- اعترافات غراس بين دعاوى سحب نوبل ..وقيمة الكاتب الراسخة - غراس حمل نفسه مسئولية إبادات النازية دون إطلاق رصاصة واحدة - غراس يروى سنوات القحط و البؤس فى محاولة للخلاص - حاول محو آثار الحرب بالألوان و الكلمات - " طبل الصفيح " انطلاقته الحقيقية لعالم الأدب كان يجلس حائرا ليختار عنوانا لمذكراته ، و يديه مشغولة بتقشر البصل ، ثم لمعت عيناه ، ليختار أن يسرد أحداث حياته الحافلة كمن يقشر البصلة ، و يجد الأحداث فى طياتها ، طية بعد الأخرى ، مقتنعا أن أثناء التقشير فقط تنطق بالحقيقة ، قائلا : " "الحقيقة الثابتة هي أن ذكرياتنا، أو ما نرويه عن أنفسنا، قد يكون خداعاً، بل إنه غالباً ما يكون كذلك... يحاول معظم كتاب السير الذاتية أن يعظوا القراء وأن يبينوا لهم أن حدثاً ما جرى هكذا، وليس على صورة أخرى. أردت أن أصّور الأمر بصراحة أكثر. ومن هنا برزت أهمية الشكل والإطار الضروريين لضم الأحداث ".. و هكذا كانت البصلة . هو الأديب الألمانى الراحل غونتر غراس الحائز على جائزة نوبل للآداب ، الذى خرجت مذكراته " تقشير البصلة " للنور عام 2006 ، تلك المذكرات التى أثارت موجة من الجدل فور نشرها ، تحمل انتقاد قاسى للذات ، و تنقيحات للماضى طرحت نفسها على خيال غراس كحشد من الصور والقصص التي تطلب أن يتم التعامل معها ، و تمتد سيرته من طفولته (عام 1927) حتى ظهور روايته "طبل الصفيح" في عام 1959 ، و توقف غراس عند هذا الحد رافضا أن يكتب جزءا ثانيا لمذكراته . و ما أثار الجدل بشأن سيرته هو كشفه لحقيقة كونه مقاتلاً في فرقة ال(SS) أثناء الحرب العالمية الثانية ، وليس جندياً للخدمات في القوة الجوية كما أشاع ، و قال غراس بإنه لم يكتب هذه السيرة إلا بعد صراع نفسي حاد، ولا يدري إن كان كشفُ تلك الأسرار سيقود إلى الخلاص أم لا . فغونتر غراس كما هو معروف عنه مناضل و مدافع عن الإنسان ، و فرقة ال(SS) كانت بمثابة جهاز الحرس الخاص الذي يتولى حماية أدولف هتلر وكبار قادة الحزب النازي ونسبت لها أعمال وحشية ، وقد تم حظرها بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية وسقوط النازية كما أدينت رسميا بأنها " منظمة إجرامية" ، لذا رجح النقاد أن جراس أخفى الأمر لخوفه من نبذ الأوساط اليسارية له ، ووصل هجوم البعض عليه للمطالبة باستعادة جائزة نوبل منه ، فيما أكد العديد من الكتاب أن اعتراف غونتر لا يؤثر على قيمته ككاتب . فما رآه غراس كشف له قبح الجرائم النازية فثار ضدها ، و طالما أشار إلى ذنب الألمان الجماعي في أهوال الحرب العالمية الثانية ، و كأنما أراد بأعماله الروائية أن يكفر عن زمن الحرب ، ليصبح كاتب الإنسان فى كل زمان و مكان ، فحتى بعد وفاته لم ترضى عنه إسرائيل ، لدعوته لحملة كبرى لنزع الشرعية عن إسرائيل و فضحه لجرائم الاحتلال و اتهامها بتهديد السلم العالمى ، كما رفض حرب أمريكا على العراق ، فكان يردد غراس دوما أن " الكاتب هو الضمير النابض للشعب " ، ليختار ختار أن يواجه بالقلم والنحت والرسم، من أجل ألاّ تكرر أوروبا الفظاعة الكبرى مرة ثالثة. طفولة غراس يذكر غراس أنه ولد لأب ألماني وأم كاشوبية تنتمي إلى أقلية سلافية في بولندا ، و قال غراس: " كم أسفت لأن أبي انضم إلى صفوف الحزب النازي وهو في السادسة والثلاثين من عمره! وكنت وأنا صبي تستهويني البزة العسكرية، ولع بالأناشيد الوطنية في أيام الرايخ الثالث. كان اسم والدي فيلهملم غراس واسم أمي هيلينه. اعتدت أن أدخر ما أحصل عليه من مكافآت وأشتري بها أقلاماً وألواناً، وأوراقاً لممارسة الرسم وكتباً عن الحيوانات البرية. كنت في طفولتي مدمناً على مشاهدة الأفلام في دور السينما. كان والداي يديران متجراً صغيراً في الحي، وكلفاني بجمع الديون من الزبائن في