬يسقط الوزير الأعمي‮" ‬ولكن الدكتور طه حسين كان جريئًا فخرج لهم وقال‮: "‬أحمد الله أن خلقني الله أعمي حتي لا أراكم‮".‬
ألم يقل طه حسين يومًا عندما سألوه‮.. ‬ما موقع القرآن الكريم بين الشعر والنثر فقال‮: ‬العربية ثلاثة‮: ‬شعر ونثر وقرآن،‮ ‬يعني أن القرآن تنزه عن الشعر والنثر وجاء أعلي منها مرتبة وأجلّ‮ ‬ذكرًا‮.‬
زاده الفكر والمعرفة مع البصيرة والعزيمة،‮ ‬يدق أبواب الثقافة والمعارف الموجودة في مصر الحديثة فيفتحها وكأنه ساحر لينهل منها من يريد من أبناء أرضها،‮ ‬وكأن الثقافة هي الماء والهواء حق لأي مصري،‮ ‬حق الحياة لمن يريدها،‮ ‬وبتحرك الوجدان الثقافي في مصر تتحرك المعرفة‮.. ‬يزهو الأدب علي الجهل،‮ ‬وما أكثر المعارك التي اقتحمها طه حسين أو أقحمت عليه،‮ ‬فوقف لها بالمرصاد شجاعًا بالرأي وبالإحالة‮.. ‬فإذا بصبي القرية يصبح وزيرًا للمعارف والتربية في مصر،‮ ‬وعميدًا للغتنا الجميلة في عالمنا العربي‮.‬
إنني أكاد أقترب من طريق الهِرم وصدي كلمات أمس سمعتها من الروائي نجيب محفوظ عنه‮:‬
الحقيقة أن طه حسين أول من أيقظنا،‮ ‬كنا في سبات‮"‬،‮ ‬إني أحب أن أستعير ما قاله‮: "‬إن طه حسين صاحب أول ثورة أدبية في عصرنا الحديث،‮ ‬خرجت منها مدارس ذات فرعين مثل فرعي النيل‮: ‬رشيد ودمياط،‮ ‬أولهما في البحث وثانيهما في الإنتاج الفني‮.. ‬وهو الذي أعطي اسميهما،‮ ‬وبعد هذا إنجازات طه حسين في التعليم كشخصية عامة،‮ ‬وكوزير فإن أعماله الخالدة متمشية مع الخط الاشتراكي الحديث،‮ ‬ونحن كأدباء شاعرون بأن وراءنا احتياطيا فيه دفعة الحياة،‮ ‬نرجو الله ألا يحرمنا منها‮".‬
وأسمع صدي سؤالي لنجيب محفوظ عما تأثر به من كتب طه حسين الأربعين؟ فيقول‮: ‬أثر فيّ‮ ‬فكريًا كتابه‮ "‬الأدب الجاهلي‮"‬،‮ ‬وفنيًا‮ "‬الأيام‮"‬،‮ ‬أما تأثيره الشخصي عليّ‮.. ‬فإن أي لقاء مع طه حسين في الواقع درس كبير،‮ ‬ثم لا أنسي أن تقديمه لي كأديب أعتز به أكثر من مادة الجوائز التي حصلت عليها‮.. ‬إن المادة تذهب ولكن كلماته باقية‮.‬
ويذهب حواري مع نجيب محفوظ‮.. ‬لتقترب كلمات أخري قالها لي موسيقارنا الكبير محمد عبد الوهاب عن ذات العميد‮.. ‬عن د.طه حسين وكيف التقي به في حياته مشجعًا فنه‮.. ‬وكيف أقنع طه حسين،‮ ‬عبد الوهاب في أن يغني بعد ما سمع الموسيقار بوفاة والده‮.. ‬وكان متفقًا مع المتعهد اللبناني أن يغني ليلتها في مصيف علياء في لبنان‮.. ‬وكان رأي أمير الشعراء أحمد شوقي من رأي عبد الوهاب‮.. ‬أن ينتحي عن الحفلة ولا يغني،‮ ‬ولكن طه حسين استطاع بعد حوار قصير أن يقنع الاثنين قائلاً‮ ‬لعبد الوهاب‮: ‬إن الفنان يعطي دائمًا ما يحسه أو يشعر به‮.. ‬إذا كنت شاعرًا حزينًا أليمًا‮.. ‬اجعل الناس تبكي معك‮.. ‬وهكذا‮ ‬غني عبد الوهاب ليلتها والناس معه،‮ ‬مما هون من مصابه‮.‬
ويتابع عبد الوهاب كلماته عن طه حسين‮: ‬ثم هو الذي شجعني أن أنتقل إلي القصائد الغنائية الطويلة التي بدأها بالجندول‮.. ‬وهو كان من محبي الشاعر الكبير علي محمود طه الذي كان من الشعراء المثقفين الذين سافروا ورأوا وعاشوا،‮ ‬وكان يعجبه،‮ ‬يقول عبدالوهاب‮: ‬غنيت الجندول،‮ ‬وأذكر أن طه حسين رأي أن يحضر تسجيلاً‮ ‬للجندول،‮ ‬فصعد في دار الإذاعة القديمة أكثر من‮ ‬100‮ ‬درجة سلم ليتعرف علي اللحن،‮ ‬ثم قبلني بعد أن أعجب به‮.‬
تعود عميد لغتنا الجميلة د.طه حسين أن يزور مفتتحًا معارض الفنانين التشكيليين متفقدًا لوحات المصورين منهم والتماثيل والأعمال الخزفية للمثالين منهم،‮ ‬فإنه كان ينصت كل الإنصات لكل شرح ووصف كل قطعة حسب ما يشرحها ويصفها له صاحب المعرض حينئذ‮. ‬وليس مهما نور الرؤية بالنسبة لطه حسين،‮ ‬ولكني أعتقد أنه في إصراره وعناده هذا له سبب واحد هو إظهار تقديره وتشجيعه لحركة الفن في مصر،‮ ‬ومن بينها الفنون التشكيلية وهي الحركة التي أثارها مثال مصر محمود مختار وويصا واصف رئيس مجلس البرلمان وتحت قبته في بداية العشرينات لبعث فنانين مصريين للاستزادة من دراساتهم الفنية في أوروبا،‮ ‬فقد كان طه حسين يري في أثينا قديمًا وباريس حديثًا‮: ‬قبلة الحضارة المعاصرة،‮ ‬وفات طه حسين عظمة مصر القديمة،‮ ‬وهو معذور في ذلك لأنه تأثر بدراساته الباريسية التي تؤكد الخط الأوروبي،‮ ‬وكان بعض‮ ‬غلاة المتزمتين هناك يحاولون إسناد كل فروع الحضارة إلي اليونان العتيقة‮.. ‬وفاتهم وفاته أن الأصل هو النبع‮.. ‬هو مصر وفينيقيا وآشور وبلاد ما بين النهرين قديمًا،‮ ‬قبل أن تشرق شمس الحضارة قادمة من مصر أو‮ ‬غاربة عنها لحظة أن طلعت تشرق فوق رُبي جبال الأوليمب ومقدونيا وهضبات وجزر اليونان‮.. ‬عن منف وطيبة إذن أخذ العالم إلي ببلوس ونينوي،‮ ‬وعن الأربع تحركت إلي أثينا وروما‮.. ‬ثم كان التقدم الذي حرصوا علي تطويره فكانت لهم أوروبا الحديثة،‮ ‬وعنها أخذ العالم بكل ما فيه من عناصر وقيم،‮ ‬وهي رجع الصدي لحضارتنا‮.‬
رحلة العمر الطويل قد علمتنا أشياءً‮. ‬علمتنا أن سفينة الرحلة مهما نحسن صنعها ونضع فيها أدق الأجهزة فإن هناك بحرًا متلاطم الأمواج أحيانًا إلي حدٍ‮ ‬مخيفٍ‮.. ‬ولكن أخطر شيء فيه هو الرياح‮.. ‬تلك التي لا يمكن التنبوء بها وباتجاهاتها،‮ ‬فأنت تحكم سيرك في أحسن اتجاه،‮ ‬فإذا ريح تأتي من حيث لا تدري تقذف بك وباتجاهك إلي اتجاه آخر يبعدك عن هدفك،‮ ‬وعندئذ تحاول أن تصحح وضعك علي الخريطة فيستغرق ذلك منك جهدًا ووقتًا لم يكن في الحسبان‮.. ‬كثير من رجال الفكر والأدب والفن إذا سألتهم عن رأيهم في رحلة عمرهم أجابوا أن حسابهم اختل قليلاً‮ ‬أو كثيرًا،‮ ‬في برامج عملهم أو علي الأقل في القيمة التي كانوا يحلمون بها لأعمالهم‮.‬
