في تاريخنا الثقافي والأدبي والفني والسياسي ما زالت هناك قضايا شائكة لم تتبين معالمها بشكل واضح وجرئ، رغم أن تلك القضايا تناولتها أقلام وتقارير وصحف ومجلات وكتب، وكلما أوغلت الأقلام في التفتيش عن خبايا تلك القضايا، تزداد غموضا وتشتتا، ومن أشهر تلك القضايا، قضية نجيب سرور والزج به في مستشفي المجانين، وكذلك قضية الكاتب إسماعيل المهدوي، وقضية د. علي شلش وحبسه لمدة عامين دون أي جريرة تذكر، سوي أنه كان صديقا لأحد المثقفين العرب. ولأن الأوراق شائكة، وربما غائبة أيضا، فتلك القضايا معقدة وغير واضحة تماما، وهناك بعض شهود العيان الذين يدركون ويعرفون أسرارا دقيقة، ومعلومات حقيقية، يخافون من الزج بأنفسهم في غبار تلك القضايا، فيحجبون شهاداتهم، وينأون بأنفسهم بعيدا، حتي لا تصيبهم رصاصات الغدر من هنا وهناك. ومن تلك القضايا الشائكة، قضية الأديب والكاتب السينمائي المرموق، ورائد الرواية البوليسية في الإذاعة والسينما في زمانه وبلا منازع محمد كامل حسن المحامي، والذي بدأ الكتابة الأدبية منذ ثلاثينات القرن العشرين، أي قبل أن يكمل العشرين من عمره، فهو حسب المعلومات التي وردت علي غلاف روايته "الحب الأخير" الصادرة في يناير 1959عن سلسلة "كتب للجميع"، من مواليد 15 مارس 1916، أي نحن في مئويته هذا العام، وابتدأ ينشر قصصا قصيرة بمجلتي "الجامعة" و"الصباح" في عام 1932،وفي عام 1934 كان أول من أذاع القصة البوليسية، وفي عام 1936 انتدبته وزارة الداخلية لإلقاء محاضرات علي طلبة البوليس وكان وقتها طالبا بالحقوق، كذلك وصلت حصيلة كاتبنا عام 1959 أكثر من خمسة عشر كتابا، وألف وخمسمائة تمثيلية، وتقول النبذة القصيرة :".. وكان أول من أدخل التمثيليات المسلسلة في الإذاعة بقصة "حب وإعدام"، وقدم أروع تمثيليات السهرة في الإذاعة، واتجه في وقت مبكر للإخراج السينمائي، وكتب قصة وسيناريو وحوار اثنين وأربعين فيلما، كما انشغل بقضية حقوق المؤلفين، بصفته أحد كبار المحامين البارعين، وبجهوده في ذلك المجال صدر قانون "حق المؤلف". هذه عينة يسيرة من إنتاج وإبداع محمد كامل حسن المحامي، الذي شغل الناس بذلك الإبداع، وكان الكاتب الإذاعي الأول الذي جعل من تمثيلية الساعة الخامسة والربع، حدثا كبيرا في حياة المصريين، وكانت تلك التمثيليات تجذب انتباه كل المصريين الذين كانوا يمتلكون مذياعا في منازلهم، وكان من لا يملكون ذلك المذياع، يذهبون إلي جارهم حتي يتمكنوا من متابعة أحداث الحلقات التي يكتبها مؤلفها بطريقة تشويقية بارعة، وتحمل قدرا كبيرا من إمتاع المستمعين. وكما أسلفنا القول بأن قصته "حب وإعدام" كانت القصة الأولي التي بدأ بها نجاحه الباهر في المسلسلات الإذاعية، وذلك كان عام 1954، وكان كامل حسن لا يقبل علي النشر إلا قليلا، وكان يكتفي بأن تعرض القصة أو تذاع، وفي الطبعة الأولي التي نشرها عام 1954 لقصة "حب وإعدام" يقول: " لم أفكر في أن أطبع هذه القصة، كما لم أفكر من قبل في أن أطبع غيرها، ولا أدري في الحقيقة سر انصرافي أو زهدي في طبع قصصي، وإن كنت أعتقد ولست واثقا من اعتقادي أن زهدي في طبع قصصي يرجع إلي أن لذتي الفكرية تنتهي بمجرد رؤيتها علي الشاشة وجلوسي بين الجمهور دون أن يعرفني أحد، ومقاسمة المتفرجين نفس الانفعالات التي توقعتها منهم عند الكتابة، وأصبح جلوسي بين الجمهور عند عرض فيلم من أفلامي عادة