أول كل شهر. وكنت أدور على المنازل وأطرق الأبواب، مما أتاح لي التحدث مع الناس من كل الأصناف، واكتسبت خبرة في الإقناع، واطلعت على أمور حياتهم ، وانعكس كل ذلك في أعمالي الروائية فيما بعد" . كان غراس مولعا بالقراءة منذ الصغر ، و قال عن ذلك فى سيرته : " لم أقرأ الكتب الداعية للنازية لكنني كنت مولعاً بالمطالعة، فقرأت كل ما وجدته على رف الكتب العائد لأمي، وكنت أستعير عدداً من الكتب في بدء موسم الصيف وآخذها معي وأنكبُّ على قراءتها على ساحل بحر البلطيق " . غراس و النازية " لقد ترددت في كشف هذا السر لعقود طويلة. وأشعر أني مسئول قبل الآخرين في القيادة العسكرية الألمانية عن الأحداث الجسيمة وحملات الإبادة التي حصلت آنذاك. ".كانت تلك كلمات غونتر فى مذكراته التى أعرب فيها عن ندمه و شعوره بالمسئولية عن حملات الإبادة و جرائم النازية ، حتى و إن لم يرتكب كما أكد أي أعمال إجرامية ولم يطلق الرصاص على أحد قط. و روى غراس تفاصيل تلك الفترة من حياته قائلا : " كنت أثناء طفولتي عضواً في شبيبة هتلر، وهو تنظيم شبه عسكري يضم الأطفال اليافعين ليتلقوا أسس التربية النازية ويرتدون ملابس الكشافة وعلى أذرعهم الصليب المعقوف، رمز النازية. قمت بتوزيع المنشورات لمصلحة الحزب النازي. لم أكن استمع إلى النكات التي كانت تروى للسخرية من النازيين في أوساط اليساريين، بل آمنت بأن الوطن محاط بالأعداء وأن عليّ الدفاع عنه ، و آمنت بالزعيم هتلر (الفوهرر). و اعترف غراس بالتحاقه بفرقة الإس إس ، و عبر عن ندمه و مسئوليته عن حملات الإبادة التى وقعت آنذاك قائلا : "التحقت بفرقة الإس إس في أشهر الحرب الأخيرة من عام 1945 ، لم أكن أخجل من حمل شارة الإس إس وقتها ، بل بالعكس كان متطوعون أجانب يلتحقون بفرقة الإس إس من فرنسا وهولندا والنرويج والدانمارك والسويد (المحايدة)، للمشاركة في الحرب الدفاعية لصد الشيوعية ومنعها من السيطرة على أوروبا. بدأت أحس بالنهاية المحتومة، هزيمة ألمانيا. بدأ الناس يتحدثون عن تدمير مدينة دريزدن تحت قصف الأمريكان والإنجليز في عام 1945. انتحر هتلر في برلين. أصبت في الجبهة ثم وقعت مع الكثيرين في الأسر وجيء بي إلى مستشفى عسكري لأسرى الحرب وعلى صدري إشارة "أسير حرب". عانيت من الجوع وكنت أسمع قرقرة معدتي. وقد تحدثت عن ألام الجوع فيما بعد في روايتي "سمكة موسى" جاء الجنود الأمريكان وظننا أنهم رجال نزلوا من الفضاء. استسلمت ألمانيا دون قيد أو شرط وتم إذلال الشعب الألماني. وطرح العنصري اليهودي، مورغنتا ومشروعه سيئ الصيت بتجريد الشعب الألماني من السلاح وتحويله إلى شعب فلاحين. كل هذا يجري وأنا في السابعة عشرة، راقد في مستشفى لأسرى الحرب . فى الوقت الذى لم يكن يعرف الأسرى مصيرهم ، أخذ الأمريكان الأسرى صغار السن لإعادة تنشئتهم ، و قال غراس عن تلك الفترة القاسية : خاف الألمان المهجرون من أوروبا الشرقية (بولندا وروسيا وغيرهما- وأنا منهم) من أن يسوقنا الأمريكان إلى مواطننا السابقة. لم أتلق أي خبر عن والديّ وأختي، وشعرت باليتم، بلا وطن وبلا جذور وأنا في حزن دائم ، و نقل غراس لمطبخ معسكر الأسرى لغسل الصحون والطبخ وتنظيف الخضروات، قائلا : شعرت هناك وكأنني في جنة تنابلة السلطان . أما عن المضايقات التى يتعرض لها الأسرى ، قال : لقينا في المعسكر بعض المضايقات من أسرى ألمان من اليهود وكانت بيننا عداوة وكم كانوا يسخرون منا بصفتنا جنود هتلر النازي! كم كانوا يصيحون عالياً: اخرجوا من ألمانيا! .. وكان حراس المعسكر من الجنود الأمريكان يضحكون ويجدون متعة في متابعة تلك المعارك الكلامية التي تندلع من حين لآخر بيننا وبين الأسرى اليهود ، و اعتاد الأمريكي المسئول عن إعادة تربيتنا أن يرينا صوراً