لم يهتم أحد بلوحاته ولا قصصه إلي أن أشار الروائي الأمريكي الشهير فيليب روث إلي أهميته في مطلع السبعينيات. انتبهت الأوساط الأدبية العالمية إلي موهبة شولتز الفذة التي تجعله من طليعة التجريبيين في أوروبا، وتضع اسمه إلي جوار أسماء كبيرة مثل كافكا ومارسيل بروست. من يقرأ قصص الكاتب والفنان التشكيلي البولندي "برونو شولتز"، سيُدرك علي الفور أنه اكتشف كنزًا أدبيًا، ويضع اسمه مع أبرز كتاب القصة القصيرة في القرن العشرين. ولد "شولتز" لأسرة يهودية عام 1892 في مدينة "دروهوبيتش" البولندية، والتي تتبع أوكرانيا حاليًا. التحق بالجامعة وبدأ يدرس الهندسة المعمارية، إلا أن موت والده عام 1915، ومرضه بالقلب منعاه من مواصلة الدراسة، فعاد إلي مدينته وعمل مدرسًا للرسم في إحدي مدارسها، لكنه كره تلك الوظيفة وكرّس أغلب وقته للرسم والكتابة. اتسمت لوحاته بنزعة سوريالية واضحة، كما تناول العلاقة بين الرجل والمرأة برؤية جديدة، تظهر الرجل خاضعًا للمرأة ويدور في فلكها بإذعان. اتهمه البعض بأنه يرسم لوحات جنسية، مما سبب له حرجًا ودفعه إلي التركيز علي الكتابة، فبدأ يكتب القصص القصيرة بحماس بعد أن نصحته صديقته الشاعرة "ديبرا فوجل" بكتابة المواقف التي يكتبها إليها في خطاباته بشكل قصصي. أصدر "شولتز" مجموعتين قصصيتين في حياته هما "حوانيت القِرفة" عام 1934، و"مصحة تحت ساعة رملية" عام 1937، لكن مشروعه الأدبي توقف بمقتله علي يد أحد ضابط الجستابو برصاصتين في الرأس، عام 1942 . لم يهتم أحد بلوحاته ولا قصصه إلي أن أشار الروائي الأمريكي الشهير فيليب روث إلي أهميته في مطلع السبعينيات. انتبهت الأوساط الأدبية العالمية إلي موهبة شولتز الفذة التي تجعله من طليعة التجريبيين في أوروبا، وتضع اسمه إلي جوار أسماء كبيرة مثل كافكا ومارسيل بروست. يُقدم شولتز في قصصه عالمًا غرائبيًا يحتشد بلحظات الطفولة السحرية التي تذوب فيها الحدود الفاصلة بين الواقع والأحلام، كما تغطي عليها أحاسيس الفقد والخوف من الحياة، والحنين الجارف إلي مضارب الطفولة. تضمنت قصصه مشاهد لمدن رخوة، تنمو بداخلها الشوارع والحوانيت والأبراج، وتتحول الشوارع المألوفة نهارًا إلي متاهات ليلًا. زمن القصص مفارق للواقع، فاليوم أطول أو أقصر من المألوف، وشهور السنة قد تصبح ثلاثة عشر شهرًا نتيجة برودة الطقس والإحساس بالملل. الراوي في قصصه طفل، كما تتضمن القصص إشارات عديدة لأماكن الطفولة في "دروهوبيتش" التي ولد بها؛ إذ كان يعتقد أن كل المؤلفين يحاولون إعادة رسم صور الطفولة الضائعة. وهناك استدعاء مُتكرر لموت والده في أكثر من قصة، وأبرز سمات شخصية الأب هي ضعف الجسد ويقظة العقل والروح. ليس للقصص حبكة أو شخصيات واضحة بالمعني التقليدي، إذ تتكون من مزيج من المشاهد التي تتابع وتتداخل وفق منطقها الخاص. هناك عدة إشارات في خطابات شولتز إلي أنه