تشتغل دراسة الباحث العراقي معن ذياب الطائي (السرديات المضادة: بحث في طبيعة التحولات الثقافية)، الصادرة عن المركز الثقافي العربي، علي مفهوم "السرديات المضادة"، من حيث هي نمط من أنماط ما وصفه جان فرانسوا ليوتار Jean-Francois Lyotard »1924 1998» بأنه "السرديات الصغري" التي تستطيع مناوشة السرديات الكبري ومحاولة إزاحتها عن صدارة المشهد والتأثير فيها في بعض الأحيان. والحديث عن السرديات المضادة أو السرديات الكبري أو الصغري، هو -في كل الأحوال- مناوشات ثقافية أو جدلDebate مفاهيمي مع كتاب ليوتار المعروف لدي القارئ العربي باسم "حالة ما بعد الحداثة أو "الوضع ما بعد الحداثي"، وهو ترجمة للكتاب الصادر بالإنجليزية تحت عنوان: «APost-modern »ondiAtion.» منذ ظهور كتاب ليوتار للمرة الأولي عام 1979، سرعان ما أصبحت السرديات الكبري Grand Narratives مفهومًا مرجعيًا يسمح للباحث الثقافي بدراسة وتحليل ونقد مختلف المظاهر الثقافية والفكرية التي تظهر في مجتمع معين، وتؤسّس لنمط من التفكير الشمولي والتمركز الهويّاتي. فالسرديات الكبري هي نمط من أنماط الخطابات التي تتمركز حول افتراضاتها المسبقة ولا تسمح بالتعددية والاختلاف حتي مع تنوّع السياقات الاجتماعية والثقافية، فضلا عن أنها تُنكر إمكانية قيام أي نوع من أنواع المعرفة أو الحقيقة خارجها، وتقاوم أية محاولة للتغيير أو النقد أو المراجعة. وفي مقابل السرديات الكبري، يقترح ليوتار مفهوم "السرديات الصغري" بوصفه بديلاً نظريًا ومعرفيًا لخطابات تتشكل من قِبَل جماعات أو تجمّعات أو فئات بعينها لتحقيق أهداف محددة ذات طبيعة مرحلية، براجماتية، لا تحمل الطابع الشمولي أو السلطوي القسري للسرديات الكبري. هكذا، يقترب مفهوم "السرديات المضادة" الذي تناوله هذ الكتاب من مفهوم "السرديات الصغري" عند ليوتار، بحيث يقترح المؤلف مصطلح "السرديات المضادة" Anti-Narratives بديلًا عن "السرديات الصغري"؛ لأنه "يأخذ بعين الاعتبار العلاقة بين أنماط السرديات المختلفة التي تتواجد أو تتزامن في الفضاء الثقافي لمجتمع ما". فعلي أرض الواقع لا توجد السرديات الصغري إلا بوصفها سرديات مضادة. فالسرديات الصغري يتم إنتاجها وتداولها بوصفها سرديات مضادة للسرديات الكبري، تسعي بمثابرة لنقدها وكشف تحيزاتها وانزياحاتها عن منطق الواقع التأريخي، ومن ثم تقويضها وإزاحتها عن موقع الهيمنة الشمولية. ويكمن التحدّي الذي يواجه مفهوم السرديات المضادة في مدي قدرتها علي تجاوز إشكالية لحظة ما بعد تقويض الخطاب المركزي؛ إذ إن الفراغ الكبير الذي سوف تُخلفه عملية تقويض الخطاب المركزي المهيمن يشكّل عاملا تحفيزيًا لإنتاج خطاب بديل، أو إحلال السرديات الصغري المضادة محله. في مثل هذا السياق النظري، المغلّف بخطاب فلسفي بالأساس، تأتي أهمية هذه الدراسة التي تنتمي إلي حقل قراءة الأفكار والمفاهيم الثقافية. وبناء علي التصور السابق، شيّد الباحث فصول كتابه -الذي يقع في 174 صفحة من القطع الكبير، والصادر عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2014- في مقدمة وستة فصول؛ هي: "مجتمع التقنية وسرديات الاستهلاك الفائق"، و"سرديات الصورة وعوالم الترفيه"، و"سرديات اليسار الجديد"، و"هابرماس وسرديات الحداثة التواصلية"، و"السرديات الكبري والسرديات المضادة"، و"سرديات النهايات". من جهة مقابلة، يتكرر النمط نفسه في الثقافة العربية الحديثة التي عجزت عن إنتاج سردياتها الصغري المضادة -أو ما أسميته في بعض دراساتي السابقة "السرديات البديلة"- التي تتفكّك من تلقاء نفسها بعد تحقيق غاياتها وأهدافها. فالخطاب القومي ذو النزعة الدينية والخطاب القومي العلماني علي حد سواء، سعيا إلي تفكيك المخلفات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تركتها الخلافة العثمانية مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ولكنهما سرعان ما تحولا إلي سرديات كبري شمولية تنزع نحو السيطرة والهيمنة والتهميش. ومع خمسينيات القرن العشرين نجحت السرديات القومية ذات الطابع الثوري في الوصول إلي السلطة ومراكز صنع القرار عبر سلسلة من الانقلابات العسكرية، ولكنها لم تنجح في تأسيس مجتمع مدني تقدّمي حقيقي يقوم علي احترام الحقوق والحريات الفردية ويؤمن بالتعددية السياسية وتداول السلطة. وبذلك أصبحت الهيمنة العسكرية هي الوجه الوحيد للبرجوازية العربية التي تمتلك إرادة الفعل والقوة، وتم تهميش جميع شرائح المجتمع الأخري وإخضاعها. وقد أدي مثل هذا التهميش والقمع إلي ظهور سرديات مضادة تدعو إلي المطالبة بالمزيد من الحريات السياسية والاجتماعية والثقافية، انتشرت بين أوساط الطلبة والشباب والمثقفين، وبدأت بالنمو والتراكم حتي وصلت إلي لحظة تاريخية فارقة مع ما بات يعرف ب"ثورات الربيع العربي".