قصف إسرائيلي يستهدف مقراً للقوات الحكومية جنوب دمشق    تعيين رئيس جديد لشعبة الاستخبارات العسكرية في إسرائيل    رئيس لجنة الحكام يعلن عن موعد رحيله    شاهد، إداري الزمالك صاحب واقعة إخفاء الكرات بالقمة يتابع مباراة البنك الأهلي    ليفركوزن يتفوق على روما ويضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي    أيوب الكعبي يقود أولمبياكوس لإسقاط أستون فيلا بدوري المؤتمر    أحمد الكأس : سعيد بالتتويج ببطولة شمال إفريقيا.. وأتمنى احتراف لاعبي منتخب 2008    التعادل الإيجابي يحسم مباراة مارسيليا وأتالانتا ... باير ليفركوزن ينتصر على روما في الأولمبيكو بثنائية بذهاب نصف نهائي اليورباليج    ميزة جديدة تقدمها شركة سامسونج لسلسلة Galaxy S24 فما هي ؟    شايفنى طيار ..محمد أحمد ماهر: أبويا كان شبه هيقاطعنى عشان الفن    حمادة هلال يهنئ مصطفى كامل بمناسبة عقد قران ابنته: "مبروك صاحب العمر"    أحدث ظهور ل مصطفى شعبان بعد أنباء زواجه من هدى الناظر    بعد تصدره التريند.. حسام موافي يعلن اسم الشخص الذي يقبل يده دائما    سفير الكويت بالقاهرة: ننتظر نجاح المفاوضات المصرية بشأن غزة وسنرد بموقف عربي موحد    الصين تستعد لإطلاق مهمة لاكتشاف الجانب المخفي من القمر    أمين «حماة الوطن»: تدشين اتحاد القبائل يعكس حجم الدعم الشعبي للرئيس السيسي    سفير الكويت بالقاهرة: نتطلع لتحقيق قفزات في استثماراتنا بالسوق المصرية    في عطلة البنوك.. سعر الدولار الأمريكي مقابل الجنيه والعملات العربية والأجنبية الجمعة 3 مايو 2024    خطوات الاستعلام عن معاشات شهر مايو بالزيادة الجديدة    د.حماد عبدالله يكتب: حلمنا... قانون عادل للاستشارات الهندسية    جي بي مورجان يتوقع وصول تدفقات استثمارات المحافظ المالية في مصر إلى 8.1 مليار دولار    مباراة مثيرة|رد فعل خالد الغندور بعد خسارة الأهلى كأس مصر لكرة السلة    منتخب السباحة يتألق بالبطولة الأفريقية بعد حصد 11 ميدالية بنهاية اليوم الثالث    تعرف على طقس «غسل الأرجل» بالهند    حار نهاراً والعظمى في القاهرة 32.. حالة الطقس اليوم    جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات    بسبب ماس كهربائي.. إخماد حريق في سيارة ميكروباص ب بني سويف (صور)    بعد 10 أيام من إصابتها ليلة زفافها.. وفاة عروس مطوبس إثر تعرضها للغيبوبة    البطريرك يوسف العبسي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يحتفل برتبة غسل الأرجل    وصفها ب"الجبارة".. سفير الكويت بالقاهرة يشيد بجهود مصر في إدخال المساعدات لغزة    