كان يكتب رواية بعنوان "المسيح"، تدور أحداثها حول وصول المسيح اليهودي إلي مدينة "دروهوبيتش". ظل يعمل علي هذه الرواية لعدة سنوات، وكتب إلي بعض أصدقائه أنه يتعثر في كتابتها. مات شولتز قبل طباعة الرواية، ولم يعثر أحد علي مخطوطتها حتي الآن، لأنه أخفي كل لوحاته ومخطوطاته لدي بعض أصدقائه من غير اليهود مع اقتراب قوات النازي من المدينة. لم يهتم أحد بالبحث عن الرواية المفقودة إلا بعد إشادة فليب روث بصاحبها، وإعجاب عدد كبير من النقاد والقراء بقصص شولتز التي كانت مصدر إلهام لكُتاب كبار مثل إزاك سينجر، وجون أبدايك، وسينيثيا أوزيك، واعتبرته بعض الدوائر الأدبية شخصية أسطورية، وعبقرية خلاقة لم نُدرك كل ما لديها من إمكانيات إبداعية. كان هدف البحث هو العثور علي عمل أدبي يعتقد كثيرون أنه قيمة أدبية كبيرة في حد ذاته. ومن ناحية أخري، نشط مثقفون يهود في عملية البحث لأن شولتز يهودي قُتل علي يد ضابط جيستابو ألماني أثناء الحرب العالمية الثانية من أجل ضمها إلي بقية مُتعلقاته الموجودة في متحف الهولوكست في القدس. أبرز الباحثين عن الرواية المفقودة هو الشاعر البولندي جيرزي فيكاوسكي الذي كتب سيرة حياة شولتز، وأضاف إليها فصلًا يحكي فيه كيف طارد هذا الحلم لسنوات. بدأ بحث فيكاوسكي عن مخطوطة رواية "المسيح" عام 1987، عقب زيارة من أليكس شولتز؛ أحد أبناء عمومة "برونو شولتز"، وكان يقطن في المدينة أثناء الحرب العالمية الثانية. كان أليكس قد تلقي اتصالًا من شخص أوكراني مجهول يعرض عليه بيع صندوق كبير يحتوي علي مخطوطات ولوحات برونو شولتز مقابل عشرة آلاف دولار. ظن أليكس أن الرجل قد يكون دبلوماسيًا روسيًا سابقًا، أو أحد عملاء الاستخبارات الروسية السابقين. كان الرجل قد وصف المخطوطات المكتوبة باللغة البولندية واللوحات التي تحمل توقيع برونو شولتز. وافق أليكس علي شراء الصندوق علي الفور، إلا أنه اشترط علي البائع حضور فيكاوسكي لكي يتأكد من أن المخطوطات تخص برونو شولتز بالفعل، فوافق البائع. بعد عدة شهور، طلب منهما البائع إتمام الصفقة في أوكرانيا، لكنهما رفضا وطلبا إتمامها في العاصمة البولندية وارسو. بعد مراوغة من البائع، بدأ أمل فيكاوسكي يتلاشي في العثور علي رواية "المسيح"، ثم أصابه اليأس عقب موت أليكس بعد عدة شهور، وانقطاع الخيط الذي كان يمكن أن يؤدي إلي العثور علي مخطوطات شولتز. وفي مايو 1990، تلقي فيكاوسكي اتصالًا من سفير السويد في وارسو جين كرستوف أوبرج الذي كان مُهتمًا بالثقافة البولندية، وأخبره بوجود صندوق يضم مُقتنيات ومخطوطات شولتز بمخازن الاستخبارات الروسية؛ التي استولت علي مخازن الجيستابو الألماني ونقلتها إلي مقر الاستخبارات في أوكرانيا عام 1947. كان السفير حريصًا في حديثه مع فيكاوسكي، ولم يمده بالكثير من التفاصيل، إلا أنه أكد علي صحة المعلومة من عدة مصادر، من بينها