الشهرة الأدبية التي حققها جونتر جراس من قراءة مخطوطة روايته "الطبل الصفيح" أمام المجموعة 47 في عام 1958، لم تعد عليه وحده بالنفع، بل أكسبت المجموعة الأدبية التي أسسها كتاب بارزون بعد الحرب ثقلا وتأثيرا أدبيا أكبر. وإن دل هذا علي شيء فإنه يدل علي هذا الزخم الذي يتمتع به أسلوب هذا الكاتب الشاب الذي سرعان ما أصبح كاتبا جماهيريا مع صدور ثلاثيته الشهيرة تباعا: "الطبل الصفيح" 1959، "قطة وفأر" 1961 و"سنوات الكلاب" 1963. لا تتسم الثلاثية بطابع كرونولوجي ولكنها تتخذ من مسقط رأس جراس، مدينة دانتسيغ أو جدانسك مسرحا لها، وتتقاطع شخوصها في مشاهد عابرة، كأن يمر أوسكار ماتسيرات بطل "الطبل الصفيح" بشكل عابر في "سنوات الكلاب" أو أن تظهر الفتاة النحيلة تولا بوكريفكه وهي شخصية أساسية في "سنوات الكلاب" مرة أخري مع مراهقي "قطة وفأر". دانتسيغ أيضا هي مركز الكون في عالم جراس الروائي، ففي روايته "ذكر سمكة موسي" (1977) يتحدث عن نشأة مجتمع أمومي تحكمه نساء عند مصب نهر الفايكسل/ الفيستولا، إلي أن يشي ذكر سمكة موسي لأحد الصيادين بالسر الذي يمكنه من جعل الهيمنة للذكور، بشرط أن يفلته ويعيده إلي الماء. وسيعود إليها في النوفيلا المثيرة للجدل "في خطو السرطان" (2002) التي تتناول إغراق غواصة سوفيتية لسفينة ركاب ألمانية وتظهر فيها تولا بوكريفكه ثانية كأم للرواي. وأخيرا في سيرته الذاتية الأكثر إثارة للجدل "أثناء تقشير البصل" (2006) التي يروي فيها عن طفولته وشبابه ويفجر مفاجأة مدوية بكشف انضمامه أثناء الحرب وهو في السابعة عشرة لفرق الحماية SS وهو ما تسبب في اهتزاز سمعته كضمير أخلاقي للأمة الألمانية. الآن وبعد أن شططنا كثيرا في عالم دانتسيغ الرحب نعود إلي الثلاثية الشهيرة لنتأمل عن كثب عوالمها الروائية المختلفة بحق. كان صدور رواية "الطبل الصفيح" علامة فارقة في تاريخ الأدب الألماني والأوروبي ما بعد الحرب، فقد صدرت الرواية في وقت كانت الرواية التقليدية تلفظ أنفاسها الأخيرة، بعد أن أعلن كتاب "الرواية الجديدة" في فرنسا موت الرواية، وهو ما يتناوله بطل وراوي "الطبل الصفيح" أوسكار ماتسيرات صراحة ويسخر منه: "وكذلك يستطيع المرء أن يدعي منذ البداية بأن من المستحيل كتابة رواية في هذه الأيام، لكن يراه سيجود فيما بعد، ومن خلف ظهره كما يقال، بتسطير عمل لا مثيل له، وتسجيل سبق أدبيّ، ثم يتوّج نفسه في آخر المطاف باعتباره آخر من استطاع كتابة رواية. وقد قلت في نفسي، أنا أيضاً، بأن من المناسب، من ناحية وديّة ومتواضعة، التأكيد منذ البداية علي أن: لا وجود اليوم لأبطال الروايات" لأن ليس هناك شخصيات فرديّة" ولأن الفردانية قد اختفت" ولأن الإنسان بات معزولاً، بحيث أن كل إنسان أصبح منفرداً بالقدر ذاته، ومحروماً من العزلة الفردية، ومشكلاً كتلة فردية خالية من الأسماء. ويمكن أن تكون الأمور كلها سارية علي هذا المنوال، ومحتفظة بمصداقية ما، لكن فيما يتعلق بي وبممرضي برونو" فإنني أود التأكيد علي: أننا بطلان مختلفان..."(الطبل الصفيح- ترجمة حسين الموزاني) لكن عودة جراس في "الطبل الصفيح" إلي السرد التقليدي المتسلسل زمنيا لا يعني أنه يكتب رواية تنتمي للقرن التاسع عشر، فمن خلال البطل القزم أوسكار ماتسيرات الذي يري العالم من أسفل ويكشفه خلق جراس رواية "شطار" معاصرة، لا يمتلك بطلها الحقيقة كاملة، بل إن روايته مشكوك فيها، فحتي نهاية الرواية تظل بعض الأمور غير واضحة ولا يمكن إزالة الغموض عنها بشكل تام، مثلا لا نعرف حتي النهاية من هو الأب الفعلي لأوسكار، زوج أمه أم ابن خالتها وعشيقها البولندي، هل توقف نموه بسبب سقطته في القبو أم بقرار منه كما أدعي، هل كورت هو أخوه أم ابنه؟ هل استطاع فعلا وهو أسفل المنصة أن يجعل الجموع النازية ترقص علي أنغام Jimmy the Tiger؟ في رواية "الفأرة" (1986) يقول أوسكار إن هذه القصة كانت من وحي مخيلته. رغم قدرته علي كشف العالم من أسفل وغنائه المحطم للزجاج وطبله المنذر، يعيش أوسكار أسيرا لإحساسه بالذنب لاعتقاده بأنه من قتل أمه وأباه الثاني ماتسيرات، ولحرمانه الجنسي، ويتمني وهو علي سريره في مستشفي الأمراض العقلية ألا يعود إلي عالم العقلاء، بل إلي أسفل تنورة جدته المتعددة الطبقات، حيث الدفء والأمان. لقد استطاع جراس في الطبل الصفيح زعزعة أمور كثيرة من بينها اللغة والعلاقة بالمعتقد الكاثوليكي الذي تربي عليه وأخيرا وليس بآخر شكل الرواية التقليدي. ولم يكتف جراس بذلك، بل انتقل بعد ذلك ليضع متفجراته اللغوية في شكل سردي تقليدي آخر هو النوفيلا وذلك في "قطة وفأر" التي يلعب فيها جراس علي نموذج النوفيلا الألمانية في القرن التاسع عشر والتي كان من أشهر مؤلفيها باول هايزه وتيودور شتروم وتتميز بتمجيد الأعمال البطولية لأشخاص هم منارات للبشرية، فيما ركز جراس علي نموذج البطولة في الفترة النازية الذي جسده مالكه الشاب ذو الحنجرة الكبيرة التي تشبه الفأر والتي كان يسعي دائما لصرف الانتباه عنها بتعليق شيء في رقبته وبالتفوق علي زملائه في أي نوع من المسابقات، في السباحة التي لم يكن يعرفها، في الغطس، في ممارسة العادة السرية، وعندما يحضر أحد قدامي طلاب المدرسة لإلقاء خطبة بمناسبة حصوله علي الصليب الحديدي لشجاعته القتالية، يتمني مالكه الحصول علي مثل هذا الصليب الحديدي ويسرقه، ويُفصل من المدرسة وينتقل لأخري، ثم يتطوع في الجيش ويحصل علي الصليب الحديدي لمهارته في القنص ويعود إلي المدينة راغبا في إلقاء خطبة في مدرسته القديمة لكن طلبه يُرفض، ما يدفعه إلي الهروب من الجيش والاختباء في الغواصة القديمة التي كان يجتمع فيها مع أصدقائه في الماضي. يتعهد الراوي بيلنتس أن يجلب له فتاحة لعلب المحفوظات حتي يستطيع أن يتناول الطعام أثناء اختبائه في الغواصة لكنه يغيب عنه يومين ويعود ليكتشف اختفاء مالكه. عظمة هذا العمل تكمن في حالة الشك الدائم التي يعيشها الراوي منذ اللحظة الأولي: "علي أي حال لقد قفزت علي حنجرة مالكه، أم أن أحدنا أمسك بالقطة ووضعها علي رقبة مالكه، أم كان ذلك أنا الذي أمسك، سواء مع ألم الأسنان أم بدونه بالقطة وأراها فأر مالكه." (قطة وفأر ). إحساسه بالذنب اتجاه صديقه المختفي يدفع الراوي بيلنتس دائما إلي تجميل الأمور وعرضها بصورة ضبابية. في رأيي المتواضع تعد "قطة وفأر" أعظم أعمال جراس علي الإطلاق، لقد كتب مانفستو لأدبه بعنوان "الباليرينا" يقول فيه: "الباليرينا تعيش كالراهبة بعيدة عن كل الإغواءات، في حالة الزهد. مثل هذا التشبيه يجب ألا يكون مفاجئا فكل الفن الذي نتلقاه هو دائما نتيجة للتقيد الصارم وليس للشطط العبقري." ولا أعتقد أن جراس قد طبق حالة الزهد هذه بحق إلا في هذه النوفيلا الرائعة التي انسلخت عن هجين روائي ضخم، سيتحول لاحقا إلي آخر أجزاء الثلاثية وأكثرها تعقيدا، "سنوات الكلاب"، التي سيجد فيها جراس مجالا للشطط المدروس بعض الشيء. واجه جراس في البداية مشكلة في سرد قصته وتخيل في البداية فتاة