سفير الكويت بالقاهرة: رؤانا متطابقة مع مصر تجاه الأزمات والأحداث الإقليمية والدولية    ترسلها لمن؟.. أروع كلمات التهنئة بمناسبة قدوم شم النسيم 2024    برج السرطان.. حظك اليوم الجمعة 3 مايو 2024: نظام صحي جديد    أدب وتراث وحرف يدوية.. زخم وتنوع في ورش ملتقى شباب «أهل مصر» بدمياط    سباق الحمير .. احتفال لافت ب«مولد دندوت» لمسافة 15 كيلو مترًا في الفيوم    فلسطين.. قوات الاحتلال تطلق قنابل الإنارة جنوب مدينة غزة    بطريقة سهلة.. طريقة تحضير شوربة الشوفان    مياه الفيوم تنظم سلسلة ندوات توعوية على هامش القوافل الطبية بالقرى والنجوع    رغم القروض وبيع رأس الحكمة: الفجوة التمويلية تصل ل 28.5 مليار دولار..والقطار الكهربائي السريع يبتلع 2.2 مليار يورو    مغربي يصل بني سويف في رحلته إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحج    محافظ الجيزة يزور الكنيسة الكاثوليكية لتقديم التهنئة بمناسبة عيد القيامة    تركيا تفرض حظرًا تجاريًا على إسرائيل وتعلن وقف حركة الصادرات والواردات    مدير مشروعات ب"ابدأ": الإصدار الأول لصندوق الاستثمار الصناعى 2.5 مليار جنيه    القصة الكاملة لتغريم مرتضى منصور 400 ألف جنيه لصالح محامي الأهلي    حدث بالفن | وفاة فنانة وشيرين بالحجاب وزيجات دانا حلبي وعقد قران ابنة مصطفى كامل    «يا خفي اللطف ادركني بلطفك الخفي».. دعاء يوم الجمعة لفك الكرب وتيسير الأمور    خبيرة أسرية: ارتداء المرأة للملابس الفضفاضة لا يحميها من التحرش    السيطرة على حريق سوق الخردة بالشرقية، والقيادات الأمنية تعاين موقع الحادث (صور)    صحة الإسماعيلية تختتم دورة تدريبية ل 75 صيدليا بالمستشفيات (صور)    «الصحة» تدعم مستشفيات الشرقية بأجهزة أشعة بتكلفة 12 مليون جنيه    أستاذ بالأزهر يعلق على صورة الدكتور حسام موافي: تصرف غريب وهذه هي الحقيقة    استعدادًا لموسم السيول.. الوحدة المحلية لمدينة طور سيناء تطلق حملة لتطهير مجرى السيول ورفع الأحجار من أمام السدود    مصطفى كامل يحتفل بعقد قران ابنته    بالفيديو.. خالد الجندي يهنئ عمال مصر: "العمل شرط لدخول الجنة"    محافظ جنوب سيناء ووزير الأوقاف يبحثان خطة إحلال وتجديد مسجد المنشية بطور سيناء    "أسترازينيكا" تعترف بمشاكل لقاح كورونا وحكومة السيسي تدافع … ما السر؟    أمين الفتوى ب«الإفتاء»: من أسس الحياء بين الزوجين الحفاظ على أسرار البيت    مدينة السيسي.. «لمسة وفاء» لقائد مسيرة التنمية في سيناء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المدينة العائلية‮: ‬قصة سقوط المدينة‮ ‬ التي اشتهاها العالم