تفاقمت فأصبحت أشبه بالإدمان...". ويسترسل كامل حسن حديثه عن المبررات التي دفعته لاتخاذ قرار نشر أعماله الإذاعية والسينمائية، وذلك لأن جهات كثيرة وزملاء له في مهنة الكتابة، طالبوه بقوة في نشر تلك الأعمال، حيث أن جمهور السينما والإذاعة يختلف عن جمهور الأدب والقراءة، كما أن بعض دورالنشر كذلك ألحّت في نشر أعماله القصصية والروائية، بعد أن حظيت تلك القصص والروايات بشهرة واسعة من خلال إخراجها في السينما أو الراديو. والذي لا شك فيه أن محمد كامل حسن المحامي كان الكاتب الإذاعي الأشهر للمسلسلات الشهرية، والتي كانت تزيد أحيانا عن الأربعين حلقة، وهنا نستعين برأي الكاتب صلاح عيسي الذي قال عنه في مجلة الأهرام العربي بتاريخ 12 سبتمبر 2009 تحت عنوان "الرجل الذي اخترع دراما المسلسلات" : ( بين زحام مسلسلات رمضان التي تحتشد تترات كل منها بمئات الأسماء، تبدأ بالمنتج والمؤلف والمخرج والنجوم، وتنتهي بالسائقين وعمال البوفيه ولبيسة الممثلين والنجارين والكهربائية يرد في ذاكرتي فجأة اسم محمد كامل حسن المحامي، أول من وضع المسلسل علي خريطة برامج الإذاعة، قبل أن ينتقل منها إلي شاشات التلفزيون ليصبح المسلسل التلفزيوني هو أكثر فنون الدراما جماهيريا وأوفرها، ربما لكل من يعمل فيه من أكبر ممثل إلي أصغر نجار، ولم تكن دراما المسلسلات بعيدة عن اهتمام صنّاع السينما في العالم أو مشاهديها في مصر قبل محمد كامل حسن المحامي، ولكنها كانت شائعة في شركات الإنتاج السينمائي الأمريكية. ولا نريد أن نستدعي كتابات محمود السعدني وعبد الرحمن الخميسي وسامي الليثي وأحمد عبد الحليم وغيرهم في الدور الرائد للرجل، ولكننا نعيب علي الأجهزة الثقافية والفنية، مثل وزارة الثقافة، واتحاد الإذاعة والتليفزيون، لأنها لم تتذكر الرجل في مئويته، وهو الذي كان يستحق احتفالا يليق برائد، وتذكير الأجيال الجديدة بقيمة كتابات هذا الرجل، رغم ما أحيط بأحداث غامضة ومؤسفة في عقد الستينات بعدما كان الكاتب والسينمائي الأشهر في ذلك الوقت، وأنا أعلم بالمساعي التي بذلها ابنه المهندس مجدي كامل لمناشدة المؤسسات الثقافية حتي تقيم لوالده ندوة، مجرد ندوة للتذكير به، وألف عنه كتابا صدر عام 2011، ولكنه لم ينجح في ذلك، وفي كتابه حاول المهندس مجدي أن يرصد أهم المحطات الأدبية والفنية التي مرّ بها الكاتب، ولكن الكتاب كان حماسيا بوفرة، فعلي سبيل المثال نسب مجدي لوالده فيلم "حياة الظلام"، الذي أخرجه الفنان أحمد بدرخان عام 1940، وقام ببطولته أنور وجدي ومحسن سرحان وعبد الفتاح القصري وآخرون، ولكن الحقيقة تقول بأن هذا الفيلم مأخوذ عن رواية "حياة الظلام" التي كتبها محمود كامل المحامي عام 1932، وكتب لها أحمد بدرخان السيناريو والحوار، ولا علاقة لمحمد كامل حسن بذلك الفيلم علي وجه الإطلاق، كما أن المهندس مجدي، لم يتطرق إلي قصة والده الدامية من قريب ولا من بعيد، ولكنه فقط راح ينوّه علي أن والده تعرّض لظلم فادح، وربما أراد نجل الكاتب أن يلفت النظر إلي قيمة والده الأدبية والفنية بعيدا عن الأحداث المؤسفة التي ألمت به. ولا بد أن ننوّه بأن أي حديث عن الرواية البوليسية_التي ترعرعت الآن_ في مصر، لا بد أن يتعرض لرائدها الأول محمد كامل حسن المحامي، في ظل بعض الأصوات التي تقول بأن أدبنا العربي يخلو من أدب الرواية البوليسية، وبهذه المناسبة، فقصص محمد