موظف بالسفارة الروسية في استوكهولم، الذي أكد أنه رأي محتويات الصندوق الخاص بمقتنيات شولتز المكونة من رسائل ومخطوطات، من بينها رواية "المسيح". رفض السفير السويدي البوح باسم ذلك الموظف. كانت الخطوة التالية هي السفر إلي موسكو ومحاولة التأكد من وجود الرواية، فتقدم كل من "أوبرج" و"فيكاوسكي" بطلب للحصول علي تأشيرة سفر للاتحاد السوفيتي، لكن طلبهما رُفض مرتين بسبب البيروقراطية السوفيتية في ذلك الوقت. وفي نوفمبر من نفس العام، تم استدعاء أوبرج إلي السويد، فتوقفت عملية البحث مرة أخري. وفي عام 1991، تفكك الاتحاد السوفيتي، وأصبح مصير الرواية في "كييف" عاصمة أوكرانيا، وليس في موسكو. تجدد الأمل لدي فيكاوسكي أن تكشف السلطات الأوكرانية عن ما لديها من مخطوطات بعد الإعلان عن الاتجاه نحو الديمقراطية والانفتاح السياسي. وحين تأخر الكشف، قرر فيكاوسكي الاستعانة بصديقه "أوبرج" للبحث مُجددًا عن الرواية بالاستعانة بموظف السفارة الروسية، ولكن "أوبرج" مات في إحدي مستشفيات استكهولم في مايو 1992، وبهذا انقطع خيط آخر، ولم يعد لدي فيكاوسكي أي أسماء أو معلومات موثقة يمكنه الاعتماد عليها. كان عليه أن يعمل وحده كأنه وكالة تحريات، ولجأ إلي نشر إعلانات مدفوعة الأجر في الصحف البولندية والأوكرانية، يناشد فيها أي شخص لديه معلومات عن المخطوطات بالتواصل معه، ولكن دون جدوي. توقف فيكاوسكي عن البحث وعاد للاهتمام بمشروعاته الأدبية حتي وفاته عام 2006، وهو علي ثقة تامة بوجود مخطوط رواية "المسيح" بالفعل في مكان ما. تشكك روث بينجامين، المتخصصة في أدب الهولوكوست، في احتمال وجود صندوق بداخله رواية "المسيح"، وتُرجح أن فيكاوسكي وقع ضحية مزحة أو عملية احتيال نتيجة شغفه الشديد للحصول علي تلك المخطوطة. لكن الحماس في البحث عن تلك الرواية تضاعف في عام 2001، بعد عثور مخرج أفلام وثائقية ألماني علي جدارية كان شولتز قد رسمها علي جدار حجرة نوم ابن ضابط الجيستابو، واعتقد كثيرون من قبل أنها مجرد أسطورة. ومن بين الذين انشغلوا بالبحث عن الرواية حَبر يهودي أمريكي يُدعي نيلز إليوت جولدستاين، بعد أن شاهد مُقتنيات شولتز الموجودة في متحف الهلوكوست أثناء دراسته في القدس. كان "نيلز" قد توقف طويلًا أمام لوحات "شولتز"، فقرر التعرف علي عالمه الساحر من منطلقات جمالية أكثر منها دينية أو أيديولوجية، كما يبدو من تبريره لعملية البحث التي اتسمت بنطاقها المحدود وتمت علي فترات مُتباعدة. بدأ "نيلز" بحثه عام 2000 واتصل بالباحثة البولندية دوروتا جلواكا، أستاذة الأدب المُقارن بجامعة "كينج كوليدج" بانجلترا. كانت "دوروتا" قد سافرت إلي وارسو عام 1993، وأجرت حوارًا مع فيكاوسكي حول محاولاته لاستعادة مخطوطات "شولتز" المفقودة. أخبرت "نيلز" أنها تشك في وجود الرواية من الأصل، ولكنها أعطته أسماء وعناوين عدد من المُتخصصين في