‮ ‬علي‮ ‬غرار رائعة الألماني توماس مان ابودنبروك‮ »‬‬قصة انهيار عائلة‮» ‬التي نُشرت للمرة الأولي في عام‮ ‬1901،‮ ‬والتي يصور فيها تراجع عائلة تجارية برجوازية‮ ‬غنية من شمال ألمانيا بالتحديد من مدينة لوبك علي مدي أربعة أجيال،‮ ‬يُقدِّم الكاتب الإنجليزي فيليب مانسيل كتابه عن عائلة بني عثمان قصة صعود وانهيار مدينة وعائلة معًا في كتابه‮ «القسطنطينية‮: ‬المدينة التي اشتهاها العالم‮ (‬1453‮ ‬‮ ‬1924‮)»‬‬،‮ ‬الذي صدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت‮ (‬يوليو أغسطس‮ ‬2015‮). ‬الكتاب جاء في جزءيْن‮ (‬أكثر من‮ ‬800‮ ‬صفحة‮) ‬موزعًا علي خمسة عشر فصلاً،‮ ‬يبدأ بمحمد الفاتح الذي أسّس لهذه المدينة منذ دخوله إياها عام‮ ‬1453،‮ ‬وتنتهي بسقوط المدينة في الفصل الخامس عشر‮ «موت عاصمة‮»‬ ‬وتشتُّت العائلة في المنافي وموت الباقي منهم بعيدًا عن المدينة التي عشقها الجميع‮. ‬الكتاب يجمع بين التاريخ والرواية السيرية للعائلة التي أسست مدينتها فصارت ملأ السمع والبصر،‮ ‬ووفد إليه الجميع واستوطنها الهاربون من الاضطهاد،‮ ‬وحضنت في أوقافها الشحاذين والمتسولين‮. ‬
سيرة مدينة
يتقمص المؤلف دور المُحقّق تارة والباحث تارة ثانية والناقد الذي يعقد المقارنات بين طبيعة المدينة في تعدديتها والسلاطين في حكمهم،‮ ‬والراوي تارة رابعة حيث يُقدِّم التاريخ في شكل حكاية لكنها‮ ‬غير مُنْفَصِلَة عن مرجعيتها التاريخية،‮ ‬ولهذا يحتوي علي وثائق وشهادات مِن رواةٍ‮ ‬عاصروا الأحداث،‮ ‬وهو ما انتهي بالكتاب في صورته ليكون جَامعًا بين السّيرة التاريخيّة للمدينة والسيرة الشخصيّة للسلاطين الذين تناوبوا عليها،‮ ‬دون أن يتغافلَ‮ ‬العادات الاجتماعيّة والثقافيّة التي شكّلت المدينة وجعلتها كوزمبالتية في عهدها الإسلامي؛ فقد نال‮ ‬غير المسلمين الكثير من حقوقهم إلي درجة‮ ‬احتفاء اليونانيين بانتصارهم علي الدولة التركية في داخل المدينة،‮ ‬ومن ثم تعدّدت التسميات لها من مدينة الله ومدينة الذهب إلي مدينة الأعاجيب‮.‬
يكشف الكتاب الكثير من الأسرار عن مدينة الأعاجيب وعن سلاطينها ونسائها وقوة نفوذهم،‮ ‬بل إنّه في كثيرٍ‮ ‬من أجزائه يعقد المؤلف مقارنات بين ما تحويه هذه المدينة وما عاصرها من مدن كبري كلندن وباريس والنمسا مبرزًا ما تمتعت به نساء هذه المدينة من مكانةٍ‮ ‬وأهميةٍ‮ ‬جعلت منهن يُدرن أموالهن الخاصّة بأنفسهن،‮ ‬عكس ما كان يَحدُث في أوروبا حيث كانت الوصاية علي النِّساء وما يمتلكن هي المبدأ السّائد‮. ‬
