بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين، الحمد لله كما علمنا أن نحمد وصلي الله وسلم علي سيدنا محمد رحمة الله للعالمين وخاتم المرسلين. وبعد.. فقد توقفنا في الحلقة السابقة من خواطرنا عند قوله تعالي (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (الشرح:1- 4). وقد شرح الله صدر رسوله صلي الله عليه وسلم فصار صدره الشريف مهبط الوحي والعلم لأنه أدي ما عليه، ورسول الله عاني من أمر الوحي ومشقاته لذلك استحق أن يشرح الله صدره ليأنس بالوحي الذي انقطع عنه فترة ليشتاق إليه. ووضع الحق سبحانه عنه الأوزار والآثام ووضع عنه أثقال الوحي فجعلنا الوحي خفيفاً لايجهدك. وهو ثقل أنقض ظهرك وأثقله، والنقض سقوط وانهيار وقد ذكر الظهر لأن أغلب الأحمال تكون علي الظهر، فلو كان هذا الوزر حملاً ثقيلاً يحمل لسُمع نقيض الظهر منه. وقد رفع الله ذكر رسوله صلي الله عليه وسلم فقال له: (ورفعنا لك ذكرك) (الشرح:4) يقول الحق سبحانه: (فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً) (الشرح:5-6). قال رسول صلي الله عليه وسلم في هذه الآية: »لن يغلب عسر يسرين) وهذا معناه ان العسر المذكور هنا في الآيتين هو عسر واحد رغم تكرر لفظه ولكنه معرف، لذلك فهو مفرد أما اليسر فجاء نكرة فتعدد. وقد أكد الحق سبحانه كلامه ب (إن) التي للتوكيد، فقال (فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسراً) (الشرح:5-6) فكرر إن. وكرر شيئاً آخر وهو (مع) لتأكيد أن اليسر لايأتي بعد العسر بل معه، ففي داخل العسر يسره، وقد يدفع العسر عسراً أشد، فيكون اليسر في قلب العسر، ويكون العسر هو عين اليسر. هذا يطمئن كل واقع في عسر أو ضيق أنه مهما اشتد العسر، فالمخرج منه قريب ويسير وليس عسيراً علي الله، وكلما ضاقت حلقات الضيق وأظلمت الدنيا فلابد من ضوء نهار يبدد الظلام. حتي أن ابن مسعود قال: لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتي يدخل عليه فيخرجه إنه لن يغلب عسر يسرين. وقد يقول قائل إن العسر واليسر ضدان لايجتمعان فكيف يكون العسر مع اليسر، وكلمة (مع) هنا إشعار بغاية سرعة مجيء اليسر كأنه مقارن للعسر. وقد تكون (مع) هنا معية امتزاج لامعية مقارنة ولا تعاقب، ولذلك كررها. (فإذا فرغت فانصب، وإلي ربك فارغب) (الشرح:7- 8) النصب التعب، والفراغ الانتهاء من أمر والفراغ منه ليتفرغ لأمر آخر أو مهمة أخري، والآية تحتمل أقوالاً وتأويلات كثيرة، فما هو الذي فرغ منه؟ وفي أي شيء سينصب؟ فالبعض قال: إذا فرغت من الصلاة المفروضة فانصب. أي تعب في الوقوف بين يدي الله بالتطوع والذكر والدعاء، ولكن الصلاة لم تكن قد فرضت بعد، فإنها فرضت في حادثة الإسراء والمعراج في آخر المرحلة المكية قبل الهجرة إلي المدينة. والبعض قال: إذا فرغت من الجهاد فانصب في العبادة والشكر، ولم يكن الجهاد قد فرض بعد، فالجهاد إنما فرض في المدينة. والأمر لا هذا ولا ذاك فإن الحق سبحانه حمل رسول الله مهمة الرسالة وتبليغها إلي عشيرته، ثم إلي أهل مكة، ثم إلي البلاد حولها ومنها إلي العالم. وفي سبيل إبلاغ هذه الرسالة تحمل الكثير من المشقات التي شغلته عن أمر عبادته لله التي كان يمارسها في غار حراء، حيث نزل عليه جبريل عليه السلام بالوحي، حيث بدأت رحلة انشغاله بالدعوة إلي الله وتبليغ رسالة ربه. فهو في شغل مع الناس وفي عناء وشقاء معهم، وكانت توجيهات الله