فوتوغرافية عن فظائع معسكرات الاعتقال النازية والمقابر الجماعية، فكنا نحتج عليه بأنها صور دعائية ضدنا. سنوات القحط بعد إطلاق سراح غراس من المعتقل ، لم يجبر على العمل فى إنجلترا لإصابته بشظايا أثناء الحرب ، و مضى غراس بعض الوقت فى " زارلاند " بجنوب غرب ألمانيا ، متألما لما يقوم به الفرنسيون من الانتقام من السكان الألمان هناك ، لأنهم صوتوا لصالح الانضمام إلى الرايخ الثالث في وقت سابق. و يروى الكاتب الألمانى : كانت سنوات 1946-1947 سنوات قحط، مات الكثيرون جوعاً أو من البرد. قمت برحلة إلى " دانتسيغ " والتقيت بأمي وأختي وهما في أشد البؤس، لقد سمعت منهن قصصاً مرعبة عن فظائع الجيش الأحمر ضد السكان الألمان ، وقد تعرضت والدته للاغتصاب مرارا على يد الجنود الروس ، و كانت تضحى بنفسها لتنقذ ابنتها من هذا المصير . حكايتى مع الأدب فى ظل البؤس الذى خيم على حياة غراس ، وجد عزاءه بجمع الصور التي تتيحها قسائم بيع السجائر، مصمماً على امتلاك مجموعة كاملة منها، وقد كانت هذه الصور تضم نماذج من الفن الغوطي، وفن عصر النهضة، وعصر الباروك. و لم يكن يعرف أن شغفه هذا سيقوده يوما لأكاديمية الفنون لتعلم الشعر و النحت ، و لم يتخلى عن حلمه رغم الصعاب التى واجهها ، إذ عمل خلال فترة من حياته في منجم للفحم، وفي معصرة للشمندر السكري، قبل أن يهتدي إلى المكان الذي طالما حلم بالانتساب إليه " أكاديمية الفنون فى دوسلدورف " . هناك التقي بروفيسوراً عجوزاً " سيب ماغيس " ، نصحه بالذهاب إلى أحد مشاغل نحت الحجر للتدريب على نحت حجارة الأضرحة، وهي أكثر المهن الرائجة، حتى في أسوأ الأزمنة «فالموت لا يأخذ عطلة» ، هذه الحقبة من حياته دوّنها بدقة في فصلٍ كامل من روايته «طبل الصفيح» . هكذا يغادر مرحلتي الجوع الأولى للطعام والثانية للنساء ، نحو ما يسميه "الجوع الثالث" ، أو شهوة الفن، فيلتهم بشراهة كل الكتب المتاحة أمامه، في مكتبة الكنيسة، كتعويض عن مرحلة دراسية لم يتمّها، بسبب مهالك الحرب ، وولع الكاتب الألمانى بالفلسفة الوجودية فى ذلك الوقت ، متأثرا ب : شعر غوتفريد بن، فلسفة هايدغر، الخوف من الموت الذري، الاستخفاف بكل ما هو قائم، البحث عن المعنى في اللامعنى، الفرد والمجموع، الأنا الشعرية واللاشيئية القائمة، و الانتحار ، و ما تخلفه الحروب من ندوب فى الأرواح . كما تعلّم الرسم، وأسرار النحت، لينخرط في العمل عن كثب، في إصلاح واجهات المباني التي دمّرتها الحرب ، و فى تلك الفترة تعرف إلى حبه الأول و كانت زميلة له فى دراسة النحت ، الحب الذى كان محكوم عليه بالفراق ، و قال غراس : بعدها شددت الرحال مثل صعلوك ووصلت بشق الأنفس إلى إيطاليا، موطن فن النحت. ثم انتقل للعيش في باريس ف حيث قرر إطلاق مسيرته ككاتب ، قبل عودته إلى برلين من جديد ، و كتابته إلى جانب الروائيين المعادين للفاشية في "المجموعة 47" . و عن علاقته بعائلته ، فقد حزن غراس كثيرا لخسارة والدته فى عام 1945 بالسرطان ، و دخلت أخته الدير لتترهبن و لكنها تركته بعد وفاة الأم ، لتصير مولدة أطفال ، و عن ابيه قال : كان أبي فخوراً بي وخاصة بعد أن بدأت أنال الشهرة في عالم الأدب ، و بقيت علاقتي بأبي جيدة حتى توفي في العام 1979 وهو في الثمانين ، فيما كانت زوجته و عدد من أصدقائه المقربين فقط الذين عرفوا بماضيه . و ختم غراس مذكراته قائلا : كنت مولعاً بنظم الشعر وقد نشر لي فالتر هوللر، عدة قصائد في مجلة "اكتسنته". لكن رواياتي بدأت مع "طبل الصفيح" في 1959 وانطلقت منذ تلك السنة إلى عالم الأدب في ألمانيا والخارج ، و قال غراس : البصلة عندما تقشّر فإنها تجدّد نفسها، وعندما تُفرم فإنها تسيل الدموع ، لكنني أجد نفسي بدون بصل وبدون رغبة لسرد سيرة حياتي بعد 1959".