يؤكّد المترجم علي أنّ‮ ‬آل عثمان لم يكونوا أوّل سلاسة تركيّة حاكمة،‮ ‬ولم تكن القسطنطينيّة أوّل عاصمة لدولة تركيا،‮ ‬ولا لآل عثمان أنفسهم،‮ ‬لكن الاقتران بين آل عثمان والقسطنطينيّة أنتجَ‮ ‬أقوي وأكبر إمبراطورية تركيّة إسلاميّة وربما في تاريخ العالم،‮ ‬كما يزاوج المؤلف بين المدينة التي صنعت سلالة حاكمة،‮ ‬وبين سلالة اقترن تاريخها بالمدينة في مزيج قوي من العلاقة بينهما،‮ ‬فينسب الفضل إلي آل عثمان في قوة المدينة وعظمتها ودورها،‮ ‬بما فعلوه بداية مِن استقدام السُّكَّان لها،‮ ‬وصبغها بالصبغة الإسلاميّة،‮ ‬وأيضًا في قصورها الفخمة التي شُيِّدت كنوع مِن أُبهة السُّلطان لإبهار المَدينة،‮ ‬وعادات السّلاطين في حياتهم الخاصّة وطعامهم ومجلسهم وأيضًا مع وزرائهم ورعاياهم،‮ ‬والقوانين التي تحكم العلاقة بينهم وبين شعبهم،‮ ‬كما في‮ «قانون نامة‮»‬ ‬الذي سَنَّه محمد الثاني،‮ ‬وما أضافه الموت علي الأُسرة مِن هَيبةٍ‮ ‬ومكانةٍ‮ ‬أفزعت خصومهم وجعلت العامة يتخذونها دعاءً‮ ‬لهم علي مَن يبغضونهم بقولهم‮ «جعلك وزيرًا لسليم‮»‬ ‬في إشارة لكثرة مَن قُتل من وزرائه،‮ ‬وبفتوحات السلاطين الذين كانوا يتباهون بأنَّهم ملوك وسلاطين البر والبحر كما كان لَقب سليمان القانوني‮.‬
‮«أنا سلطان السلاطين وملك الملوك وموزع التيجان علي ملوك الأرض،‮ ‬ظل الله علي الأرض سلطان وباديشاه البحر الأبيض والبحر الأسود والروملي‮ »‬.‬
‮ ‬تعود تسمية المدينة إلي الإمبراطور الروماني قسطنطين،‮ ‬وقد تأسّست في موقع مدينة بيزنطة القديمة في فترة توسعاتهم الاستعمارية ما بين العامين‮ ‬671‮ ‬‮ ‬662‮ ‬قبل الميلاد‮. ‬ومنذ ذلك الحين صارت المدينة عاصمة الإمبراطورية الرومانيّة،‮ ‬ثمّ‮ ‬عاصمة بيزنطة أو الإمبراطورية اليونانية الشرقية ثم عاصمة الإمبراطورية اللاتينية،‮ ‬وعلي مدار تاريخها كانت القسطنطينية بلا منازع المدينة الأكبر والأكثر ثراءً‮ ‬في أوروبا كلها،‮ ‬ومن ثم أُطلق عليها‮ «المدينة التي يشتهيها العالم‮»‬ ‬ما كتب أحد البيزنطيين،‮ ‬لكن مع دخول محمد الفاتح في ظهيرة التاسع والعشرين من مايو عام‮ ‬1453‮ ‬المدينة التي حَلُم بها من قبل،‮ ‬بفرسه الأبيض منذ تلك اللحظة التي سبقها حُلمه بدأ العشق العثمانيّ‮ ‬للمدينة‮.‬