له: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث) (الضحي: 9-11). فلا تقهر اليتيم فقد كنت يتيماً ، ولاترد سائلاً للعلم أو الصدقة، وحدث الناس بما هداك الله إليه من الهدي ونعمته عليك بالقرآن. سيقابلك عسر في أثناء تبليغك الرسالة، فأعلم أنه (مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً) (الشرح:5-6). واطمئن فقد شرح الله صدرك ووضع عنك وزرك ورفع لك ذكرك. فإذا فرغت من كل هذا (فانصب) (الشرح:7) أي قم منتصباً لله قائماً تعبده وتفرغ لعبادته، وقد تتحقق العبادة جالساً أو راقداً لمن لايستطيع الوقوف والانتصاب واقفاً، ولكن لأن الوقوف هو مظنة التعب، فقال تعالي: (فانصب) (الشرح:7) وقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يقوم الليل حتي تورمت قدماه، فلما سألته السيدة عائشة: ألم يغفر لك ربك ماتقدم من ذنبك، وما تأخر؟ قال : أفلا أكون عبدا شكورا؟. ولايستطيع التحقيق بالخصائص العليا من إكرام اليتيم والحض علي طعام المسكين واقتحام عقبات النفوس بالاعناق والتواصي بالصبر والمرحمة والرفق باليتامي والتحدث بنعمة الله، لا يستطيع التحقق بها إلا ممن إذا فرغ من شأن الدنيا تعب في العبادة. وليس المقصود التعب في ذاته وإن لم تكن ترغب فيه، بل المقصود: (وإلي ربك فارغب) (الشرح:8) أي اجعل رغبتك ونيتك لله وأقبل عليه وعلي عبادتك له إقبال محب وألح في دعائه وارفع حوائجك إليه. وحيثية توجهك إلي الله بالقيام لعبادته والرغبة فيما عنده انه قد شرح صدرك بنور الرسالة، ووضع عنك أثقال الوحي ومتاعبه وخففه عنك، وعصمك عن ارتكاب الوزر، وقواك علي التحمل من الخلق وعصمك من الناس، ورفع ذكرك في العالمين. خواطر سورة التين بسم الله الرحمن الرحيم (والتين والزيتون، وطور سنين، وهذا البلد الأمين) (التين: 1-3). الحق سبحانه جعل القرآن نظماً خاصاً به، فنجد ست سور متتالية تبدأ كل منها بقسم، سورة الفجر وقد بدأت ب(والفجر، وليال عشر، والشفع والوتر، والليل إذا يسر) (الفجر:1-4). ثم سورة البلد وقد بدأت ب:(لا أقسم بهذا البلد، وأنت حل بهذا البلد، ووالد وما ولد) (البلد:1-3) ثم سورة الشمس وقد بدأت ب:(وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) (البلد:1-7). ثم سورة الليل وقد بدأت ب:(والليل إذا يغشي، والنهار إذا تجلي) (الليل:1-2). ثم سورة الضحي وقد بدأت ب:(والضحي، والليل إذا سجا) (الضحي: 1-2). ثم جاءت سورة الشرح سابعة هذه السور، ولم تأت بدايتها بقسم، وكأن سورة الشرح تكمل هذه المجموعة من السور. وتبدأ مجموعة أخري أولها سورة التين، وتبدأ بقسم: (والتين والزيتون، وطور سنين، وهذا البلد الأمين) (التين:1-3). الحق سبحانه يقسم هنا بأربعة أشياء، بآيتين التين والزيتون، وجبل هو طور سينين الذي كلم الله موسي عليه السلام عليه، وبلد جعله الله أميناً آمناً هو مكةالمكرمة. والحق سبحانه يقسم فيقول: (والتين والزيتون) (التين:1) فيقسم سبحانه بشجرتين من الأشجار التين والزيتون، وذلك لعظم نفعهما للإنسان، وقد خصهما الله سبحانه بالذكر من بين باقي النباتات والأشجار. وقد ذكر الحق سبحانه الزيتون في أكثر من موقع مع نباتات وأشجار ونخيل، فقال تعالي: (ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) (النمل:11). ثم تكلم سبحانه عن شجرة الزيتون خاصة وذكر منشأها فقال: (وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين) (المؤمنون: 