إن من يقرأ كتاب‮ "‬مستقبل الثقافة في مصر‮".. ‬ويطلع علي رأي د.طه حسين في التعليم يشعر تمامًا أن د.طه عاش لعصره وللعصور المستقبلية‮.‬
إن رأيه يصلح لزمانه وزماننا،‮ ‬وأعتقد أنه يصلح للعصر القادم‮.. ‬عصر العولمة‮.‬
رأيه أن يتعلم الطفل ونؤسسه بالتربية والتعليم ونختار له المعلم المثقف المطلع علي مجريات العلوم،‮ ‬تذكرت هذا مع ما يقوله بلير رئيس وزراء انجلترا السابق‮.. ‬في سياسته عن التعليم بأنه يجب أن نعمل علي إيجاد المعلم السوبر ليدرس للأطفال،‮ ‬وحينما نريد أن نرقيه‮.. ‬يبقي أيضًا مدرسًا للأطفال‮.. ‬فلا يعين ناظرًا للمدرسة أو مدرسًا في الإعدادي أو الثانوي‮.. ‬أليست هذه هي فكرة د.طه حسين‮.‬
توفيق الحكيم
كان الرئيس السادات رحمه الله قد عهد إليّ‮ ‬برئاسة مجلس الوزراء نيابة عنه في الشهور الحاسمة التي كنا نعد البلاد فيها لتطهير أرضنا من أدران الاحتلال الإسرائيلي‮.. ‬وكانت خطتنا الأساسية في مواجهة الداخل والخارج قائمة علي الكتمان حتي لا يعرف أحد ما يدور وراء الكواليس،‮ ‬واعتمد الإعلام علي الخداع والتمويه حتي لا يتسرب أي خبر عما تعده الدولة من حشود‮. ‬ولكن الناس قد ضاقت بما تصورته موقفًا مائعًا،‮ ‬استفز ذلك المفكرين والأدباء وعلي رأسهم توفيق الحكيم وسانده نجيب محفوظ وثروت أباظة،‮ ‬فأصدر اتحاد الكتاب بيانا ملتهبًا صارخًا يندد بحالة التراخي وحالة اللاحرب واللاسلم،‮ ‬وقد أحدث هذا البيان أثره في الجمهور،‮ ‬خاصة وقد وقعه الرجل الهادئ الوديع والمثقف الكبير العالمي توفيق الحكيم‮.‬
ولكن ماذا أفعل؟ هل أفجر الموقف وأرد؟ هل أقول يا من تجلسون في النوادي وعلي الأرائك ناعمين،‮ ‬نحن نشقي ونكدح طوال الأربع والعشرين ساعة لنعد بلادنا لمعركة المصير،‮ ‬هل نسمح للإذاعة والتليفزيون بفتح النار علي الذين ينامون ملء جفونهم ليلاً‮ ‬بل ونهارًا،‮ ‬ونحن في حمي السهر ولا تغمض لنا عيون حتي تستعيد مصر كرامتها‮.‬
لا لم نفعل شيئًا من ذلك،‮ ‬وبرغم التقائي بتوفيق الحكيم فلم أشعره من قريب أو من بعيد بأن حرب التحرير قادمة‮.. ‬وكان هذا هو الخداع الاستراتيجي الذي استطاع به الإعلام أن يدخل مصر معركة النصر،‮ ‬وقد جاءت هذه الشهادة من موشي ديان نفسه،‮ ‬ويا ليت توفيق الحكيم كان حيًا ليسمع ويقرأ ما كتبه إيلي زعيرا مدير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في حرب أكتوبر‮ ‬1973‮ ‬ بعد أن قدموا للمحاكمة بلجنة عليا تسمي لجنة إجرانات فكتب مذكراته التي كشف فيها بعد عشرين عامًا كما يسمح بذلك القانون الإسرائيلي،‮ ‬كل شيء عن حرب أكتوبر،‮ ‬وأنه دافع عن نفسه،‮ ‬وأنه‮ ‬غير مسئول عن أن إسرائيل لم تعلم عن إعداد مصر للحرب إلا في صباح يوم‮ ‬6‮ ‬أكتوبر سنة‮ ‬1973‮ .‬
وقد جاءت شهادته في الصفحة‮ ‬178‮ ‬من مذكراته عن حرب يوم الغفران أي حرب أكتوبر‮ ‬1973،‮ ‬هذه الفقرة‮: ‬بقدر ما لدي من معلومات أن الذي حجب عن إسرائيل معلومات عن زيارة السادات للملك فيصل وعن اللقاء السوري المصري في‮ ‬23‮ ‬أغسطس بالإسكندرية،‮ ‬وأن الذي نشر معلومات مطمئنة لإسرائيل عن تأجيل الحرب إلي نهاية العام،‮ ‬كل ذلك يدل علي إمكانية أن المعلومات أي الإعلام كانت ضمن عملية الخداع المصرية‮.‬
إذ تبين فعلاً‮ ‬أن كل موضوع الإعلام كان من حملة خداع من جانب الرئيس المصري أو شخص ما آخر،‮ ‬فإن ذلك يعتبر أكبر نجاح لمصر في حرب يوم الغفران‮.‬
مؤامرة‮!‬
المهم أن طرائف توفيق الحكيم معي لا تنتهي،‮ ‬وكان مشهورًا بظرفه وخفة دمه،‮ ‬وأفكاره العظيمة التي يلبسها ثوب الفكاهة،‮ ‬حتي وهو علي سرير المرض،‮ ‬بل علي فراش الموت،‮ ‬فقد كنت أزوره في مرضه الأخير بالمستشفي،‮ ‬وحينما جلست بادرني من فوره قائلاً‮:‬
إيه رأيك تجيش نعمل مؤامرة علي الحكام؟ فلما رأي دهشتي في ثوب ابتسامتي قال‮: ‬هي فعلاً‮ ‬مؤامرة لكن لخير الجميع ولمصلحة البلد،‮ ‬وليس فيها شر،‮ ‬فلما استوضحته أبان عن فكرته في الآتي‮: ‬ننشئ مدارس خاصة للنوابغ‮ ‬في الابتدائي ثم الثانوي،‮ ‬ونتعهدها بالوسائل الحضارية في التربية والتثقيف وفي إدارة الشئون السياسية،‮ ‬فإذا تخرجوا من الجامعة ندربهم علي شئون الحكم،‮ ‬كما يدرب رجال الأحزاب كوادرهم السياسية،‮ ‬وبذلك تكون البلد فيها أعداد كبيرة من الذين يصلحون للحكم،‮ ‬نختار منهم أفضلهم،‮ ‬بدلاً‮ ‬عن حصر الاختيار في واحد أو اثنين‮.‬
وكانت هذه إحدي‮ "‬نكات‮" ‬أو‮ "‬قفشات‮" ‬أو‮ "‬إبداعات‮" ‬الراحل توفيق الحكيم والتي خصني بها قبل رحيله‮.‬
بعد وفاة توفيق الحكيم فكرت فيما سماه المؤامرة علي الحكم بإنشاء نوع من التعليم ليقابل الحياة المستقبلية وأن تكون هناك مدرسة للمتفوقين‮.. ‬نرعاهم‮.‬
وكنت أكتب الآن كتابًا خاصًا بالعولمة‮ ‬Globilization وأن العالم يسير في اتجاه جديد اسمه العولمة،‮ ‬وأخذت أفكر بعد أن درست العولمة،‮ ‬فوجدت أن ما يحتاجه العالم الجديد هو عقول جديدة‮ ‬New Mind for the New World. وكيف يمكن أن نعمل علي إنشاء هذه العقول الجديدة وما هي شروطها‮:‬
يجب أن نؤمن بعلم المستقبل‮ ‬Futurology أي إستراتيجية لكل نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليم‮.. ‬إلخ‮.‬
أن هناك متغيرات يجب أن نتعامل معها وعلي أساسها‮.‬
‮ ‬أن هناك تحديات يجب أن نصمد لها ونواجهها‮.‬
فعالم الغد لا يحترم الضعفاء ولا يقيم وزنًا للجهلاء،‮ ‬فإذا كانت هناك بادرة أمل،‮ ‬تلوح‮.‬
أما رأي توفيق الحكيم‮.. ‬في رفض جان بول سارتر لجائزة نوبل وقيمتها وقتئذ‮ ‬50‮ ‬ألف دولار التي أهدتها له السويد في أكتوبر‮ ‬1964،‮ ‬وسبب الرفض الذي أعلنه هو أن الجائزة تحرج اتجاهه ومبدأه السياسي والاجتماعي والفكري عندما يختلط بمبادئ هيئة الجائزة السويدية نوبل‮.‬