المدينة التي كانت عاصمة للمسيحية الأرثوذكسية الشرقية،‮ ‬وذات الهجين العرقي الديني والثقافي المتنوع،‮ ‬تحولت بأيدي آل عثمان إلي مدينة ذات صبغة إسلامية باسم دار الخلافة الإسلامية ومع هذا كانت متسامحة مع هذا الآخر فلم يقضوا علي الكنيسة الرومانية بل تعهدوها ودعّموها واعتبروا أنفسهم في الوقت عينه كما فعل محمد الفاتح ورثة الإسكندر الأكبر والأباطرة الرومان العظماء‮. ‬يُفرد المؤلف فصلاً‮ ‬كاملاً‮ ‬للسّلطان محمد الفاتح الذي فُتحت المدينة علي يديه،‮ ‬وعن دوره في تأسيس المدينة واستجلاب السّكان لها مِن كل بقاع تركيا،‮ ‬فقد ظلت المدينة بعد الفتح مدينة خالية خربة بسبب الطَّاعون الذي ضَرَبَ‮ ‬المدينة،‮ ‬فأرسل السلطان رُسله إلي المُدن التركية لتجميع الناس إليها،‮ ‬بترغيبهم فيها بالامتيازات التي تُمنح لهم‮. ‬ومن شدة يأس السلطان من قلّة العدد ذهب بنفسه إلي مدينة‮ «بورصة‮»‬ ‬لإجبار الصناع والتجار علي الانتقال إلي العاصمة،‮ ‬بل تم اتباع التهجير القسري لهم أو ما عرف بسياسة النفي‮ ‬Sürgün. وأحاط مدينته بكل ما يسهم في جعلها مدينة جاذبة،‮ ‬فأمر بتشييد البيوت الضخمة في المدينة في الأماكن التي يختارها كل منهم وأمرهم أيضًا ببناء حماما عامة وخانات وأسواق والكثير من الورش لتشييد دور العبادة،‮ ‬كما استورد يونانين وإيطاليين ويهوداً‮ ‬وحوت المدينة كافة الأجناس علاوة علي الكرد والعرب.بل كشفت رسالة من حبر يهودي لإخوته يحثهم علي الهجرة إلي أرض الترك بعد عام‮ ‬1453،‮ ‬إلي أنها صارت‮ "‬مأوي العالم‮" .‬
أَسلمة المدينة
أضفي الإسلام علي الأُسرة العثمانيّة هالة من القَداسة فداخل المساجد كانت الخُطب تُلقي باسم السلطان،‮ ‬ومن أوائل القرن السّابع عشر حتي نهاية الإمبراطورية،‮ ‬كان جزءٌ‮ ‬مِن طقوس تنصيب السُّلطان يتمثّل في أنْ‮ ‬يُقلِّدَه أحد أكبر الشيوخ،‮ ‬كما كان أكبر المراسم السنوية في القسطنطينية هو مغادرة قافلة الحج إلي مكة في الثاني عشر من رجب‮. ‬بل إنّ‮ ‬المكانة
‮ ‬التي حظيت بها الأسرة العثمانية مِن التقدير الشّعبي لها بعد عام‮ ‬1517‮ ‬ارتبطت بحمايتها لطرق الحج إلي الحجاز،‮ ‬من خلال نظام مُكلّف مِن الخانات والحماية المُسلَّحة للقوافل ورشوة القبائل البدوية‮. ‬لكن يري المؤلف أنَّ‮ ‬أسلمة المدينة نَتج عنها إغلاق العقل العثماني فقد أُصِيبَ‮ ‬بتخمة دينيّة،‮ ‬وافتقرتِ‮ ‬القسطنطينيّة الإسلاميّة إلي الأصالة الفكريّة والروح الاستقصائيّة التي مَيَّزت بغداد أو قرطبة‮. ‬العجيب أن الطابع الإسلاميّ‮ ‬للمدينة مَنَعَ‮ ‬عنها أن تدخل عصر الطباعة الذي بدأ في أوروبا منذ عام‮ ‬1454،‮ ‬بل بحلول عام‮ ‬1500‮ ‬كانت الطباعة‮ ‬غَزت المدن الكبري من أكسفورد إلي نابولي‮. ‬ومن التشدّد في أمور الطباعة صدر فرمان عام‮ ‬1515‮ ‬من سليم الأول يتوعد بالموت لأيّ‮ ‬شخصٍ‮ ‬يحترفُ‮ ‬الطباعة،‮ ‬ومرجع هذا للعلاقة الباطنية بين الإسلام وفن الخط اليدوي،‮ ‬لكن إحقاقًا للحق أن الأمر لم يكن هكذا بين‮ ‬غير المسلمين فقد مارس اليهود والأرمن الطباعة في ظلّ‮ ‬الدولة العثمانيّة‮. ‬لكن الجانب الإيجابي لهذه الأسلمة التي‮ ‬غلبت علي المدينة ففي الوقت الذي كان الزانادقة يحرقون أحياء في لندن وبرلين ويذبحون في باريس ويطردون في فيينا،‮ ‬كانت في هذه المدينة تمنح الحرية الدينية للمسيحيين واليهود‮.‬
