"كتاب الشعر" أو "الأغاني"، المعروف في الصينية باسم "شيجنغ"، هو أول ديوان شعري في تاريخ الصين، ويضم في متنه ثلاثمائة وخمس قصائد غنائية، هي حصيلة ما تم جمعه علي مدي خمسمائة عام، بدءاً من الفترة الأولي من حكم دولة "تشو" الغربية (القرن الحادي عشر قبل الميلاد) وانتهاء إلي أواسط عصر "الربيع والخريف" (القرن السادس قبل الميلاد). كان الكتاب يعرف في بادئ الأمر باسم "شي" (الشعر) أو "شي سان باي" (القصائد الثلاثمائة) وتعرض في زمن أسرة "تشين" للحرق ضمن الأحداث التي نالت من مواريث الأقدمين في ظل "ملاحقة الكونفوشية وتدمير مدوناتها" لكن وبفضل ما وقر في الصدور من الأبيات علي أثر الحفظ والإنشاد، وسهولة جريان القصائد علي ألسنة المثقفين، استظهارا وإلقاء، فقد بقي علي الدهر وانبعث مرة أخري وحظي بفرصة متجددة للذيوع والانتشار علي مدي كبير إبان عصر "هان" (206 ق. م - 220 م) في ظل احتفائها بالكونفوشية، حيث اعتبرته إحدي المدونات التراثية الكبري. والكتاب يقع في ثلاثة أجزاء: "القصائد الإقليمية" ثم "القصائد الغنائية" و"المدائح الملكية".. يشتمل الجزء الأول منها علي خمس عشرة طبقة، تضم في مجموعها مائة وستين قصيدة، يليها الجزء الثاني "القصائد الغنائية" ويشتمل في طبقته "القصائد الغنائية الصغري" و"القصائد الغنائية الكبري" علي مائة وخمس قصائد، ويخلص المتن إلي أربعين قصيدة، في تنمية جزئه الأخير، بفصوله الثلاثة : "مدائح دولة تشو"، "مدائح دولة لو" ، "مدائح دولة شانغ". تاريخ طويل جداً اقتضاه محتوي الكتاب، في عملية تطوره عبر عدة قرون، من المجتمع العبودي القديم حتي المجتمع الإقطاعي، بالدرجة التي يصعب معها تحديد الوقت الذي ظهرت فيه كل قصيدة علي حدة، وإن كان من الممكن بشكل عام، تقدير الفترة الزمنية التي شهدت ظهور بعض القصائد، ومن حيث الشكل والمضمون، فيمكن التأكيد علي أن كلا من "مدائح دولة تشو" و"القصائد الغنائية الكبري" قد ظهرا في أوائل عهد دولة "تشو الغربية" (1046 - 771 ق .م) وبنفس الدرجة من التأكيد يمكن، من حيث الأساس، تقدير تاريخ ظهور أجزاء كبري من "القصائد الغنائية الصغري" وجانب قليل من "القصائد الغنائية الكبري" بالسنوات الأخيرة من عهد تلك الدولة المشار إليها، أما الجانب الرئيسي من "القصائد الإقليمية" ومعظم "مدائح دولة شاشنغ"، "مدائح دولة لو" فقد ظهرت جميعا في الفترة ما بين بداية عهد "تشو الشرقية" (770 - 256 ق.م) إلي أواسط عصر "الربيع والخريف" (770 - 476 ق. م). الموقع الجغرافي أو المساحة المكانية التي ظهر فيها كتاب الشعر، كانت أيضا متسعة الآفاق ممتدة الأطراف، حتي يقال بأنها الرقعة التي اتسعت لتشمل مناطق: "شانشي" و"شان شيي" و"خنان" و"خه بي" و"شاندونغ" وشمال "هوبي"، من ثم اعتبر كتاب الشعر تمثيلاً لأدب الشمال، بصفة عامة، علي العكس من "تشو تسي" (أغاني الجنوب) إذ عدت هذه الأغاني عنوانا علي الأدب الجنوبي وثقافته. ثمة مسألة معقدة فيما يتعلق بتأليف نصوص "كتاب الشعر" حيث يشتمل المتن علي مستويات من المؤلفين الذين تتفاوت مراتبهم الاجتماعية، من النبلاء إلي مختلف الشرائح المثقفة من عامة الناس، وباستثناء عدد محدود من التوقيعات التي ذيلت بعض القصائد، فالجانب الأكبر منها يصعب استقصاء وتحديد مؤلفيه، وبشكل عام يمكن القول بأن كثيرا من الأعمال الواردة في "القصائد الإقليمية" مأخوذ مباشرة عن الإنشاد الشفاهي العفوي عند العوام، وذلك بحكم احتفائه بالتعبير عن الأغاني الشعبية المتداولة في أصقاع مختلفة من الصين القديمة، ثم إن هناك جانباً محدودًا من تلك الأغاني الشعبية جري تضمينه الجزء الثاني من الكتاب، أي "القصائد الغنائية" وهو المتن الذي يرجع تاريخه إلي الفترة المتأخرة من عصر دولة "تشو الغربية"، هذا بالرغم من أن النسبة الغالبة من محتوي هذا الجزء عبارة عن قصائد تعبر عن مجتمع النبلاء. أما بخصوص "المدائح الملكية" ففيما عدا أناشيد القرابين وترانيم التقدمة التي اشتمل عليها هذا الجزء فهناك أيضا بعض القصائد التي تغني فيها كبار الوزراء ورجال الدولة بأمجاد الأباطرة والأمراء، إشادة بفضلهم وتسجيلا لمآثرهم، والتقدير العام لهذه القصائد جميعاً يعترف للقصائد الغنائية التي أنتجتها قريحة الشعب العامل بدرجة كبري من ثراء المحتوي وتفرد الأسلوب وتميزه بالابتكار