فقد قال الحكيم‮.. ‬إنني أوافق جان بول ساتر،‮ ‬وكذلك رفض باسترناك الجائزة لنفس السبب‮.‬
إن المحرج بالنسبة لكتاب وشعراء ومفكرين مثل سارتر وباسترناك هو أن جائزة نوبل تصدر عن دولة واحدة لها وضعها السياسي والاجتماعي،‮ ‬وعن محكمين ينتمون إلي هذه الدولة وحدها‮.. ‬ثم سألته‮.. ‬وما العمل؟
هل يمكن بحث هذا الاقتراح‮.. ‬الذي يجعل مبدأ الجائزة الدولية متمشيًا مع روح وأوضاع العصر الذي نعيش فيه؟
آخر ما كان يتوقعه توفيق الحكيم صاحب‮ "‬عودة الروح‮" ‬أن يتلقي أكبر وسام للدولة‮ (‬قلادة النيل‮) ‬وهو الوسام الذي أهداه له عبد الناصر تقديرًا لجهوده الأدبية،‮ ‬وما أداه وألفه وكتبه،‮ ‬فأعلي من شأن الأدب القصصي والمسرحي العربي‮.‬
إن الحكيم‮.. ‬مهما بلغ‮ ‬من العمر،‮ ‬فما زال قلمه فتيًا مقدامًا شابًا جادًا أو ساخرًا متهكمًا،‮ ‬وأحيانًا ناسكًا متعبدًا متأملاً‮ ‬يكاد أن يصبح متصوفًا‮.‬
عرف الحكيم كيف يتفرد بأدبه علي جسر الحوار في إطار توأم حياته‮: ‬الفن‮.‬
ولد توفيق الحكيم مع جيل العمالقة ولمع بينهم،‮ ‬وودعهم،‮ ‬وكان مع العمر أطولهم‮.‬
توفيق الحكيم صاحب‮ "‬عودة الروح‮"‬
كتب توفيق الحكيم في عام‮ ‬1922‮ ‬رواية‮ "‬عودة الروح‮"‬،‮ ‬ويعود بنا الحكيم إلي عام‮ ‬1919‮ ‬حيث يصور أسرة من الطبقة المتوسطة ومن خلال حياتها اليومية يعرض تشريحًا للمجتمع المصري في ذلك الوقت اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا،‮ ‬ويعتبر توفيق الحكيم هو أب المسرح المصري الحديث،‮ ‬ولذلك أصدرت قرارًا بإنشاء مسرح يسمي باسمه‮ "‬مسرح توفيق الحكيم‮"‬،‮ ‬وعينت مجلس إدارة له من الأساتذة رشاد رشدي ولطفي الخولي ونبيل الألفي،‮ ‬وخصصت له ندوات و"مجلة المسرح‮".‬
وإذا عدنا إلي‮ "‬عودة الروح‮" ‬فإنها عاشت في وجدان أدباء مصر ومثقفيها الشبان في صباهم وشبابهم،‮ ‬وأسهمت في بنائهم النفسي والعقلي،‮ ‬كان المثقف المصري يري أن عبقرية توفيق الحكيم في كتابته لعودة الروح تكمن في تحليله للإنسان المصري،‮ ‬وكان يشعر بالزهو والشموخ وهو يقرأ رأي مسيو فوكيه الفرنسي مفتش الآثار وهو يقول عن الإنسان المصري وعن جوهره القلب والروح،‮ ‬وكان يتطلع بفارغ‮ ‬الصبر إلي المستقبل مترقباً،‮ ‬ويعد نفسه ليوم يشارك فيه في صنع معجزة أخري‮ ‬غير الأهرام،‮ ‬ولذلك قررت عرض هذه الرواية في مسارح التليفزيون وأسندت لإخراجها هذا الشاب الجديد الذي وصل من بعثة من فرنسا هو جلال الشرقاوي،‮ ‬وللرواية عدة أبعاد‮:‬
نشوء طبقة جديدة بسلالة جديدة نتيجة التزاوج بين أعيان الفلاحين الذين أثروا،‮ ‬وبين الفتيات التركيات اللاتي لا ثروة لهن إلا جمالهن وأصلهن التركي،‮ ‬وهي علاقة شبيهة بما حدث في أوروبا في بداية عصر النهضة حيث امتهن عبيد عصر الإقطاع الزراعة وملكوا المصانع مكونين الطبقة البرجوازية وتزوجوا من طبقة النبلاء التي أفلست ولم يبق لها إلا الأصل واللقب‮.‬
البعد الثاني المقارنة بين الفلاح والبدوي‮.. ‬الفلاح أصيل وطيب،‮ ‬والبدوي شرير ولا ينسي الثأر‮.‬
البعد الثالث وهو بعد هام يكمن في وجهة نظر أحد المثقفين الأجانب في مصر وروحها وجوهرها‮.‬
آراء لتوفيق الحكيم
الحاكم الناجح الذي أراد الخير لمصر والنجاح لمهمته بدأ مهمته بسؤال‮: ‬ماذا أريد لمصر‮.. ‬أما الذين لم يهدفوا لخيرها‮.. ‬كان سؤالهم‮: ‬ماذا يريدون من مصر،‮ ‬وفرق كبير بين الاثنين،‮ ‬الفراعنة يريدون لمصر فكان لهم الخلود‮.. ‬أما الذين كان همهم ماذا يريدون من مصر فقد كانت هناك مراحل الضعف‮.‬
الحاكم الناجح هو الذي يختار مستشاريه اختياراً‮ ‬جيداً،‮ ‬ورئيس الدولة هو مايسترو الأمة،‮ ‬أو هو كالمايسترو والفرقة الموسيقية،‮ ‬بصرف النظر عن حبه أو عدم حبه للمستشارين‮.‬
الحاكم الناجح لا يخضع لجملة‮ "‬الشعب عاوز إيه‮"‬،‮ ‬بل‮ "‬الشعب يجب أن يكون إيه"؟‮.‬
الحاكم الناجح لا يجب أن يخشي من إيقاظ عقول الجماهير بل علي العكس يسعد بذلك‮.‬
السعادة إحساس بالرضا التام تشعر بها بعد أن تذهب،‮ ‬وتأتي من‮ ‬غير أن تشعر بها،‮ ‬علي عكس الغم‮.. ‬ربما يوم بكيت منه فلما انقضي بكيت عليه‮.‬
الحياة يقظة بين نومين‮.‬
العقاد‮ ‬
كان العقاد مشهورًا بقامته ومعرفته وقدرته علي التعبير بطريقة فذة،‮ ‬حتي سماه الزعيم سعد زغلول‮: ‬الكاتب الجبار‮.‬
ولكن بحكم معرفتي بالعقاد فإن أهم ما لمسته هو شخصيته،‮ ‬ولا أظن أن ذلك خفيّ‮ ‬علي أحد ممن عرفه‮.‬
غير أني ميزت صفتين أساسيتين في هذه الشخصية هما الصلابة،‮ ‬والاعتداد بالنفس الذي يطوي بين جوانحه ما نسميه الإباء والشمم وربما الكبرياء،‮ ‬بل والعناد في بعض الأحيان‮.‬
إن هاتين الصفتين وتوابعهما أظهرت لنا العقاد‮ "‬العصامي‮" ‬الذي اعتمد علي ذاته فعلمها وثقفها وسلّحها،‮ ‬وخاض بها‮ ‬غمار الحياة يلاطم أمواجها ويلاطم أيضًا الناس دون أن يهاب‮.‬
ومن أهم حواراتي مع العقاد ما كان يحدث من خلال‮ "‬التليفون‮" ‬للحديث عن بعض جوانب الفنون أو عن بعض كتبه،‮ ‬وكذلك حواراتنا أيام كان عضوا بالمجلس الأعلي لرعاية الفنون والأداب الذي كنت أشرف برئاسته،‮ ‬وكنت أعرف ويعرف الجميع الظروف المعيشية الصعبة التي يمر بها،‮ ‬ولم يكن المجلس يصرف للأعضاء أية مرتبات ولكنه كان يصرف لهم بدل انتقال مقداره خمسون جنيها فقط،‮ ‬ويبدو أن الناس كانوا يتصورن هؤلاء العمالقة من الأغنياء،‮ ‬ولكن الحقيقة أنهم كانوا أغنياء في علمهم ومعرفتهم وثقافتهم ومواقفهم،‮ ‬ولكنهم كانوا فقراء حقاً‮ ‬من حيث المال‮.‬
