لكل منا مركزيته، التي تختلف عن الآخر، وهي النقطة الموجودة في أعماقنا، المحركة لنا في كل قرارات حياتنا، فتعطينا شعورًا بالأمن، وإحساسًا بالذات، هي مصدر فهمنا للحياة، وحكمنا علي الأمور، ومن السهل أن نكتشفها عندما تتعارض أولوياتنا في الحياة، فحينها يحسم كل شخص قراره وفق مركزيته، فهناك من مركزيته المال، أو العائلة، أو الأنا، أو المنصب، وهناك من تكون مركزيته الله، وشتان بين هذه المركزيات. فتجد مَن مركزيته العمل والسلطة، يأتي العمل علي رأس أولوياته، فهو ينظر إلي منصبه علي أنه مصدر قوته، يشعر بقيمته من لقبه، وهناك مَن مركزيته العائلة (الزوجة والأولاد)، فيعمل من أجلها، ولايشعر بالأمن إلا وهو وسطها، أما من تكون مركزيته »الأنا»، فهو يقدم مصلحته الذاتية علي أي شيء آخر، حتي لو كان أولاده وزوجته. لكن من كانت مركزيته الله، يدور في الحياة ويتحرك فيها، ويتخذ قراراته، وهو يضع الله دائمًا نصب عينيه، يراقبه في كل تصرفاته، كبيرها وصغيرها، لايقرب حرامًا حرمه، لأنه يقيس كل شيء وفق ميزان الخالق سبحانه، لايظلم إذا كان مسئولاً، ولايسرق إذا كان مؤتمنًا، وهكذا في كل نواحي الحياة. وليس هناك أي تعارض بين »مركزية الله»، وباقي المركزيات كما قد يفهم البعض، فيمكن أن تعيش حياتك وتحقق كل أمنياتك.. عمل، مال، عائلة، وأولاد، وتقدير للذات، بشرط أن تضع كل هذا تحت مركزية واحدة هي لله، وقتها سيحدث الفارق، ستشعر بالاختلاف التام، عندما تكون كل مركزياتك خاضعة لمركزية واحدة هي الله. والسؤال: كيف ذلك؟ تريد تكوين ثروة وأموال، اجتهد في عملك حتي تحقق ذلك، واجعل هدفك ونيتك التوسعة علي عباد الله، واستخدام المال لإرضاء الله، لاتدخل فيه مثقال ذرة من حرام، النبي صلي الله عليه وسلم يقول: »نعم المال الصالح للعبد الصالح». أريد النجاح.. لماذا؟ حتي أحظي بتقدير الناس، أريد الحصول علي منصب رفيع.. لامانع، لكن اجعل هذا بنية نفع الناس.. »أحب الناس إلي الله أنفعهم للناس».. أريد تكوين عائلة.. لماذا؟ عزوة بين الناس.. »المال والبنون زينة الحياة الدنيا»، لكن اجعل ذلك لله بنية إعمار الأرض، وأن يكونوا عناصر صلاح في مجتمعهم، وأن يكونوا صالحين »إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له». سيدنا عثمان بن عفان قدم لنا المثال الأعظم بين جيل الصحابة، الذي جمع بين كل المركزيات وجمعها تحت مركزية واحدة هي الله، فقد كانت أمامه تحديات كبيرة؛ وهي: بئر روما، تجهيز جيش المسلمين في معركة »تبوك»، دفعته مركزيته لله للقيام بعمل لايقوم به إلا العظماء، فقدم ماله لما يخدم الإسلام والمسلمين، حتي قال الرسول: »ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم». معني المركزية المركزية لله أن تكون مع الله في كل أمر، وفي كل حركة وخطوة.. هي التي تمثل معني قوله تعالي: »قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»، وليس معناها حصر الحياة في العبادة.. لكن معناها الصحيح أن مركز حياتي هو الله. وحد مركزياتك واجعلها لله.. هذا هو دين التوحيد.. لا إله إلا الله.. مركز حياتي الله، لاتدع نفسك تتنازعها المركزيات.. وحدها تحت مركزية واحدة هي الله، ضعها تحت مظلة واحدة لله.. »وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا». عندما تختار »مركزية الله»، فإنها تعلو علي ما عداها من مركزيات، لذلك ربنا جمع كل المركزيات الأخري في آية واحدة، وقال إياك أن تختارها علي الله: »قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّي يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ».. فالآية لم تنكر ال 8 الأخري، وكلها حلال، لكن الأزمة في المركزية.. كلمة »أحب إليكم». وحد مركزياتك واجمعها كلها بنسب مع بعضها، وتعلم من الرسول صلي الله عليه وسلم، فقد كان يكثر من الدعاء: »اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلي حبك، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، وما زويت عني مما أحب فاجعله فراغًا لي فيما تحب». كان من دعاء النبي صلي الله عليه وسلم عند الصباح »أصبحنا وأصبح الملك لله.. سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه.. المالك هو الله»، ونحن لانملك شيئًا فاجعل مركز حياتك من يملك كل شيء، واجعل كل المركزيات في مركزية واحدة لله، كما فعل النبي »والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني». لكن... مركزية الله ليس معناها التطرف ولا البعد عن الدنيا، لكنها جامعة لكل المركزيات في حياتك، فيجب أن تحدد مركزياتك.. وتجعلها لله.. فالله تعالي يقول: »مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ»، وكأن المعني هو: لا تخدع نفسك وتضيع عمرك بتنازع الأحلام والأمنيات وحدها فليس لك إلا قلب واحد. فمن حلاوة الإسلام أنه جمع أصلاً كل المركزيات الأخري: المال: (نعم المال الصالح للرجل الصالح)، العائلة (خيركم خيركم لأهله)، المرأة (مودة ورحمة وسكن)، العمل (وقل اعملوا فسيري الله عملكم ورسوله)، لكن لابد أن يضعك في اختيار مفارق الطرق لتظهر المركزية.. »وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ»، فلو نجحت يعطيك المزيد. متي تظهر المركزية بقوة؟ في العادة الناس يمكنها أن تتعرف علي مركزيتهم عند 3مواقف يمرون بها وهي: عند تعارض الأولويات، من طريقة حياتهم، عند الموت، والأخيرة أهمها وأشدها، فعند الموت تظهر مركزيتك، لأن اللسان ينطق عند الموت بما عاش من أجله وليس بما هو صحيح أن يقوله في هذه اللحظة.. كلماتك الأخيرة هي ملخص حياتك، مركزيتك ستكشف عند موتك. في كتاب مترجم من الإنجليزية عن رحلة الممرضة الأسترالية »بروني وير» التي عملت لسنوات في رعاية المرضي الذين أوشكوا علي مفارقة الحياة، وخاصة ممن تبقي علي وفاتهم أقل من 4أسابيع، تحكي كيف أنها كانت تقف بجانب هؤلاء الراحلين، تشجعهم وتؤازرهم وتتحدث معهم لساعات طويلة. ويومًا ما قررت أن تسألهم عن أكثر الأشياء التي كانوا يتمنون لو أنهم فعلوها خلال حياتهم، فكانت معظم الإجابات »ياليتني عملت خيرا لأصدقائي»، »ياليتني حسنت صلاتي»، »ياليتني أعطيت وقتا لأولادي»، كلها أقرب لمركزية الله.. فالكلمات التي تقال علي فراش الموت هي أصدق الكلمات.. نسأل الله أن تكون آخر كلماتنا في الدنيا: لا إله إلا الله.