20). فهي شجرة تنبت بالدهن، وهو الدسم الذي يكون في زيت الزيتون ثم إنه صبغ للآكلين يعني يتخذونه إذا ما يغمسون فيه الخبز ويأكلونه، وهو من أشهي الأكلات وألذها عند من يزرعون الزيتون في سيناء وفي بلاد الشام وفي بلاد المغرب العربي. وقد وصف الحق سبحانه مثل نوره سبحانه، فقال: (اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَي نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) النور:35). وهو ارتقاء في إضاءة المصباح من زيت شجرة زيتون والشجرة غير عادية (لاشرقية ولاغربية) (النور:35). والزيت الذي يضيء يخرج من زيتونة مباركة، بأعلي درجات النقاء: (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار) (النور:35) فكل شيء مضيء بذاته، فالزيت مبارك، ليست فيه أية شوائب فيعطي ضوءاً ساطعاً. وفوق ذلك كله تجد الزيت مضيئاً بذاته، دون أن تمسسه النار، فكأنه نور علي نور، فلا يصبح في هذه الدائرة الصغيرة أية نقطة مظلمة، كذلك تنوير الله لكونه المتسع فلا توجد فيه نقطة واحدة مظلمة بل كله مغمور بنور الله. فهي شجرة زيتون لاشرقية ولاغريبة، يعني لاشرقية لأنها غربية، ولاغربية لأنها شرقية، فهي إذن شرقية غربية علي حد سواء لكن كيف ذلك؟ قالوا: لأن الشجرة الزيتونة حينما تكون في الشرق يكون الغرب مظلماً، وحينما تكون في الغرب يكون الشرق مظلماً، إذن يطرأ عليها نور وظلمة، إنما هذه لاهي شرقية ولاهي غربية، إنما شرقية غربية لايحجز شيء عنها الضوء. والقسم هنا بالتين والزيتون ليس لمجرد أنهما نبات أو شجرتان ينتفع بهما الناس، إنما هو تذكير بمكان استقبال رسالة موسي وهو جبل (طور سينين) أو طور سيناء حيث نزول التوراة علي موسي عليه السلام. ثم ذكر رسالة محمد بقوله وقسمه تعالي: (وهذا البلد الأمين) (التين:3). إذي فهو ليس مجرد قسم بنباتات كما قد يري السطحيون إنما هو (مسرح) الأحداث بين الأشجار وهي ليست أشجاراً طويلة بحيث تخفي الحدث ومن فيه، وإنما هي أشجار متوسطة الطول. وهو قسم بنباتات تنبت في ذلك المكان المبارك، وإن كانت هذه النباتات تنبت في مناطق أخري في جبال الشام وفلسطين والأردن وغيرها، فإن الحق سبحانه حدد هنا: (وطور سينين) التين:2). ويقول تعالي لأهل الكتاب من اليهود: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور) (البقرة:63)، فالله رفع فوقهم جبل الطور الموجود في سيناء وقال لهم تقبلوا التكاليف أو أطبق عليكم الجبل. وفي آية أخري يقول المولي جل جلاله في نفس ما حدث (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة) (الأعراف: 171) واليهود ما قبلوا منهج الله إلا عندما رفع فوقهم جبل الطور. وطور سينين هو الجبل الذي كلم عليه موسي، وهو الجبل المبارك الحسن ذو الشجر، ولكن البعض اعتبر أن (سينين) هنا هو المنطقة أو المكان الذي فيه الجبل. لذلك جاءت بالإضافة، وفي أية أخري: (وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين) (المؤمنون:20) وسواء كانت (سينين) وصفاً للجبل أو تعريفاً بمكان الجبل فإنه جبل مبارك وجد في منطقة مباركة. وبعض المفسرين كقتادة قال إن (التين) هو الجبل الذي عليه دمشق، و(الزيتون) الجبل الذي عليه بيت المقدس، و(طور سينين) الجبل بالشام جبل مبارك حسن. ولكن آية و(شجرة تخرج من طور سيناء) (المؤمنون:20) حسمت أمر جبل الطور أنه الذي بسيناء. والي لقاء آخر إن شاء الله.