كانت المساجد تأكيدًا للسُّلْطة،‮ ‬فهي بمثابة إعلان عن حقِّ‮ ‬السلطان في الحكم بصفته‮ «ظلّ‮ ‬الله علي الأرض‮»‬‬،‮ ‬ومثلما عمد آل عثمان إلي اعتبار العمارة والفخامة وسيلة لإظهار عظمة الإمبراطورية كان أيضَا الفن وسيلة أخري‮. ‬وفي وصفه للقصر لا يقدِّم القصر كرمز سياسيّ‮ ‬للإمبراطورية العثمانية وفقط،‮ ‬أو كمقر للسلطان وأسرته بل كواجهة حضارية عكست بكل ما يدور بداخله وما أَحاطَ‮ ‬به مِن تصميمات وبروتوكلات وزخارف وبما احتواه من مدارس فنيّة وتعليمية للخط وورش لصناعات الزخرفة والملابس والزينة‮. ‬ويشير أيضًا إلي سياسة القصر في تربية الغلمان والوزراء،‮ ‬وهي السياسة أو المدرسة التي أنجبت أفضل نماذج الصدر الأعظم في ذلك الوقت،‮ ‬بل كانت بمثابة دليل علي التحرّر من الطبقيّة والتراتبيّة والتي كان الغرب وبعض العرب مَهووسين بها،‮ ‬فقد كان من الممكن أن يصل العامة وباقي الجنسيات إلي أعلي المناصب في إدارة الدولة‮. ‬
تُركيا الفتاة
يرصد المؤلف المتغيرات التي آلت إلي نهاية دولة بني عثمان،‮ ‬بفقدان قصر يلدز لصلاحياته،‮ ‬ثمّ‮ ‬بالانتخابات التي أجرتها تركيا الفتاة،‮ ‬ثم استقالة كامل باشا الذي أراد إبعاد الجيش عن السياسة ثمّ‮ ‬الأهم تأسيس‮ «جمعية مُحمّد‮»‬ ‬عام‮ ‬1909،‮ ‬وتمرّد الجنود مطالبين بالشريعة وطرد النوَّاب والضَّباط مِن الاتّحاد والترقي‮. ‬ويكشف الكاتب عن دور مصطفي كمال وكيف تحوّل من الولاء للعائلة العثمانيّة إلي القوميّة التركيّة‮. ‬لكن المؤكّد أنّ‮ ‬المدينة بين عامي‮ ‬1918‮ ‬‮ ‬1924‮ ‬صارت لعبة بين طرفيْن الأوّل لعبة الأمم بين الإمبراطورية واليونانيين والغرب،‮ ‬واللعبة الثانية لعبة السُّلطة بين الدولة العثمانيّة ورعاياها مِن المسلمين‮.‬
مدينة الأعاجيب التي كانت تركيبة سُكّانها مزيجًا مِن كَافة الطوائف التي وجدت في هذه المدينة رَحابَةً‮ ‬دينيّةً‮ ‬وتعايشًا بل صَار أصحاب هذه الطوائف تُجّارًا ومتحكمين في كثيرٍ‮ ‬من الموارد الاقتصاديّة لها،‮ ‬ما إن تحدث الثورة‮ ‬حتي تتبدَّل معالم المدينة التي خضعت لآل عثمان ومرة واحدة تنتفض وأخذ الناس في الشوارع يُعانق أحدهم الآخر،‮ ‬بل إن الكاتبة التركية خالدة أديب تصف هذا الشعور الذي رأته علي الناس وهم يعبرون جسر‮ ‬غلطة قائلة‮: «يشعُ‮ ‬منهم شيء استثنائي،‮ ‬يضحكون ويبكون مِن شدّة الانفعال بزوال العجز والقبح تمامًا في لحظة واحدة‮ »‬ ‬بل إنّ‮ ‬المدينة تحوّلت إلي مركز الثورة مثلما‮ ‬غدت عاصمة الإمبراطورية‮.‬
