فجر الثامن من ذي الحجة بدأت رحلتنا لأداء مناسك الحج فذهبنا لمكتب المطوف المسئول عن حجاج الفرادي المصريين كي ينقلنا لمني في يوم التروية ثم إلي جبل عرفات أسوة بما فعله الرسول صلي الله عليه وسلم. ولكن ما حدث أن المطوف نقلنا مباشرة لخيام عرفات.وبعيدا عن الروحانيات التي استشعرتها في المكان إلا أن مشاكل الحجاج المصريين كان لها الحضور الأقوي ، وكان من بيننا كثير ممن تعرضوا للنصب من شركات سياحة ودفعوا آلاف الجنيهات ليجدوا أنفسهم في فنادق غير المتفق عليها وخيام بلا كهرباء ولا تصلح للحياة الآدمية فوق جبل عرفات. وقد حملت أمانة نقل معاناة كل هؤلاء لعل الدولة تحاسب تلك الشركات النصابة وترعي كل الحجاج المصريين بما يليق باسم ومكانة مصر في مواسم الحج القادمة. وأشفقت علي حال الحجاج المصريين الذين أصبحوا يمضون ساعات الدعاء والعبادة في الشجار مع المسئولين وبلاغات الشرطة كي ينقذوا أرواحا بشرية مهددة بالموت لسوء الخدمة والتنظيم. وبالطبع تحدثت للزملاء في البعثة الرسمية المصرية كي تصل الشكوي لرئيس البعثة المصرية ويلقي نظرة علي الحجاج الفرادي الواقعين تحت رحمة المطوف. ومن أسوأ الأحاسيس التي قد تنتابك أمام مشاهد معاناة من حولك هو الشعور بالعجز وعدم قدرتك علي مساعدة مريض أو صاحب حاجة. ولكم أن تتخيلوا عدد أمهاتنا اللاتي لم يكن يقوين علي الحركة أو النوم أو حتي دخول الحمامات الرديئة التي لم تراع ظروف كبار السن بعد أن طالت المدة وأصبحنا نقف وقفتين علي عرفات. ولكننا نحتسب ذلك عند الله فعلي قدر المشقة يكون الثواب وسيد الخلق محمدصلي الله عليه وآله وسلم سار من مني لعرفات ومنه لمزدلفة وعاد لمني لرمي الجمرات ثم عاد ليطوف طواف الإفاضة بمكة في زمن لم يكن فيه تكييفات وأتوبيسات وقطار لنقل الحجيج بين الشعائر المقدسة ، فمن نكون نحن كي نشتكي من التعب. صورة غير لائقة من أسوأ المشاهد المتكررة كل عام ما يفعله الحجاج بالأماكن المقدسة في جبل عرفات ومني، فقبل أن تغادر المكان تفاجأ بكم هائل من القمامة التي تغطي الشوارع والمخيمات بصورة لا تليق بقدسية الأماكن ولا حرمة المناسك.. فالنظافة جزء أساسي وأصيل في أداء أي شعائر إسلامية فما بالكم بالحج الذي قد لا يتأتي للمسلم أن يؤديه سوي مرة واحدة في العمر. أليس أحري بالحاج أن يحافظ علي نظافة الأماكن المقدسة ويراعي حرمة تلك الأيام المباركة؟ لذا من واجب بعثات الحج في كل الدول توعية الحجاج بأن الحفاظ علي نظافة الأماكن المقدسة جزء أساسي من أداء المناسك. سلوك آخر مستفز تفعله بعض النساء أمام قبر الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم ) من صراخ أو زغردة، ولا أعرف من أين يأتين بهذه التصرفات غير اللائقة؟ كما أن كل الوفود التي تدخل لزيارة القبر في الأوقات المخصصة للسيدات يحدث فيها تزاحم شديد وترتفع فيها الأصوات بما يخالف آداب الزيارة التي تقضي بالتأدب وخفض الصوت عند قبر الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم ). أعتقد أن الأمر يحتاج إلي إعادة النظر في توزيع أوقات الزيارة والأعداد المسموح لها بالزيارة خاصة في وقت الحج. مياههم شفاء ورحمة من عجائب الحرم المكي مياه زمزم ذات الطبيعة الفريدة التي تسقي زوار البيت الحرام والمسجد النبوي. وحتي يومنا هذا لازال بئر زمزم مثار جدل بين العلماء حيث أجريت حوله العديد من الدراسات لبيان إعجاز استمرار تدفقه بكميات كبيرة منذ آلاف السنين ودراسة خواصه الغذائية وقدرته العلاجية علي مداواة الأمراض. وثبت بالفعل أنه أنقي ماء علي وجه الأرض..