وهذا يسوقني إلي واقعة مع العقاد‮ -‬رحمه الله‮- ‬فقد عرفت أنه عزم علي بيع مكتبته ليواجه نفقاته اليومية ونفقات علاجه،‮ ‬فانتهزت الفرصة وأنا وزير للثقافة والإعلام في هذه الفترة ورأيت أن تقوم الحكومة بمعاونة العقاد بزعم أنها ستشتري مكتبته،‮ ‬والحقيقة أنني كنت أريد إنقاذ هذا العملاق من هذه الضائقة الخانقة،‮ ‬علي أن تظل مكتبته كما هي،‮ ‬وقمت فعلاً‮ ‬بإرسال‮ ‬5000‮ ‬جنيه إلي العقاد باعتبارها ثمنًا لمكتبته،‮ ‬ولكنه أدرك بحدسه وذكائه أن المقصود بذلك هو معاونته في هذه الظروف،‮ ‬فرفض المبلغ‮ ‬برغم أنه من الدولة ولم يكن من جيبي الخاص،‮ ‬ولكنه إباء العقاد وصلابته حتي مع نفسه،‮ ‬ولعلها هي التي قادته إلي السجن أيام الملك فؤاد حين قال في مجلس الشيوخ‮: ‬إننا قادرون علي سحق أكبر رأس في هذا البلد‮.‬
وأهم ما يلفت النظر فيما تبوأه العقاد من مكانة رفيعة دون مؤهلات من التعليم الرسمي أن مصر ليست كما يقولون‮- ‬بلد شهادات‮. ‬
يروي العقاد في سيرته عن نفسه أن الإنسان يعرف نفسه بالتخمين لا بالتحقيق،‮ ‬ويبدو أنه يقصد هنا معرفة الباطن لا معرفة الظاهر،‮ ‬ونحن هنا نتحدث عن هذا الظاهر الذي يراه الناس ويعرفونه ويلمسونه‮.‬
والناس تعرف عن العقاد صفات عديدة،‮ ‬منها وضوحه في التعبير عن ذاته،‮ ‬وحدته وشدته إذا شعر أن شيئًا ما قدمه أو أساء إليه،‮ ‬وشموخه في فكره وفي سلوكه،‮ ‬وكل ذلك ذلك يمكن أن يجمعه عنوان واحد هو اعتداده بذاته‮.‬
وإذا كان العقاد لم يذكر هذه الصفات في الحديث عن نفسه فقد أورد كثيرًا من الحوادث أو الحكايات التي تشي بذلك،‮ ‬وربما كان من بواعث اعتداده أن الإمام محمد عبده زار مدرسة أسوان الابتدائية،‮ ‬ودخل الفصل الدراسي الذي كان العقاد أحد تلاميذه،‮ ‬وطلب أن يعرف كيف يعبر التلاميذ في كتابتهم،‮ ‬فقرأ العقاد أحد موضوعات الإنشاء التي كتبها،‮ ‬فحاز إعجاب الاستاذ الإمام الذي عقب بقوله عن العقاد التلميذ الصغير‮: ‬ما أحري هذا أن يكون كاتبًا بعد‮.‬
وظلت هذه الجملة مبعث اعتداد العقاد واعتزازه،‮ ‬وربما كانت من أسباب حب العقاد للشيخ محمد عبده الذي لم يفارقه حتي وفاته‮.‬
وعلي العكس من ذلك كان العقاد علي‮ ‬غير مودة مع مصطفي كامل دون خصومة أو كراهية،‮ ‬ويشير العقاد إلي أن سبب هذه الجفوة التي صاحبته طويلاً،‮ ‬أن الزعيم مصطفي كامل زار مدرسة أسوان كما زارها الشيخ محمد عبده،‮ ‬ووقف الزعيم يسأل التلاميذ عن سر الجمال في بيت من الشعر يتحدث عن الغمام،‮ ‬فلم يتمكن أحد من إجابته،‮ ‬فوقف العقاد ليقول للزعيم‮: ‬نحن هنا لا نري السحاب في سماء أسوان،‮ ‬ولذلك فلا تأثير له في نفوسنا،‮ ‬وهذا هو السبب الذي جعل التلاميذ يتعثرون في الإجابة،‮ ‬ولم يعجب هذا الرد مصطفي كامل،‮ ‬ونظر في استياء إلي العقاد،‮ ‬ثم‮ ‬غادر الفصل‮.‬
واعتداد العقاد بذاته ومواقفه وآرائه،‮ ‬جعله متمسكًا بها لا يكاد يغير آراءه في الناس والأشياء والحوادث،‮ ‬ويوضح ذلك قصيدته التي قالها عند خروجه من السجن بتهمة العيب في الذات الملكية،‮ ‬إذ يقول في مطلعها‮:‬
بقيت جنين السجن تسعة أشهر
وها أنا ذا في ساحة الخلد أولد
عداتي وصحبي لا خلاف عليهما
سيعهدني كل كما كان يعهد
ومن طرائف هذا الاعتداد المبكر أن العقاد عندما دخل المدرسة لأول مرة،‮ ‬اختار له مدرس الفصل اسمًا مزدوجًا هو عباس حلمي،‮ ‬وكان ازدواج الأسماء قاعدة في هذا الوقت،‮ ‬كما كان هذا الاسم هو اسم خديوي مصر عباس حلمي الثاني،‮ ‬ولكن العقاد الصغير رفض هذا الاسم،‮ ‬وكلما ناداه المدرس به لم يرد،‮ ‬وأصر علي هذا الرفض حتي رأت المدرسة الاكتفاء باسمه الأصلي،‮ ‬وظل هو التلميذ الوحيد الذي لم يتغير اسمه‮.‬
وإذا كانت حادثة الصغر تنبئ عن تفرد مبكر ظل ملازمًا لصاحبه طوال عمره،‮ ‬فربما كان لهذا الاعتداد أثره في شظف حياة العقاد الذي يعرفه الجميع،‮ ‬فقد تفوته فرصة الحصول علي المال الذي هو في أشد الحاجة إليه بسبب اعتداده الذي جعله شديد التمسك بما يقول أو يفكر أو يعاهد أو يتفق مع أحد،‮ ‬سواء كان مفكرًا أو صديقًا أو بائعًا أو ناشرًا‮.‬
وتوضح ذلك القصة الآتية‮:‬
تعود بعض الأثرياء مند بدايات هذا القرن ال20،‮ ‬أن يعاونوا في نشر كتب التراث،‮ ‬أو في طبع كتب بعض المؤلفين علي نفقتهم،‮ ‬أو بدفع مبالغ‮ ‬كبيرة لبعض الكتاب ليضعوا علي كتاب لهم‮: ‬طبع علي نفقة فلان،‮ ‬وقد حاول بعض الأثرياء من الإخوة العرب أن يفعلوا ذلك مع العقاد،‮ ‬ولكنه أبي،‮ ‬فرأي بعضهم أن يتعاقد معه علي شراء حق نشر أحد كتبه فوافق علي ذلك،‮ ‬واتفقا علي أن يتم توقيع العقد في بيت العقاد في يوم محدد،‮ ‬وفي ساعة محددة،‮ ‬وكان العقاد شديد الاهتمام بدقة مواعيده،‮ ‬فقبل الوقت المحدد ترك مكتبه،‮ ‬وارتدي ثيابه الرسمية وجلس ينتظر في‮ ‬غرفة الاستقبال التي كان يعقد فيها ندوته،‮ ‬وحل الموعد،‮ ‬ومضت بضع دقائق ولم يحضر الثري،‮ ‬فانتظر العقاد حتي مضت نصف ساعة كاملة فغادر‮ ‬غرفة الاستقبال وغير ثيابه وجلس إلي مكتبه يتابع كتاباته،‮ ‬وحينئذ دق جرس الباب فغادر العقاد حجرة المكتب وتوجه إلي باب‮ "‬الشقة‮" ‬وفتح شراعة الباب الزجاجية فوجد الثري واقفًا يسلم عليه،‮ ‬فرد عليه السلام ثم قال للثري‮: ‬عباس العقاد مش موجود‮.‬
وهكذا رضي العقاد لنفسه أن يضيع مبلغًا كبيرًا من المال هو في أشد الحاجة إليه‮.‬
ومن طرائفه التي حدثني عنها ولم يذكرها في سيرة حياته أو مقالاته،‮ ‬قصة تقع موضع النكت التي اشتهر بها العقاد،‮ ‬ولكنها تعبر في جانب من جوانبها عن اعتداده واعتزازه بذاته ومكانته‮.‬
وقد حدثت هذه القصة عند إجراء الانتخابات الأولي للاتحاد الاشتراكي حيث تدافعت أعداد‮ ‬غفيرة لترشيح أنفسهم فيما كان يسمي بالوحدات الأساسية،‮ ‬وخاصة من الطبقة العاملة،‮ ‬حتي بلغ‮ ‬عدد المرشحين في بعض الوحدات أكثر من مئة شخص‮.‬