تقشر البطاطس وكلما طالت القشور طال السرد، لكن الفكرة لم تنجح واهتدي أخيرا إلي فكرة أن يقوم ثلاثة رواة بسرد العمل بتكليف من الراوي الأول "أمزل" الذي يدفع أموالا للراويين الآخرين "هاري ليبناو" و"ماتيرن" ويحدد لهم موعد تسليم يقترن بإشاعة عن نهاية العالم. وجود ثلاثة رواة للعمل قد يعد بتعدد الرؤي وبانفتاح أكثر علي العالم، وإذا كنا قد رأينا في الجزئين الأولين من الثلاثية تحطيم الشكل الراوئي التقليدي عبر حالة عدم اليقين والتشكك التي تصلنا عبر أوسكار ماتسيرات وبيلينتس، فإن جراس سيخيب آمالنا كثيرا في "سنوات الكلاب". توجد في سنوات الكلاب مستويات عدة للحكي، قصص عديدة متجاورة تسير بشكل خطي متتابع، قصة الصديقين أمزل نصف اليهودي وماتيرن الكاثوليكي وعلاقتهما التي تشبه علاقة المسيح بيهوذا الإسخريوطي، وقصة الكلب برينتس الذي أهدته مدينة دانتسيغ إلي الفوهرر وما أحدثه ذلك في أوساط البرجوازية الصغيرة في دانتسيغ، والبعد الميثولوجي لسلالة الكلاب، وكتاب "الجنس والشخصية" الذي ألفه يهودي هو أوتو فايننجر في بداية القرن الماضي ونفي فيه عن اليهود والنساء أي قدرة علي ممارسة الرياضة والموسيقي ونفي امتلاكهم للروح. لكن الراوي الأول أمزل يمسك بخيوط الحكي كلها لتصب في مقولة معينة، ليضع تصورا معينا عن العالم. في اعتقادي أن جونتر جراس كان يسعي لتأليف كتاب مضاد لكتاب أوتو فايننغر وبعمل كشف حساب مع التاريخ النازي للألمان: "لقد غذي فايننغر كاتب هذه السطور ببعض الأفكار. خُلقت الفزاعات علي صورة الإنسان." (سنوات الكلاب) الجزء الثالث من الرواية "ماتيرنيادات" يدور في ألمانيا ما بعد الحرب ويعرض للمعجزة الاقتصادية ومحاولات الناس إخفاء تاريخهم النازي حتي ماتيرن نفسه الذي يتذكر أكثر تاريخه كممثل وشيوعي يأتي ليحاسب غرماءه برفقة الكلب الأسود الذي فر من الفوهرر ليصل إليه ويرافقه كظله. لكن هذا الجزء يصلح، في حال التخلي عن البناء المعقد للرواية، كما هي الحال مع الجزء الثالث من "الطبل الصفيح" أن يكون قصصا قصيرة متفرقة، لأن غراس في رأيي ربما لم يكن قد استوعب الأحداث القريبة بالقدر الكافي لإدماجها بشكل مقنع في عمل روائي وبالتالي غرق في استطرادات كثيرة نقلها أحيانا حرفيا من مجلات أو مصادر أخري. لكن يبقي داخل هذا العمل المعقد المتشابك نص يكاد أن يكون رواية خالصة بذاتها وهو الفصل الثاني "خطابات غرامية"، حيث يحكي الراوي هاري ليبناو لابنة خالته ما حدث في دانتسيغ مع صعود المد النازي في المدينة، بعيدا عن قصة الصديقين أمزل وماتيرن، يروي هاري ليبناو التفاصيل الواقعية للبرجوازية الصغيرة في المدينة التي غمرها المد النازي سريعا، وسكوت الناس عن جبل العظام المتكوم بجانب معسكر اعتقال شتوتهوف، والتي كانوا يصنعون منها الصابون. يروي قصة تجنيده ومعايشته للحرب من منظور الصبي المراهق. هنا يجد القارئ أيضا فسحة من عدم اليقين أيضا في علاقة الراوي الملتبسة مع ابنة خاله تولا التي لا تلتفت له أبدا وتقيم علاقات مع آخرين من حوله. هنا يجد القارئ فسحة للمتعة. يُعرِّف الناقد الأدبي يورغن بيترسن الرواية الحديثة بأنها "الرواية التي تري أن العالم يمكن "أن يكون هكذا أو هكذا" فيما تري الرواية التقليدية "صورة العالم بأنه "هكذا وليس غير ذلك". وفي رأيي تجنح "سنوات الكلاب إلي تقديم هذا التصور الأوحد عن العالم. أي أنها رغم بنائها الضخم رواية تقليدية تضم داخلها ربما رواية صغيرة تتلمس طريقها نحو الحداثة.