فسبحان الله الذي جعل سقيا الحجاج من أطهر ماء في أقدس مكان علي وجه الأرض. وكأنه يغسلنا من الداخل والخارج ليطهرنا وتكون العودة كيوم ولدتك أمك لمن كان حجه مقبولا. وإذا كان عندنا »رش المية عداوة» فأثناء أداء المناسك رش المياه صدقة ورحمة وثواب ، مع حرارة الجو والازدحام، وكم كان الحراس رحماء بنا والمنتشرون في شوارع عرفات والأنفاق والطرقات المؤدية لرمي الجمرات وحتي الطرق المؤدية للحرم المكي وفي مسجد الرسول صلي الله عليه وسلم حيث ترش المياه عبر المراوح في ساحات المسجد. ووجب الشكر لكل الجنود وأفراد الأمن المسئولين عن تأمين المناسك وتنظيم الطرقات وتأمين الحرم فهم بحق يستحقون كل تقدير وثناء علي ما يبذلونه من جهد أثابهم الله عليه وجزاهم عنا كل الخير. وخالص الشكر لأخ عزيز وأخت عزيزة استضافونا في مكة وشاركونا الثواب ولهم من قلوبنا أصدق الدعاء. طيبة الرسول لم أقابل في حياتي وجوها بشوشة وألسنة رطبة بذكر الله مثلما وجدت في أهل المدينةالمنورة، وياله من هدوء وراحة تستشعرها وأنت تسير في شوارعها وطرقاتها التي سميت بأسماء الخلفاء الراشدين والصحابة رضوان الله عليهم جميعا وكأنك تعيش حقا في حضرة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم ) وصحبه. في المدينة وجدت إجابة علي سؤال آخر كان يشغلني وانا في مكة وهو كيف لا يوجد آثار للمكان الذي ولد وعاش فيه الرسول 53 عاما من عمره قبل أن يهاجر للمدينة المنورة؟ ولكن عندما زرت المدينة وأهلها أدركت نوع التكريم والشرف الذي منحه الرسول لأهلها حتي قيام الساعة حيث إصطفاهم كي يكونوا أهله وصحبه إلي يوم القيامة. ويالها من فرحة وشرف وأنت تجلس في مسجد الرسول وتسلم عليه وعلي صحبه وتجلس في حلقات الذكر التي لا تنقطع في المسجد وسط أعذب الأصوات التي تتلوا القرآن الكريم من الرجال والنساء. وعليك أن تفخر عزيزي المسلم أن لدينا المدرسة النبوية الشريفة أول مدرسة في العالم لا ينقطع فيها العلم علي مدار الساعة. فاللهم زد بيتك الحرام ومسجد رسولك الكريم تشريفا وتعظيما. حجية صحفية من أطرف المواقف التي حدثت لي في المدينة وفي المسجد النبوي الشريف لقائي مع سيديتن كانتا تجلسان بجواري بالصدفة في انتظار الدخول للروضة الشريفة إحداهما سيدة كبيرة من غزة والأخري شابة سورية هربت من جحيم سوريا وتعيش حاليا في مصر مع زوجها وأبنائها، وكأن القدر ساق لي من أحب الكتابة والحديث عنهم في كل وقت. ورغم أنني مرنت نفسي كثيرا علي السكوت وعدم النقاش والجدال في الحج إلا أن الفضول الصحفي أبي أن يتركني وسألتني إحداهن من كثرة أسئلتي : الحجية صحفية؟ فأجبتها بنعم والأصح أنني بينكم الآن الصحفية حجية لأنني أرغب في كتابة قصصكم الانسانية المليئة بالعبر. وفتحنا مائدة حوار ما لبث أن استقطبت »حجيات» من دول عربية أخري ووجدت بعد نقاش قصير أنني أجلس بين نموذجين يحملن أوجاعا تفوق احتمال البشر، ولكني تعلمت درسا آخر ممن حولي فهم بشر إبتلاهم الله في أعز ما يملكون وفقدوا كثيرا من أحبتهم ورغم ذلك وجوههم راضية ضاحكة مستبشرة.