وهكذا كان الحال في الوحدة التي كان يقع مسكن العقاد في نطاقها بمصر الجديدة،‮ ‬ولم يقدر كثير من المرشحين ظروف هذا المفكر الأديب الذي يحتاج إلي كل دقيقة من وقته ليكتب،‮ ‬لأن الكتابة كانت حياته،‮ ‬كما أنها كانت مورد رزقه الوحيد،‮ ‬فتوافد عليه المرشحون واحدًا بعد الآخر،‮ ‬فكان يستقبل كل قادم بابتسامة هادئة ويصرفه في رفق،‮ ‬ولكن مع كثرة توافدهم واحدًا بعد آخر،‮ ‬بدأ يضيق بهذا الإلحاح الذي يستنفد طاقته وجهده،‮ ‬حتي طرق بابه مرشح شديد الإلحاح،‮ ‬وأصر علي أن يتحدث إلي العقاد ليشرح له دوره وبرنامجه الانتخابي،‮ ‬وبدأ الرجل يتحدث فقال‮: ‬يا أستاذ عقاد أنت رجل عصامي وأنا رجل عصامي،‮ ‬لذلك أنا أطمع في صوتك لأنك من أبناء الشعب وأنا من أبناء الشعب،‮ ‬فقال له العقاد‮: ‬انت بتشتغل إيه؟ فرد عليه الرجل‮: ‬أنا عربجي‮.. ‬فقال له العقاد‮: ‬عربجي بحصان،‮ ‬ولا عربجي بحمار؟ فقال الرجل‮: ‬عربجي بحصان،‮ ‬فقال له العقاد‮: ‬يفتح الله يا عم،‮ ‬تبقي برجوازي،‮ ‬وأنا لن أعطي صوتي إلا لعربجي بحمار،‮ ‬عشان يبقي راجل شعبي بصحيح‮.‬
وكان العقاد‮ -‬رحمه الله‮- ‬يروي هذه النكتة ويضحك ويقول‮: ‬كنت أضن بصوتي علي الزعماء،‮ ‬وصاحب الحصان عاوز يأخذ صوتي‮.‬
ومع ما في هذه الحدوتة من طرافة إلا أنها لا تخلو أيضًا من لمحة تشير إلي موضوع الحديث عن صفة الاعتداد الراسخة في طبيعة العقاد‮.‬
مصطفي أمين
‮"‬المتهم البريء‮"‬
إذا كانت ريادة مصر العربية تتمثل في رموز ورواد،‮ ‬فقد كان مصطفي أمين شهابًا وهاجًا في سماء مصر،‮ ‬وكذلك في آفاق الأمة العربية،‮ ‬يرسل نبضات لامعة تضيء سبيل الفن الصحفي لمرتاديه،‮ ‬وإنني لأتذكر الدور الوطني الذي قام به مصطفي أمين إبان العدوان الثلاثي علي مصر‮ ‬1956‮ ‬وقت أن حاصرت قوات العدوان مصر،‮ ‬وكنت المتحدث الرسمي للدولة المسئول عن الإعلام،‮ ‬فأرسلت المصور العالمي الهولندي‮ "‬اندرسون‮" ‬إلي بورسعيد حيث التقط صورًا فوتوغرافية عن تدمير طائرات العدو للمساجد والكنائس والمدارس والمنازل‮.. ‬وتسلل‮ "‬اندرسون‮" ‬من بورسعيد إلي القاهرة حيث طبع آلاف الصور في مجلات باللغات الأجنبية تبين آثار العدوان،‮ ‬وكان علينا أن نرسل هذه المجلات إلي أصدقائنا والرأي العام في الخارج لنظهر وحشية المعتدين‮.‬
وإزاء الحصار الجوي والبحري علي مصر،‮ ‬أبدي مصطفي أمين رغبته في أن يقوم بطائرة خاصة تطير إلي الخارج بارتفاع منخفض حتي لا يكشفها رادار الأعداء،‮ ‬وقام بذلك معرضًا حياته للخطر،‮ ‬وسافر إلي إنجلترا ومنها تم التوزيع لأنحاء العالم،‮ ‬مما كان له أكبر الأثر في الرأي العام العالمي‮.‬
وبالنسبة لي كان مصطفي أمين صديقًا ودودًا لا تغيره الظروف،‮ ‬ولا تكدر صفو مودته الأحدث‮.‬
وقد شاء الله أن ألتقي به أكثر من مرة في الشهر الأخير من حياته،‮ ‬ثم طلب فجأة منذ أيام قبل رحيله أن يراني،‮ ‬فالتقينا قبل أسبوع‮ -‬من انتقاله إلي الرفيق الأعلي‮- ‬واستمر لقاؤنا أكثر من ساعتين،‮ ‬فوجدته كما عهدته‮: ‬محبًا،‮ ‬متفائلاً،‮ ‬صامدًا في مرضه،‮ ‬صابراً‮ ‬في معاناته،‮ ‬واستعرضنا شريط الماضي وذكرياتنا وآمال الغد لشعبنا‮.. ‬ولم أكن أدري أن هذا هو اللقاء الأخير‮.‬
تسجل الصور بعدًا مهما من أهم ملامح تكوينه الصحفي‮.. ‬وهو البعد الإنساني وعلاقته الدائمة بالناس‮.. ‬البسطاء والعمالقة‮.. ‬الضعفاء والأقوياء‮.. ‬الشباب والشيوخ‮.. ‬الرجال والنساء،‮ ‬وكيف كان يعتبر أن الناس ومعرفة الناس والاتصال بهم هي الجنة الحقيقية في حياة الإنسان،‮ ‬كان يكتب بنبض قلبه عنهم ولهم‮.‬
نتوقف قليلاً‮ ‬عند أحزان مصطفي أمين وأولها‮: ‬تأميم الصحافة عام‮ ‬1960‮ . ‬ثم المعتقل السياسي الذي قضي به تسع سنوات من عام‮ ‬1965‮ ‬إلي عام‮ ‬1974،‮ ‬فوفاة نصفه الثاني علي أمين في‮ ‬3‮ ‬أبريل عام‮ ‬1976‮ .‬
1951‮: ‬ألقي القبض علي مصطفي أمين‮ ‬26‮ ‬مرة خلال هذا العام،‮ ‬بسبب ما ينشر في الجريدة،‮ ‬وتعرضت الجريدة لأزمات طاحنة هددتها بالإفلاس عدة مرات بسبب استقلالها في الرأي ومواقفها الوطنية‮.‬
21‮ ‬يوليو‮ ‬1965‮: ‬ألقي القبض علي مصطفي أمين بتهمة التخابر مع المخابرات الأمريكية،‮ ‬وصدر الحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة في‮ ‬21‮ ‬أغسطس‮ ‬1966‮ .‬
أثبتت التحقيقات التي أجراها المدعي الاشتراكي قصة التعذيب الرهيب الذي تعرض له لإرغامه علي الاعتراف بجريمة لم يرتكبها دبرتها له مراكز القوي،‮ ‬وأعلن في محاكمته أن اتصالاته بالولايات المتحدة كانت بموافقة الرئيس جمال عبد الناصر بعد الدور المشرف الذي قام به إثر العدوان الثلاثي عام‮ ‬1956‮ ‬للدعاية لمصر في الولايات المتحدة‮.‬
1976‮: ‬صار كاتبًا متفرغًا لعموده‮ "‬فكرة‮" ‬بالأخبار وأخبار اليوم ومشرفًا علي عدد ضخم من المشروعات الإنسانية التي أنشأها هو وتوأمه علي أمين‮.. ‬وهي‮: ‬ليلة القدر‮.. ‬لست وحدك‮.. ‬أسبوع الشفاء‮.. ‬باب‮ "‬نفسي‮".. ‬مساعدة‮ "‬الطلبة‮" ‬والمستشفيات،‮ ‬وأنشأ دار الأيتام بمدينة‮ ‬6‮ ‬أكتوبر‮.‬
أصدر العديد من المؤلفات الأدبية والصحفية‮.. ‬وسجل بقلمه تجربته القاسية في المعتقل السياسي في تسع كتب وروايات‮.. ‬هي‮:‬
‮"‬سنة أولي سجن‮.. ‬سنة ثانية سجن‮.. ‬سنة ثالثة سجن‮.. ‬سنة رابعة سجن‮".. ‬وكذلك رواية‮ "‬لا‮" ‬و"صاحب الجلالة الحب‮".. "‬صاحب الجلالة في الزنزانة‮".. ‬و"سنة أولي حب‮".‬
ألف قصتين للسينما هما‮ "‬معبودة الجماهير‮".. ‬و"فاطمة‮"‬،‮ ‬وتحولت‮ "‬سنة أولي حب‮" ‬إلي فيلم سينمائي‮.. ‬وروايتي‮ "‬لا‮" ‬و"الآنسة كاف‮" ‬و"سنة أولي حب‮" ‬إلي مسلسلات تليفزيونية‮.‬
تزوج السيدة إيزيس طنطاوي بعد خروجه من المعتقل السياسي عام‮ ‬1974‮ ‬والتي رافقته طوال رحلة حياته حتي اللحظات الأخيرة‮.. ‬وأوصي أن تتولي رئاسة جمعية مصطفي وعلي أمين الخيرية‮.‬