كامل البوليسية كان أحد الكتّاب الإنجليز إلي اللغة الإنجليزية منذ عام 1936 وهو "فرجسون"، وكان ينشرها في مجلة "الباسينج"، وراحت الإذاعة تستعين بكاتبنا في ما يتعلق بمسابقات البحوث الجنائية، وهو الذي أنشأ البرنامج الأشهر في تاريخ الإذاعة المصرية، وهو برنامج "46 120 إذاعة"، ذلك البرنامج الذي أعقبته برامج بوليسية أخري مثل برنامج "أغرب القضايا"، وكذلك تعددت رواياته التي راجت بشكل واسع مثل "السابحة في النار،والرسالة الأخيرة، ومرت الأيام، وهل أقتل زوجي، وأقوي من الحب، وأنا القاتل كلا أنا القاتلة، والعاشقتان..إلخ"، ووصلت مؤلفاته إلي مايزيد عن المائتي مؤلف، مابين روايات وقصص قصيرة وكتب أخري. كانت حياة محمد كامل حسن المحامي تسير في ظل الصخب الفني والشهرة الذائعة الصيت، والإبداع الأدبي والسينمائي والتليفزيوني، حتي تزوج من فنانة شابة، تصغره بخمس وعشرين سنة، وهي الممثلة سهير فخري، وفي ذلك الوقت كان كاتبنا الأشهر صديقا للفنانة برلنتي عبد الحميد، وكان يتردد عليها في فيلتها بعد زواجها من المشير عبد الحكيم عامر، وهناك التقي بأعوان ومساعدي رجال المشير الأقوياء، ونشأت علاقة بين زوجته الفنانة الشابة، وحارس البوابة عبد المنعم أبوزيد، وتقول برلنتي عبد الحميد في مذكراتها "المشير ..وأنا" في فصل عنوانه "نبات خبيث في بستان وحدتي" : ( وفي يوم من الأيام أثناء زيارة كامل وزوجته لي، فوجئت بزوجته تقف في الحديقة تثرثر مع عبد المنعم أبو زيد حارس البوابة كانت تضحك معه بصورة أثارت غضبي، فناديتها، وأفهمتها أن الكل يعرفون أنك معرفتي، فينبغي أن تكون كل تصرفاتك علي مستوي مكانتك معي، وقلت لها : "إن هذا يحط من قدرك وقدري أيضا"، وقد بررت لي الموقف بقولها أنها كانت تطلب "أكلة كباب" لأن نفسها فيها، فحذرتها من معاودة الحديث معه، وإذا كانت تريد شيئا تطلبه مني أو من متولي، ومتولي يأمر عبد المنعم أبو زيد أو أبو المعاطي، لأنه المسموح له فقط بالتواجد داخل الفيلا ). ولا ينتهي الحديث عن كامل حسن المحامي في فصلها الحاد، والذي بذلت مجهودا واسعا في إهانة الرجل، والتقليل من شأنه، ووصفه بالجنون والعصبية والإدمان، فضلا عن أنها كانت توحي برعايتها له، أو بمساعدته ماليا، حيث أنه عندما اشتكي لها من سوء حالته المادية، أخرجت كل ما لديها من أموال وأعطتها له، ورغم معرفتها وإدراكها بكل جنونه وإدمانه للخمر، لماذا كانت تستضيفه في فيلتها، وهي تعلم أن علاقتها الزوجية محفوفة بالمخاطر، وهي متزوجة من الرجل الثاني في الدولة؟. وفي كتابه الذي جاء ردّا علي مذكرات برلنتي، وكان عنوانه "عامر وبرلنتي ..الحكاية .. القضية.. الحكم.. ..الوثائق"، يكشف عبدالله إمام عن جوانب أخري من القصة، يقول إمام في فصل مثير تحت عنوان : "الكاتب البوليسي الثرثار" :(واحدة من الأوراق الغريبة، في حكاية عامر وبرلنتي، قصة محمد كامل حسن المحامي، الذي رأينا أن برلنتي قدمته للمشير، وأصبح صديقا له ..وما لبث أن اختلف معه ..وظل يثرثر بهذه العلاقة ويتحدث عنها ..