مدينة الأضداد
يكتشف الكاتب في رحلة بحثه عن العلاقة بين المدينة وآل عثمان أنّهما مُلتقي الأضداد،‮ ‬فآل عثمان الذين استوعبوا كافة الأجناس داخل دولتهم لم يستوعبوا الأمراء من بني دمائم وقتلوا مِن نَسْلِهم ما فَاقَ‮ ‬ما قُتل في المعارك بسبب قانون قتل الإخوة الذي أسّسه محمد الفاتح والذي يقضي بقتل مَن يصل إلي سدّة الحكم بقتل أخوته جميعًا،‮ ‬كيلا يتصارعوا علي السُّلْطَة‮. ‬كما صارت مُلتقي لكلِّ‮ ‬الأضداد‮: ‬الأديان المتقاتلة والقوميات المتعاديّة خارج أسوارها،‮ ‬وتضج بالمُتعِ‮ ‬الحسيّة علي اختلافها وإلي أقصي درجاتها وفي ذات الوقت مدينة التديُّن الشّعبي وقبول الآخر،‮ ‬وتُعيِّنهم في أرقي المناصب‮.‬
يعدُّ‮ ‬نظام الحريم في الدولة العثمانية واحدًا من أهم التمثيلات التي اشتغلت عليها العقلية الغربية ساعية إلي تشويه نساء الشرق،‮ ‬لكن الحقيقة تقول إن هذا النظام كان شاهدًا علي مدنية الدولة العثمانية وتمثلهم لحقوق النساء وحماية لهن،‮ ‬بل كان دليلاً‮ ‬قويًّا علي تفوّق الحضارة الإسلامية علي الغربية في معاملة النساء وحفظ حقوقها وأيضًا تكريمها وإحلالها التقدير الملائم‮. ‬فيقدم الكاتب فصلا عن الحريم والحمامات،‮ ‬مُفرِّقًا بين التعامل بين الحرملك والسلاملك،‮ ‬كان أهم العوامل التي دفعت الأسرة الحاكمة إلي نظام الحريم الرغبة في السيطرة،‮ ‬كما أن الرغبة الجنسية في اتساع دائرة الحريم وتنوّع شريكات الحياة،‮ ‬إضافة إلي البيولوجيا كانت سببًا مهمًا يُضاف إلي العوامل السّابقة،‮ ‬فأبناء المحظيات علي خلاف أبناء الزوجات كانوا‮ ‬يزيدون العائلة‮. ‬لكن ثمّة سببًا حقيقيًّا يُفسِّر تفضيل المحظيات علي الزوجات،‮ ‬وذلك عندما أَسَرَ‮ ‬تيمور لنك السلطان بايزيد الأول مع حريمه،‮ ‬وكان مِن بين الزوجات زوجته الصربيّة ماريا ديسبينا،‮ ‬فقد أَجبر تيمور لنك ماريا علي أن تخدم الحضور في حفل انتصاره وهي عارية،‮ ‬وهو ما كان عاملاً‮ ‬في وفاة بايزيد كمدًا،‮ ‬وهو ما جعل السلاطين العثمانيين لا يتخذون من الجواري زوجات لهم،‮ ‬حتي كسر هذا القانون السلطان سليمان القانوني الذي كان مولعًا بالنساء‮.‬