يقول‮: ‬كيف أحسب عمري‮.. ‬بالصحف التي أصدرتها أو اشتركت في تحريرها؟ بعدد تلاميذي أم بعدد قرائي؟ بالانتصارات التي حققتها أم بالهزائم التي منيت بها؟
بالمرات التي خفق فيها قلبي‮.. ‬أم بالصداقات الحلوة التي تمتعت بها؟ أحب أن العمر هو كل هذا،‮ ‬ولو كانت هذه القاعدة الحسابية صحيحة‮.. ‬فلابد أنني عشت ألوف السنين‮!.‬
أحيانًا تكون الكلمة عنده بلسمًا يلطف من قسوة الحياة عند الضعفاء والبسطاء‮.. ‬وأحيانًا تكون سيفًا مشهرًا في وجه الظلم والقهر والطغيان،‮ ‬وكان دائمًا يري أن الحرية كالشمس من حق كل مواطن أن يتمتع بها،‮ ‬وأن حقوق الإنسان أيضًا كأشعة الشمس وليس من حق أحد أن يفرض الظلام علي شعب من الشعوب‮.‬
وكانت جائزة مصطفي أمين وعلي أمين التتويج الحقيقي لمشاعر الأب الذي يحتضن أبناءه،‮ ‬ويشجعهم،‮ ‬ويحفزهم علي المزيد من النجاح والتميز في بلاط صاحبة الجلالة‮.‬
فحصول صحفي علي هذه الجائزة ذات المكانة الرفيعة كان بمثابة حصوله علي وسام شرف‮.. ‬من عملاق الصحافة وأستاذ الأجيال مصطفي أمين‮.‬
كان دائمًا يفكر في الغد‮ "‬لم نعش في الأمس أبدًا،‮ ‬كنا نكتب أحلامنا علي الورق ونحاول أن نحقق ما كتبناه،‮ ‬وكنا نكتب أحلامنا في مفكرة ونسجل في صفحة أول يناير ما نتمني أن نصنع قبل آخر يوم في شهر ديسمبر‮.‬
والغريب أننا حققنا جميع أحلامنا كما تمنيناها‮.. ‬ولكن شيئًا واحدًا لم يخطر ببالنا وهو أن يموت واحد منا ويبقي الآخر علي قيد الحياة‮".‬
عرفته في بطن أمي‮!. ‬ولدتنا أمنا توأمين،‮ ‬ولد هو أولا وولدتُ‮ ‬بعده بخمس دقائق‮.. ‬وولد‮ "‬علي‮" ‬سميناً‮ ‬وولدتُ‮ ‬نحيفًا حتي أن الأطباء خشوا أن أموت من شدة الضعف،‮ ‬وكان تشابهنا عجيبًا،‮ ‬وكان من الصعب أن تعرف أمنا من هو علي ومن هو مصطفي؟‮!.‬
وقد علمتنا بأن وضعت في يدي شريطًا أزرق ووضعت في يد أخي شريطًا أحمر‮.‬
وحفل العدد الأول من‮ "‬أخبار اليوم‮" ‬بمقالات لكبار الكتاب المعروفين مثل‮: ‬توفيق الحكيم،‮ ‬ومحمود عزمي،‮ ‬والسندباد البحري،‮ ‬والصاوي وابن البلد،‮ ‬كما تضمن رسومًا كاريكاتورية لرخا وصاروخان،‮ ‬وقدم مصطفي أمين جريدته الجديدة بهذه السطور‮ "‬نريد جيلاً‮ ‬جديدًا من الرجال والنساء،‮ ‬جيلاً‮ ‬وطنيًا متحمسًا،‮ ‬يضحي بنفسه في سبيل رأيه ولا يعني برأيه في سبيل شخصه‮. ‬نريد للشباب المصري كرامة لا تهورًا،‮ ‬ووطنية لا تعصبًا وإيمانًا لا ادعاءً‮".‬
في مكتبه بالأخبار كان يعيش عالما خاصا وفريدا‮.. ‬فالكتابة بالنسبة لمصطفي أمين هي الأكسجين الذي يتنفسه‮.. ‬والأوراق والريشة هما نبض قلبه الحقيقي‮.. ‬وكل حياته‮.‬
يقول عن سعد زغلول‮: ‬كان الدافع إلي اهتمامي بثورة‮ ‬1919‮ ‬أنني ولدت في بيت الأمة،‮ ‬بيت سعد زغلول،‮ ‬وكان هذا البيت هو مركز قيادة الثورة،‮ ‬وأنني عشت مع قائد الثورة‮ ‬13‮ ‬سنة في بيت واحد،‮ ‬فقد كان سعد زغلول خال أمي،‮ ‬وكان قد تبناها بعد وفاة أبويها،‮ ‬كنت أنادي سعد زغلول‮: "‬يا جدي‮" ‬وأنادي زوجته أم المصريين صفية زغلول‮: "‬يا ستي‮".‬
ويقول عن السادات‮: ‬تعرفت علي السادات لأول مرة عندما اتهم بقتل أمين عثمان،‮ ‬وكنت ضمن المدافعين عنه،‮ ‬وقمنا بحملة صحفية كبيرة هزت الرأي العام،‮ ‬وعندما أصبح رئيسًا للجمهورية،‮ ‬أبقاني في السجن أربع سنوات‮!.. ‬ثم قابلته أم كلثوم وقالت له‮: ‬مصطفي أمين بريء‮.. ‬فقال لها‮: ‬بعد المعركة سأخرجه‮.. ‬وفعلاً‮ ‬خرجت من السجن بعد حرب أكتوبر ببضعة شهور‮.. ‬في عام‮ ‬1974‮ .‬
وعن مبارك‮: ‬لم ألتقِ‮ ‬بالرئيس مبارك إلا عندما عين نائبًا لرئيس الجمهورية،‮ ‬ولاحظت أنه يكتب ملحوظات عن كل ما يدور في اللقاء،‮ ‬وشعرت أنه يريد أن يعرف كل شيء وليس مغرورًا أبدًا،‮ ‬ولما أصبح رئيسًا للجمهورية قابلته وطرح في اللقاء أفكارًا كثيرة،‮ ‬وعندما خرجت من اللقاء جاءني صحفيون يسألونني عن رأيي،‮ ‬فقلت لهم‮: ‬مصر رجعت للمصريين‮.‬
أنا أتفق مع الرئيس حسني مبارك مائة في المائة،‮ ‬في السياسة الخارجية‮.. ‬أما في السياسة الداخلية أعتقد أن من المصلحة أن يصدر دستورًا جديدًا تقوم بإصداره جمعية وطنية منتخبة انتخابًا حرًا،‮ ‬ويحذف من الدستور الحالي كل بقايا حكم الفرد‮.‬
في عام‮ ‬1960‮ ‬صدر القرار الجمهوري بتنظيم الصحافة،‮ ‬أي تأميم الصحف،‮ ‬تلقاه الجميع بصدمة إلا مصطفي وعلي أمين،‮ ‬تقبلاه بروح عالية،‮ ‬وكانت كلمة مصطفي أمين في ذلك اليوم تؤكد علي هذا المعني‮.‬
قال‮: "‬إننا نكتب الآن في‮ "‬أخبار اليوم‮" ‬ونحن نشعر أننا أصحابها‮.. ‬وقد كنا في الماضي نكتب فيها ونحن نشعر أننا عمالها‮".‬
لقد كانت أخبار اليوم ثلاثة طوابق‮.. ‬ووضعنا مشروعًا لرفعها إلي‮ ‬11‮ ‬طابقًا،‮ ‬وجاءنا مدير أخبار اليوم وقال لنا‮ "‬إن النية متجهة إلي نقل ملكية الصحف إلي الشعب وخير لنا أن نبقي ثلاثة طوابق،‮ ‬ونوفر المال لنحتفظ به لأنفسنا في مشروع آخر‮".‬
وقلت له يومها‮: ‬إنني أفضل أن أسلم الشعب‮ "‬أخبار اليوم‮" ‬وهي‮ ‬11‮ ‬طابقًا علي أن أسلمها للشعب وهي ثلاثة طوابق فقط‮.. ‬وهذا ما حدث فعلاً‮.‬
اليوم أعبر أول خطوة من خطوات الحرية‮.. ‬بعد أن عشت في ظلام السجن حوالي تسع سنوات‮.‬
ولا أستطيع وأنا أخطو إلي الهواء الطلق خطواتي الأولي إلا أن أذكر الرجل الذي فتح لي باب الحرية‮.. ‬وفتح قبل ذلك أبواب الحرية أمام مئات المعتقلين،‮ ‬وأعاد العدالة لمئات القضاة،‮ ‬ووفر لقمة العيش لآلاف من الذين وضعوا تحت الحراسة أو حرموا من وظائفهم‮.‬
من حق هذا الرجل أن يطلق علي عصره‮: "‬عصر العبور‮".‬