وكان لا بد من موقف !). وتحركت المخابرات لتتخذ هذا الموقف، وكان واحدا من الاتهامات في قضية انحراف المخابرات، ويحاول صلاح نصر، الرجل القوي في دولة جمال عبد الناصر أن يجد مبررات واسعة لما اتخذ من إجراءات ضد كامل حسن، حيث أن الأمر يتعلق بالرجل الثاني في الجمهورية، وكامل حسن لا يكف عن الحديث بصدد زيجة عامر ببرلنتي في الجلسات العامة، وهذا من شأنه أن يعمل علي تشويه عبد الحكيم عامر، وبالتبعية فكل ما ينال المشير عامر من تشويه، سوف يصيب الدولة المصرية وسمعتها، ففي سبتمبر 1965، أصدر المسئولون بالمخابرات العامة قرارا حسب عبدالله إمام بضرورة تسجيل كل ما يدور في شقة محمد كامل حسن المحامي بعمارة التأمين بميدان الجيزة، ومتابعته ومعرفة الأماكن التي يتردد عليها ..وكذلك تسجيل ما يدور في الفيلا التي تقيم فيها أسرته وزوجته الأولي وأولاده ..واستأجرت المخابرات العامة حجرة بالطابق الأرضي بالعمارة التي يسكن فيها بميدان الجيزة مع زوجته السيدة سهير، ولم تتمكن المخابرات من التسجيل عن طريق هذه الغرفة، وإن كانت قد تمكنت بوسيلة أو بأخري أن تسجل بعض مايدور في شقته. كل هذه الأسرار والأخبار وغيرها، يسردها صلاح نصر لكي يبرر أن الأمر علي درجة كبيرة من الخطورة والسرية والكتمان، فحشد كل هذه الإمكانيات من أجل رجل يثرثر، أمور تدخل في عالم العبث والخرافة، ولا تصلح لكي تكون حماية سمعة الدولة، فالرجل الذي شوهوا سمعته، وخطفوا زوجته، ثم أدخلوه مستشفي "بهمن" للأمراض النفسية، واستخرجوا شهادات طبية لتبرير عصبيته وجنونه، كلها أمور تنتمي لعوالم اللامعقول، فما ارتكبه محمد كامل المحامي، لا يستدعي تحريك ترسانة المخابرات العامة من أجل قطع لسانه أو حبسه، فكل ما في الأمر، كما يكتب يوسف الشريف في كتابه :"القديس الصعلوك ..عبدالرحمن الخميسي"، أن عبد المنعم أبو زيد ورجال عبد الحكيم عامر، حاولوا إجبار الرجل علي تطليق زوجته التي يحبها، ولكنه رفض، ومن هنا جاءت كافة التهديدات وأشكال الحصار والمطاردة لتركيعه، ولم تنجح سوي عملية حجزه في المستشفي النفسي، وتطليقه من زوجته، حتي يتزوجها عبد المنعم أبوزيد، ويذكر الشريف في هذا السياق أن عبد الرحمن الخميسي ذهب إلي اللواء عبد العزيز سليمان مع ابنة الكاتب الأستاذة راوية ، وهو أحد المقربين من جمال عبد الناصر، حتي يتدخل للإفراج عن كامل حسن، وبالفعل لم تمض أيام حتي تم إخراج كامل حسن من المستشفي. وهنا بالطبع لم تتوقف الحكاية، إذ كان شرط الخروج من المستشفي، مقرونا بخروج كامل حسن من مصر كلها، وبالفعل خرج الرجل ظلما وعدوانا، وذهب إلي بيروت، ومنها إلي الكويت، وهناك كتب مذكراته، وذكر كل ما تعرض له، مما أثار حفيظة جميع أطراف القضية، لذلك جاءت مذكرات برلنتي المغرضة، ودفاعات ومبررات صلاح نصر الواهية والمكشوفة، وكذلك كان كتاب عبدالله إمام في سياق الدفاع عن الدولة الناصرية مهما حدث من كوارث، ولو لم تكن لها علاقة بناصر، ولكنها حدثت في ظله، هكذا تكشف قضية محمد كامل حسن أنواعا من العوار السياسي والاجتماعي الذي طال المخابرات في ذلك الوقت، وطال شخصيات اهتزت لها أركان المؤسسات الكبري، فالكاتب الذي برع في كتابة القصص والمسلسلات والأفلام البوليسية، لم يكن يتخيل بأنه سوف يصبح بطلا لقصة بوليسية حيّة وواقعية وحقيقية بهذا الشكل، فكاتب واحد، لا يملك سوي القلم، ترتعش سلطات صلاح نصر وبرلنتي عبد الحميد ورجال أقوي رجل في الدولة المصرية، إنها بالفعل قصة مثيرة للغاية، ورغم أن بعض الأوراق قد كشفت عن تلك القصة، أعتقد أن كامل أوراقها مازالت طيّ الكتمان، ولا يسعني هنا سوي أن نعيد لكتابات هذا الرجل بعض اعتبار لها، بعيدا عما أحاط بكاتبها من أحداث فجائعية وكارثية.