وفي نظام الحريم يقارن الكاتب بين وضعية النساء في الحريم في الدولة العثمانية والخدم في البيوت الريفية الإنجليزية،‮ ‬كما تتجلّي المقارنة في الدور الذي لعبته حُرّم هانم،‮ ‬التي وصفها بأنها كانت تمارس دور آن بولين ملكة إنجلترا مع زوجها هنري الثامن،‮ ‬إلا أن حُرّم هانم لعبت دورًا سياسًا تجاوز المشاورة التي كانت رابطًا مشتركًا بين الاثنين إلي نشر السلام بين السلطنة وبولندا من خلالها مراسلاتها مع ملك بولندا وإرسالها منديلاً‮ ‬طرزته بيدها كهدية‮. ‬كما يكشف عن سلطة الحريم التي وصلت إلي أعلي مكانة لها في عهد مراد الثالث الذي حول مأواه إلي جناح الحريم،‮ ‬وما يتضمنه الحريم من خصيان وسلطتهم،‮ ‬ومن يأتون وأدوارهم،‮ ‬وأيضًا البكم والأقزام التي كانت إعاقتهم تجعل منهم خدامًا أو مهرجين ممتازين‮ (‬ص،‮ ‬161‮)‬
يُنهي الكاتب مُؤلَّفه الضخم بالإشارة إلي إسطنبول التي مثّلت للعالم في دورها ونموذجها كعاصمة كبري تجاهلت الحدود الصارمة؛ قومية كانت أو ثقافية أو اجتماعيّة أو دينيّة فبداخلها كانت الهُويات متعدِّدة فكانت بابًا في الحائط الفاصل بين الإسلام والمسيحيّة،‮ ‬وكان كُرسي الخِلافة جزءًا مِن نظام أوروبا،‮ ‬مدينة جَمعت بين قوميات وهويات متعدّدة فتجاور محمد الفاتح مع محمد صوكولو باشا،‮ ‬وهو ما دَفَعَ‮ ‬القوي الأوروبيّة بألا تتخلّي عنها فدافعت عنها وقوّت حماياتها‮. ‬بعد عام‮ ‬1924‮ ‬تحوّلت القسطنطينية بعد رحيل العائلة العثمانية من أكثر مدينة عالمية في أوروبا إلي أكثرها قوميّة،‮ ‬فيكشف الكاتب عن دور مصطفي كمال أتاتورك وكيف تحول من الولاء للعائلة العثمانية إلي القومية التركية،‮ ‬الغريب أن الكاتب يلمح أن في زيارة كمال أتاتورك إلي السلطان محمد السادس وحيد الدين،‮ ‬أثني عليه،‮ ‬بل قال له عبارة مفادها أن مستقبل الأمة التركية معقود عليه‮. ‬وقد كان لهذه الإجراءات التي أعلنها مصطفي دور في صدور فتوي من شيخ الإسلام عبد الله بايفندي،‮ ‬تتهمه بالخيانة وتدمير القانون والنظام وتشكيل جيش خاص‮ (‬ص‮ ‬235‮) ‬لكن أكثر ما لفت الإعجاب في هذه المدينة أنّها بعد عام‮ ‬1924‮ ‬لم تلتفتْ‮ ‬إلي الماضي ولم تشعرْ‮ ‬بالأَسَي عكس مُدن كثيرة كان الماضي يلحُّ،‮ ‬وبعد عام‮ ‬1926‮ ‬ألغت الاسم القديم ولم يَعُد يقبل مكتب البريد‮ ‬غير اسم اإسطنبول‮«،‮ ‬كما إنّها‮ ‬غيّرت هويتها تمامًا وصارت كماليّة،‮ ‬حتي أنّ‮ ‬والد الشّاعر عزيز نسين الذي كان قد انخرط في القِتال مع القوميين وترك أسرته اعترض علي أفعال القوميين،‮ ‬فجأة بعد أن كانت المدينة إسلاميّة صبغت بصبغة كماليّة واُستبدلت القبعة بالطربوش الأحمر،‮ ‬لكن الأغرب أنه بعد تمام الأمر للقوميين تمّ‮ ‬اضطهاد الاشتراكيّة فقُتِلَ‮ ‬زعيم الحزب الاشتراكي في ظروف‮ ‬غامضة‮. ‬أليس بحقّ‮ ‬أن‮ ‬تكون مدينة الأعاجيب؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.