عبور الجيش المصري من الهزيمة إلي النصر،‮ ‬وعبور الشعب العربي من الانقسام إلي الوحدة،‮ ‬وعبور سمعة العرب من الهوان إلي الكرامة،‮ ‬وعبور المظلومين من الظلم إلي العذاب،‮ ‬وعبور الخائفين من القلق والرعب إلي الطمأنينة والأمان والاستقرار،‮ ‬وعبور المقيدين في الأغلال إلي حياة الأحرار‮.‬
‮"‬في حياتي أسماء لا أنساها،‮ ‬مشهورين ومغمورين،‮ ‬رجال ونساء،‮ ‬نجوم عاشوا في المجد‮.. ‬ونجوم كالشهب سقطت في زوايا النسيان،‮ ‬وحياتي هي الناس،‮ ‬وأحسب أن الفرق بين الجنة والجحيم أن الجنة فيها ناس،‮ ‬والنار خالية من الناس،‮ ‬وإذا كان الكتاب يصفون جمال الطبيعة بما فيها من أشجار وجبال وأنهار،‮ ‬فأنا رأيت جمال الطبيعة في البشر،‮ ‬وأحسست دائمًا بأن الجمال هو‮: ‬رضاء الله علي مخلوقاته‮!".‬
‮"‬العمل الإنساني هو جزء لا يتجزأ من علاقتي بالناس،‮ ‬والعمق الحقيقي لإحساسي بنبض رجل الشارع في مصر والبلاد العربية وأجد فيه ذاتي،‮ ‬ولهذا نجد فروعًا جديدة تنمو من الشجرة الأم‮ "‬مشروع ليلة القدر‮" ‬مثل‮ "‬أسبوع الشفاء‮" ‬و"لست وحدك‮" ‬و"يوم اليتيم‮" ‬و"نفسي‮" ‬ومساعدة الطلبة ودار الأيتام بمدينة‮ ‬6‮ ‬أكتوبر‮.. ‬وغيرها‮.‬
وعندما أعطي لتلك المشروعات الإنسانية جزءاً‮ ‬كبيراً‮ ‬من وقتي وتفكيري أشعر بالسعادة الحقيقية‮.. ‬فلا شيء في الدنيا يسعد الإنسان إلا في إحساسه أنه استطاع أن يمد يده لينتشل إنسانًا وقع في محنة‮.. ‬وشعر أن كل الأبواب مسدودة أمامه‮.. ‬وفجأة انشقت السماء عن طاقة ضوء صغيرة تذكره بأن الله موجود‮.. ‬وأن الدنيا فعلاً‮ ‬بخير‮".‬
‮"‬إن طوفان حنان من قلب أم كفيل أن يضيء الحياة كلها،‮ ‬وعجيب أن يحس الإنسان أن شخصًا مات ودفن من عشرات السنين،‮ ‬لا يزال قلبه علي قيد الحياة‮!.. ‬ولا أحسب أنني وحدي أؤمن بأن الموت لا يقطع الصلة بين الأحياء والأموات،‮ ‬فإن هؤلاء الأموات يرسلون شعاعًا رقيقًا شفافًا إلي الذين تركوهم وراءهم في الحياة،‮ ‬إن بينهم وبين هؤلاء سلكًا كأسلاك التليفون‮ ‬يحمل الرسائل بين الآخرة والدنيا،‮ ‬وهذا الاتصال التليفوني‮ ‬غير المنظور،‮ ‬هو الذي يحفظ للحياة بعضًا من حلاوتها التي تأكلها الأيام‮!".‬
وكانت مهمة مصطفي أمين في الحياة منذ أن خرج من السجن هي العزف علي قيثارة الحرية ومحاولة رسم البسمة علي الوجوه العابسة والنفوس اليائسة والقلوب المجروحة،‮ ‬واحتلت قضية الحرية أكبر مساحة في عموده اليومي‮ "‬فكرة‮".‬
‮ ‬عاشق الحرية
من أهم ملامح تكوين مصطفي أمين‮.. ‬هو البعد الإنساني وعلاقته الدائمة بالناس فقد رأيت بعيني حينما خرج مصطفي أمين من السجن وذهبت لزيارته‮.. ‬فوجدت مئات من باقات الورد في مدخل الشارع الذي يقطنه ومئات من الباقات علي سلالم العمارة وفي كل‮ ‬غرفة من‮ ‬غرف شقته‮.. ‬حتي إذا دخلت إلي‮ ‬غرفة نومه‮ -‬لأنه كان مريضاً‮ ‬متعباً‮ ‬بعد خروجه من السجن‮- ‬فوجدت من الصعوبة أن أدخل الغرفة لأن باقات الورد من محبيه قد ملأت الغرفة وبعد أن سلمت عليه بعد‮ ‬غيبة‮ ‬9‮ ‬سنوات من‮ (‬65‮ -‬74‮) ‬وجدت عيناه تمتلئ بالدموع‮.. ‬ولكن دق جرس التليفون فأمسك السماعة وإذا بالمتكلم الرئيس الراحل أنور السادات فتوقفت الدموع‮.. ‬وإذا به يقهقه بصوت عالٍ،‮ ‬ويقول‮: ‬أبداً‮ ‬يا سيادة الرئيس،‮ ‬ده كلام رجال الأمن‮.. ‬ثم قال‮: ‬أنا عندي الآن د.حاتم‮.. ‬وتكلمت مع الرئيس الراحل السادات فقال لي‮: ‬كيف حاله؟‮.. ‬فقلت‮: ‬إنه مرهق بعض الشيء،‮ ‬فقال إيه حكاية الورد الكتير اللي كل واحد يقولي عليه؟‮.. ‬فقلت له‮: ‬فعلاً‮ ‬آلاف عن باقات الورود‮.. ‬ثم انتهي الحديث،‮ ‬وقال مصطفي إن الرئيس قال له ضاحكاً‮ ‬مازحاً‮: ‬أنا يظهر هاغير منك يا مصطفي،‮ ‬فلما قلت له‮: ‬ليه يا ريس؟ ده انت صاحب الفضل اللي خرجتني من السجن‮.. ‬فقال‮: ‬هناك آلاف الباقات من الورد سمعت عنها،‮ ‬وقلت ضاحكاً‮ ‬له‮: ‬ده كلام من رجال الأمن؟‮.‬
هكذا كان المحبون لمصطفي أمين‮.. ‬وقبل أن يموت بأربعة أيام دق جرس التليفون في بيتي فإذا بالمتحدث الوزير السابق حسب الله الكفراوي يقول‮: ‬هناك رسالة عاجلة من مصطفي أمين،‮ ‬فقد طلب مني أن يراك اليوم أو باكر علي الأكثر،‮ ‬في المستشفي‮.. ‬فأخبرته أنني كنت في زيارته أمس؟‮.. ‬فماذا جري؟‮!.. ‬وبدأ القلق ينتابني،‮ ‬وشعرت بما يقوله البعض عن شعور المريض بنهاية الحياة‮.. ‬ثم سألته‮: ‬وطلب مَن أيضًا لمقابلته؟‮.. ‬فقال أحمد رجب،‮ ‬فأيقنت أن الموضوع خطير،‮ ‬ومافكرت فيه صحيحًا‮.‬
واتصل بي أحمد رجب قائلاً‮ ‬إنني أعرف أنك وأنا من أقرب الناس إلي شخص مصطفي أمين،‮ ‬ولذلك فأنا أخشي مقابلته وحدي،‮ ‬واتفقت علي أن نجتمع في ساعة معينة ونقابله أنا والكفراوي وأحمد رجب،‮ ‬فوجدناه ينظر إلينا ولا يتكلم،‮ ‬وأخذت أذكر أحداث الماضي وذكريات حياتنا،‮ ‬وبعض الفكاهة والنكت السياسية التي كان يقولها،‮ ‬ومنها نكتة صارخة قالها للرئيس عبد الناصر في التليفون،‮ ‬وأثناء الحديث دخل الأخ أنيس منصور والأخ كامل زهيري،‮ ‬وكان هذا هو آخر لقاء لي مع مصطفي أمين،‮ ‬وخرجنا وكنا نضحك ولكن قلوبنا تبكي‮.. ‬وبعد‮ ‬24‮ ‬ساعة كان الرحيل الأخير لمصطفي أمين‮.‬
أذكر ذلك وقد ذكرت البعد الإنساني ومحبة الناس له‮..‬
فإذا بمصر والعالم العربي تشاهد أكبر جنازة في القاهرة بالآلاف من البشر تودع مصطفي أمين،‮ ‬حزنًا علي مصطفي أمين‮. ‬
فلماذا أحب الناس مصطفي أمين؟‮.. ‬الحقيقة أن علاقته الدائمة بالناس البسطاء والعمالقة الضعفاء والأقوياء والشباب والشيوخ والرجال والنساء،‮ ‬وكيف كان يعتبر أن الناس وخدمة الناس ومعرفة الناس هي الجنة الحقيقية في حياة الإنسان‮.‬
أتذكر حديثاً‮ ‬نبوياً‮ ‬شريفاً‮: ‬فقد سئل النبي‮ -‬عليه الصلاة والسلام‮- ‬من هو أقرب الناس إليك يا رسول الله يوم القيامة؟ فقال‮: ‬أنفع الناس للناس‮.‬
‮ ‬
