لسنا بحاجة إلي تجديد أفكارنا فقط، بل أيضًا بحاجة إلي تجديد المشاعر والأحاسيس بداخلنا، بعد أن ذبلت وضاعت في مادية الحياة الحديثة، حيث أصبحنا نعيش حياة جامدة بلاروح خالية من معاني الإنسانية، في ظل تطورات الحياة المتسارعة التي أدت إلي تغيير نمط الحياة، وغابت عنها قيم الجمال والحب، التي نحن بأشد الحاجة إليها الآن أكثر من أي وقت مضي، لأنها سر من أسرار السعادة في الحياة، بل هي أساس السعادة في الحياة. فالإنسان ليس ماكينة بل هو كائن وجداني قبل أن يكون كائنًا ماديًا، ولا يمكن أن يعيش في غياب الحب، الذي هو كلمة السر في حياتنا الدينية والزوجية والأسرية والمادية، فهو الذي يجعل العالم يدور، ولولا الحب لجمد العالم، فلا أب سيجتهد ليري أولاده أفضل منه، ولا أم ستضحي ليحيا أبناؤها، مايبدو نظريًا شديد الثقل يجعله الحب خفيفًا جدًا. حب الله لنا وحبنا له: لماذا خلقنا الله؟ خلقنا لنعمر الأرض.. لكن لماذا اختارنا نحن دون باقي الكائنات ليشرفنا وليكلفنا بهذه المهمة العظيمة وليسخر لنا الكون؟، لأنه أحبنا فاختارنا، وأحبنا فملكنا الكون، فالعلاقة ليست علاقة جنة ونار ولا هي علاقة واجب ولا اضطرار ولا ضغط اجتماعي وإنما هي علاقة حب. أحب الله الإنسان فنفخ فيه من روحه «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي»، أحبه فخلقه بيديه وبقيت المخلوقات خلقها بكن فيكون.. «قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ»، ثم أحبه فجعله في أجمل خلقه «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ». ثم أحبه فعدل له ظهره ولم يجعله يمشي علي أربع.. «يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ»، ثم أحبه فأسجد له الملائكة.. «فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة كُلّهمْ أَجْمَعُونَ».. سجود لجمال صنعه الله.. لقد أحبهم فجعلهم أجمل مافي الكون، ثم أحبه فسخر له الكون «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا». إذا كان الله يحبك هكذا فينبغي أن تعيد نظرتك للحياة بناءً علي هذا الحب، عليك أن تجعل حب الله مركز حياتك، كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك وحب العمل الذي يقربني لحبك، رب اجعل لي حبك أحب إلي من أهلي وأولادي ومالي». عليك أن تعيش بحديث النبي عندما دخل المدينة مهاجرًا «أيها الناس أحبوا الله من كل قلوبكم.. أحبوا الله لما يغدوكم به من النعم». وإذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي أن نربي أولادنا علي الخوف من الذنوب بقدر ما نربيهم علي الإحساس بالمحبوب.. فالمحبة هي المنبع والمصب لكل حياتنا مع الله «قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ». لكن لماذا لا نتذوق حلاوة الحب مع الله؟، المشكلة هي طبيعة الحياة السريعة التي نعيشها، بعد أن طغت الماديات علي الحب في حياتنا حتي مع الله، وهذا هو معني «أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ»، ولم يعد الإنسان الحديث قلقًا متهورًا متبلدًا فحسب بل لقد أصبح كائناً سطحياً بلاعمق لا شيء يلهمه ولاشيء يمسه ولاشيء يحرك كوامن وجوده الباطني. الحب يحتاج إلي تأمل وتذوق لتدركه أولاً، ثم يحتاج بذلا وجهدا لتستمتع به ثانيًا.. فما هو المطلوب منا لنشعر بالحب مع الله؟ أولاً: تأمل وتذوق الحب مع الله الخشوع في صلواتك اليومية الخمس، عن طريق التركيز واستحضار القلب واستشعار المعاني، فلابد أن تعيش لحظات حب مع الله في الأربع والعشرين ساعة من خلال الصلاة.. نحن نؤديها لكن لانشعر بمعني الحب المكنون في الصلاة «أرحنا بها يابلال»، «وجعلت قرة عيني في الصلاة». هذه الدقائق كافية لتوليد الحب منك وإليك.. تخرج من الدنيا وتأخذ خطوة من الناس وتتمني أن تخشع في الصلاة، والخشوع لا يأتي إلا بالتركيز والتركيز قرار. تأمل صلتك بالله.. خمس دقائق في اليوم، صلاة واحدة، في سجدة أو تسبيحة أو تأمل في أسمائه الحسني، لتكون طريقك لمعرفة الله ومحبتك لهن «إذا عُرِفَ الآمر. سَهُلَت الأوامر». يقول الحسن بن علي: «من عرف ربه أحبه». تأمل في نعم الله عليك «أحبوا الله لما يغدوكم به من النعم».. عش كل يوم لحظات مع نعم الله عليك وداوم علي ذلك في كل حياتك لتحبه. وكان العلماء يقسمون «النعم ثلاثة: نعمة حاصلة يعلم بها العبد؛ ونعمة منتظرة يرجوها، ونعمة هو فيها لا يشعر بها «وأهمها الحب».. فإذا أراد الله إتمام نعمته علي عبده عرفه نعمته الحاضرة، وأعطاه من شكره قيدا يقيدها به حتي لا تشرد، فإنها تشرد بالمعصية وتقيد بالشكر، ووفقه لعمل يستجلب به النعمة المنتظرة. ثانيًا: العمل والبذل لإعمار الأرض ستصل للمحبة عن طريق العمل، لأنه خلقك لتعمر الأرض «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً».. الحب عند الله لايصح إلا بدليل «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ»، «اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا»، «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدًّا». ما المطلوب: اعمل بكل طاقتك لإعمار الأرض، اعمل 10ساعات في اليوم بتركيز لتصل لمحبة الله لك بعملك، اخرج منتجًا جديدًا تتقرب به إلي الله كما تتقرب له بالصلاة والصيام.. الحب يحول عملك من روتين أو واجب قاس أو من أجل العيش إلي محبة الله بعملك.. أنت في الحقيقة لاتعمل عند أحد.. أنت تعمل عند الله.. هكذا يجب أن تعلم، وما دام علمت فالزم. الحب والنجاح في الحياة الزعيمان السياسيان نيلسون مانديلا وغاندي.. ما الذي جعلهما يتحملان كل ما قاسياه في حياتهما؟ إنه الحب الذي كان أقوي من كل هذه المصاعب التي واجهاها. مانديلا أحب الجنس الأسمر فدافع عنه وسجن 26سنة من أجله.. غاندي أحب وطنه وعاش من أجل بلده الهند حتي آخر لحظة في عمره.. إنه الحب. كما أن هناك قانونا اسمه جاذبية الأرض؛ فهناك قانون أقوي اسمه جاذبية الحب.. نحن ننجذب إلي الأرض لنستقر عليها.. وكذلك الحب ليس مجرد عاطفة.. بل هو قانون يحفظ استقرار قلوبنا ونفوسنا. قصص النجاح مرتبطة بكلمة واحدة هي «الحب»، إذا أردت النجاح عليك أن تذهب إلي الكون من مفتاحه لتحقق المال والنجاح وتحقيق الذات، إنه الحب وحده الذي يفتح لك هذه الأبواب. يروي المؤرخون أن عمرو بن العاص في فتح مصر نزلت حمامة بفسطاطه (خيمته) فاتخذت من أعلاه عُشًّا، وحين أراد عمرو الرحيل رآها، فلم يشأ أن يهيجها بتقويضه، فتركه وتكاثر العمران من حوله، فكانت مدينة «الفسطاط». الحب يجعلك جميلاً لأن من أحب تشبه بمن يحب إن الله جميل يحب الجمال إن الله طيب لا يقبل إلا طيب.. إن الله كريم يحب الكرم.. الراحمون يرحمهم الرحمن. الحب هو الذي دفع المسيح حين أحاط به كيد الكائدين لأن يقول: «اغفر لهم يا رباه، فإنهم لا يعلمون ما يفعلون!».. الحب هو الذي دفع نبينا محمدًا حين آذاه قومه يوم أحد لأن يقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون!». الحب هو الذي جعل عيسي يقول لامرأة فعلت ذنبًا كبيرًا: «لقد أحبت الله كثيرًا، فغفر لها كثيرًا».. الحب هو الذي جعل محمدًا يقول لأصحابه عن شارب الخمر: «لا تلعنوه، فإنه يحب الله ورسوله». عيسي يقول: «الله محبة».. محمد يقول: «لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يحب لنفسه». عيسي يقول: «طوبي لصانعي السلام».. محمد يقول: «أفشوا السلام بينكم». عيسي يقول: «أنا خبز الحياة» أي خيرها.. محمد يقول: أنا رحمة مهداة. هكذا الحب يصنع كل شيء جميل في حياتنا، فلو لم يكن موجودًا لكانت الحياة بلا طعم ولا رائحة، ولعشنا حياة لا تختلف عن الجماد، خالية من أية مشاعر وأحاسيس، نعم قد يتوه منا في زحمة الحياة، لكنه يظل موجودًا بحاجة لمن يرعاه بالسقاية، ليبقي حيًا في قلوبنا، تحيا به أرواحنا، وتهفو به أفئدتنا، وتسمو به مشاعرنا.