دارسة "شولتز"، وكذلك عنوان "فيكاوسكي" نفسه. طلب "نيلز" النصيحة من عميل متخصص في البحث عن الوثائق المفقودة في المباحث الفيدرالية الأمريكية، كما تحدث مع أحد مسئولي أمن البعثات الدبلوماسية في وزارة الخارجية الأمريكية، وكانت نصيحتهما هي أن يسافر إلي بولندا وأوكرانياوروسيا إن أراد الحصول علي الوثائق. لم يتمكن "نيلز" من السفر لارتباطاته وعدم قدرته علي تمويل الرحلة، فتوقف عن البحث. في عام 2014، استأنف "نيلز" بحثه بمُعاودة الاتصال ب"دوروتا"، التي رتبت له مقابلة باحثة شابة تُدعي "كارين أندرهيل"، وهي مُتخصصة في أعمال "شولتز"، تعيش في الولاياتالمتحدةالأمريكية. تحدث إليه "كارين" عن أطروحتها للدكتوراه حول "شولتز" وعن الوقت الذي قضته في بولندا وأوكرانيا، ثم أبدت شكها في وجود الرواية في الوقت الراهن، وربما لم تكن موجودة علي الإطلاق. تُرجح "كارين" أن "شولتز" ربما توقف عن كتابة الرواية، ونشر الجزء الذي أنجزه منها كقصة أو أكثر في مجموعته القصصية الثانية. وترجح "روث بينجامين" أن قصة "الكتاب"، المنشورة في مجموعة "المصحة" هي الجزء الذي كتبه "شولتز" من رواية "المسيح"، وأنه ربما قام بهذا التصرف بعد يأسه من إتمام الرواية نتيجة ظروفه الشخصية واندلاع الحرب. بدأ "نيلز" يشك في وجود الرواية من الأساس، وقرر التوقف عن البحث عنها، إلا أنه قرأ مقالًا للروائي الإسرائيلي "دافيد جروسمان" تحدث فيه مدي تأثره بأسلوب "شولتز"، وأشار إلي أنه التقي شخصًا قرأ الصفحات الأولي من رواية "المسيح"، وأنها تختلف تمامًا عن كل قصصه المنشورة. تغيرت قناعة "نيلز" مرة أخري، وقرر الانضمام إلي قافلة الباحثين عن النص المفقود من جديد، الذين يراودهم الأمل في ظهور الرواية مثلما ظهرت الجدارية، ومثلما ظهر "شولتز" نفسه إلي النور بعد عقود من النسيان. يبقي صمت السلطات الأوكرانية، وعدم تعاونها في البحث عن الرواية المفقودة، غريبًا. قد يرجع السبب إلي الأزمة الكبيرة التي وقعت بين إسرائيل وأوكرانيا بسبب استيلاء مسئولي متحف الهولوكوست علي الجدارية التي رسمها شولتز، مما أغضب أوكرانيا وجعل وزير ثقافتها يُصدر بيانًا شديد اللهجة يتهم فيه متحف الهولوكست بالسرقة. في كل الأحوال، أصبح البحث عن رواية "شولتز" نوعًا من مُطاردة السراب، تقوده نوازع عاطفية أكثر منها حقائق واقعية. لقد مضي زمن طويل علي اختفاء الرواية، ومات كل من لهم صلة مُباشرة ب"شولتز"، ولم تسفر عمليات البحث عن مسار واضح يمكن تتبعه. لهذا، تزايدت الأصوات التي تُشكك في وجود الرواية من الأساس، وحتي إن وجدت فربما تظل مجهولة إلي الأبد مثل جثة مؤلفها التي دُفنت في قبر مجهول بمقبرة حولتها الحرب إلي ركام. عن مقالي: ملاحقة "المسيح" ورواية برونو شولتز المفقودة. لنايلز إليوت جولدستاين. فوروارد. كوم. المفقود.. بحثاً عن برونو شولتز، لروث فرانكلين، النيويوركر