يقول مصطفي أمين‮: ‬إن الصحافة يمكنها أن تسقط الحكومات لكن في إمكان الحكومات أيضًا أن تغلقها أو تحكمها أو ترأس تحريرها وتنطقها بما تريد أن تقول‮!.‬
وحين كنت رئيس وزراء بالنيابة عن الرئيس السادات،‮ ‬أصدرت قرارًا بعد حرب أكتوبر في‮ ‬11‮/‬4‮/‬1974‮ ‬بإلغاء الرقابة علي الصحف بعد أن طالت أكثر من خمسين عاماً،‮ ‬وجمعت رؤساء الصحف فظهر علي البعض الدهشة‮.. ‬وقال أحدهم بصراحة بعد مدة من الإلغاء‮: ‬لقد ألفنا الرقابة إلي حد أننا عند إلغائها لم نعد ندري ماذا نكتب‮.‬
ولكن بعد الإلغاء انطلقت الصحافة وتناولت الحكومة بالنقد الصارخ‮.. ‬فجمع الرئيس السادات الصحفيين‮.. ‬وقال لهم عبارته المشهورة‮.. ‬عيب‮!!.. ‬ولكن فكري أباظة قال له‮: ‬لا تلومنا يا سيادة الرئيس فنحن‮ ‬غير مسئولين عما يحدث بل الذي حدث هو أنك أنت المسئول يا سيادة الرئيس،‮ ‬لقد عشنا عشرات السنين تحت الرقابة ولما رفعت انطلقنا بلا حدود‮.‬
وسألني السادات بعد الاجتماع،‮ ‬بماذا تصف هذه الحالة؟‮ -‬وكنت رئيس مجلس إدارة‮ "‬الأهرام‮"- ‬فقلت له‮: ‬لقد كانت الصحافة في ظلام مدة طويلة‮.. ‬ولما خرجت إلي النور لابد أن يحدث ما حدث‮.‬
‮ ‬
وكان مصطفي أمين أمينًا علي الحرية‮.. ‬كان جيل عصره،‮ ‬لم يكن مدرسة للصحافة فقط بل كان هو المدرسة والناظر والمدرسين،‮ ‬ومصطفي يعتبر الشعب هو الأستاذ‮.. ‬وقضيته الأولي هي الحرية‮.‬
وعندما أفرج عنه السادات هاجم السادات لأنه قبض علي الآخرين،‮ ‬فقلت له‮: ‬يا مصطفي لماذا هذا؟‮.. ‬فقال‮: "‬الحرية ليست هي حريتي أنا إنما هي حرية الآخرين أيضًا‮.. ‬وقال‮: ‬لقد كان معي ديمقراطياً‮ ‬ولكن كان مع الآخرين ديكتاتورياً‮". ‬
الحديث مع مصطفي له متعة خاصة،‮ ‬وهو سريع البديهة حاضر الذهن‮.‬
يؤمن أن كل فشل يعلم النجاح‮... ‬يعتقد أن تأميم الصحافة ضربة أصابت الصحافة كلها،‮ ‬وقد احتفظت‮ "‬أخبار اليوم‮" ‬بشكلها كما يقول ولم تحتفظ بروحها‮.‬
كان من رأيه أن أي حكومة هي حكومة البلد وليست حكومة حزب ويجب دعوة كل فئات الصحفيين المؤيدين والمعارضين في أي مؤتمر‮.. ‬وإذا سألته ما هو المستقبل الصحفي في مصر؟ يقول‮: ‬هو مستقبل الحرية في مصر،‮ ‬لأن‮ "‬الصحفي مثل الوردة إذا وضعتها في حجرة مغلقة لا تدخلها الشمس ولا يدخلها الهواء،‮ ‬تذبل وتموت،‮ ‬وإذا وضعتها في الشمس والهواء تتفتح وتعيش‮".‬
‮ ‬
وحين سألت حسن صبري الخولي الممثل الشخصي للرئيس عبد الناصر عن رأيه فيما أطلق علي الصحافة باعتبارها السلطة الرابعة،‮ ‬فقال إن الصحافة لا سلطة لها،‮ ‬فإذا كانت الحكومة هي التي تعين رؤساء تحرير الصحف فكيف تكون الصحافة سلطة،‮ ‬الصحف تخرج الوزراء من الحكومة لو أخطأوا،‮ ‬لذلك يجب ألا تخرج الحكومة الصحفيين‮.‬
وهناك مثل إنجليزي يقول‮: ‬رئيس التحرير في الصحيفة هو الذي يخرج رئيس الوزراء لو أخطأ‮.‬
‮ ‬
وكان لمصطفي أمين رأي في رفع الرقابة وما حدث بعد رفع الرقابة،‮ ‬وكان يقول‮ "‬إذا وضعت يدي علي فمك‮ ‬30‮ ‬سنة لا أنتظر منك أن تقول لي كيف حالك يا سعادة البيه‮.. ‬لن تقول إلا ما هو محبوس في صدرك‮.. ‬وهذا ما حدث بعد رفع الرقابة‮.."‬،‮ ‬وسأله البعض‮: ‬هل يعجبك هذا النقد الجارح؟‮!.. ‬فقال لهم‮: ‬هذه نتيجة طبيعية لوجود الرقابة أكثر من‮ ‬30‮ ‬سنة،‮ ‬لابد أن ننتظر‮ ‬30‮ ‬سنة أخري حتي تكتب الصحافة بلا ضغط‮.‬
مهمة الصحافة أن تقول للحاكم ما يريده الشعب قبل أن تقول للشعب ما يريده الحاكم‮.. ‬الصحافة الإقليمية مثل المشاتل التي توضع فيها الأشجار الصغيرة،‮ ‬إذا كبرت المشاتل تنتقل إلي العاصمة‮.‬
يجب أن تدعم الحكومة الصحافة عن طريق دعم الورق مثل ما تفعل فرنسا‮.‬
وقد يتساءل البعض ما هو شعوري نحو دار‮ "‬أخبار اليوم‮" ‬التي تركتها والتي تصدر‮: ‬أخبار اليوم والأخبار وآخر ساعة والجيل والمختار،‮ ‬والتي تخليت عن تحريرها‮: ‬ما هو شعوري اليوم نحو الصحف التي أعطيتها روحي ودمي وعمري وشبابي؟‮!.‬
إنني أشعر أن هذه الصحف هي أولادي‮!.. ‬إنها قطعة مني وأنا قطعة منها،‮ ‬إنها ماضيي وحاضري ومستقبلي،‮ ‬إنها آلامي وأحلام حياتي،‮ ‬إنها دموعي وضحكاتي،‮ ‬إنها ليست ورقاً‮ ‬وحبراً‮ ‬وإنما هي أنفاس وزفرات‮.‬
إن حبرها هو دمي،‮ ‬وورقها هو أعصابي،‮ ‬وكيانها هو روحي،‮ ‬ولا يمكن لأب أن يتنكر لابنه لأنه ابتعد عنه بضع خطوات،‮ ‬إنني سأنظر إلي هذه الصحف كما ينظر الأب إلي بناته اللاتي كبرن وتزوجن وتركهن ليعشن مع أزواجهن سعيدات‮.‬
أنا أؤمن أن النجاح في أي عمل هو قصة حب‮.. ‬والحب الحقيقي معناه التصميم والتفاني،‮ ‬وعندما فكرنا في إصدار‮ "‬أخبار اليوم‮" ‬كان لنا هدف معين نسعي إلي تحقيقه يلخصه شعار رفعناه من البداية وهو‮: ‬من حق الشعب أن يعلم‮.. ‬لذلك شيدناها طابقاً‮ ‬طابقاً‮ ‬حتي وصلت إلي أحد عشر طابقاً‮ ‬وأصبحت قلعة عريقة من قلاع الصحافة المصرية‮".‬
كان مولعاً‮ ‬باكتشاف المواهب الصحفية ودفعها إلي التألق والنجومية،‮ ‬وكان مبدأه أن القمة تتسع للكثيرين،‮ ‬لذلك صنع من محررين صغار أسماء نشرها بالبنط العريض‮.. ‬وقدمها بنفسه في مقالاته،‮ ‬ولم يصغر مصطفي أمين عندما فعل ذلك بل ازدادت قامته وارتفعت،‮ ‬وضرب مثلاًحياً‮ ‬ورائعاً‮ ‬لما يجب أن يكون عليه الأستاذ‮.‬
‮ ‬وكان للمرأة نصيب كبير في حياته،‮ ‬يقول‮: "‬أعتقد أنني بذلت جهوداً‮ ‬ضخمة من أجل المرأة في بلادي،‮ ‬وأعتقد أيضًا أنني كنت وراء تعيين أول وزيرة في مصر،‮ ‬كما أنني خضت حرباً‮ ‬طويلة في الأربعينات علي صفحات‮ "‬أخبار اليوم‮" ‬للمطالبة بحق المرأة في الانتخاب،‮ ‬إنني أؤمن بمشاركة المرأة في الحياة،‮ ‬ويسعدني نجاحها في كل المجالات‮".‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.