والتجديد وتنوع أشكاله الفنية، في حين افتقدت قصائد النبلاء الحس الشعري الأصيل، مما يضعه في مستوي جمالي أدني بالمقابل. "كتاب الشعر" هو اللبنة الأولي في صرح المجد الأدبي الصيني، وهو أيضا الدليل القائم علي ما حققه الأدب الصيني من إنجاز فني رفيع، منذ زمن ضارب في القدم، حتي استطاع أن يتضمن في محتواه جوانب شتي من الحياة، احتفظ بها كأنها إحدي اللفائف المصورة الكبري التي تسجل تفاصيل الأشياء علي نحو يتناظر مع قيمة ما تشتمل عليه الموسوعات الاجتماعية الشاملة، بدلالة ما تطرقت إليه من جوانب شتي في الحياة الاجتماعية الصينية في العصر القديم، فتناولت ما يتصل بطقوس القرابين والمآدب والحفلات والكدح الشاق والحرب والسخرة وألوان القهر والمقاومة والحب والزواج والتقاليد، بل والرصد الفلكي والطبوغرافيا والحياة النباتية والحيوانية، وشتي المظاهر الحياتية من مختلف جوانبها، مما يضفي عليه قيمة بوصفه مصدرًا تاريخيًا ثمينا لبحث واستقصاء الأحوال الاجتماعية السائدة في ذلك الزمان البعيد. ثم هو بجانب ذلك كله يعد أحد أهم المراجع لدراسة مظاهر التعبير باللغة الصينية في الفترة ما بين القرن الحادي عشر إلي القرن السادس قبل الميلاد. وباعتباره أول ديوان شعر، فقد أرسي الكتاب تقليد الكتابة الشعرية الغنائية في الأدب الصيني، حتي جاء الشعر من بعده، في معظم الحال، كتابة غنائية تستلهم أسلوبه وتنسج علي منواله، فمن ثم صار القصيد الغنائي أحد أهم أشكال الإبداع الأدبي الصيني فيما بعد ذلك من مراحل التطور الجمالي، وفضلاً عن ذلك فقد كان ل "كتاب الشعر" الفضل في إرساء تقاليد الأدب الواقعي، حيث كانت الغلبة في مادته الفنية تعكس جوانب مختلفة من الحياة الجارية في واقعيتها وتجربة حياتها المعاشة بشكل يومي، دون التطرق إلي عوالم الخيال أو الخرافة أو دنيا الأساطير أو الخوارق المفارقة للطبيعي والملموس والدائب الجريان. وفي كل هذا فقد كان لكتاب الشعر تأثيره الهائل علي بنية المادة الأدبية ولغتها الفنية ومنحاها الجمالي وخصائصها الإبداعية، ولا غرو أن يصبح بمثابة النموذج أو القالب المثالي للإبداع عند الأجيال التي ترادفت علي ساحة الأدب الصيني. الأمة العربية هي أمة الشعر، وقد أماطت القبائل العربية اللثام عن عبقرية لغوية تجلت في الإبداع الشعري الذي ذاع في الأرجاء متجاوزاً شبه جزيرة العرب منذ نحو ألف وستمائة عام خلت، وطوال هذه المدة الزمنية ظل تطور الشعر يترافق مع تطور مسيرة الحياة العربية جنباً إلي جنب، وكان يواكب انطلاق العرب من شبه الجزيرة متجاوزاً الصحراء إلي التخوم الحضرية الأكثر رخاء، ليقيم امبراطورية عربية إسلامية قوية الأركان، ويشيد دعائم ثقافة مبهرة إبان قرونها الوسطي. ورغم أن الثقافتين الصينية والعربية كلتيهما تمجدان الشعر وتتميزان بأصالة إبداعه، فقد كانت الأسباب الجغرافية واللغوية عائقا يحول دون كثير اتصال في ميادين الإبداع، وتاريخيًا فلم تكن هناك صلات في ميدان الإبداع الأدبي، والشعر منه بصفة خاصة، إلا في النزر اليسير. وفيما عدا الأثر الثقافي الصيني المبكر في بلدان شرق وجنوب شرق آسيا، فقد كان ثمة اتصال حديث بين الثقافة الصينية والغرب الأوروبي، شهد في القرن الثامن عشر ترجمات متوالية ل "كتاب الشعر" إلي لغات أوروبية مختلفة علي يد الخبراء والمتخصصين في الثقافة الصينية، ما ساعد علي حركة نشطة في الترجمة الكاملة أو المختارة إلي عديد من اللغات، ولم تظهر ترجمة عربية له إلا مع منتصف القرن الماضي، حيث نقلت مختارات مترجمة للكتاب عبر اللغتين الإنجليزية والفرنسية، دون أن تكون هناك ترجمة كاملة له في اللغة العربية منذ ذلك الحين وحتي الآن. لكن ها هي الترجمة الأولي في اللغة العربية، تخرج كاملة ومباشرة عن اللغة الصينية، بدعم ومساندة مشروع "سلسلة كنوز التراث الصيني" كي يظهر الكتاب أخيرًا ويأخذ مكانه اللائق به في المكتبة العربية، وهو الأمر الذي نأمل أن يكون له الأثر الايجابي في تعزيز الصلة بين القارئ العربي والثقافة الصينية التراثية، عملاً علي تجسير الفجوة بين أمتين عريقتين في النهل عن معين الشعر. أما ما تجدر الإشارة إليه هنا فهو أن الشعر في اللغتين الصينية والعربية كلتيهما يمثل تحدياً هائلاً لمحاولات الترجمة، ومن ثم فإن الكيفية أو الطريقة التي يمكن أن ينتقل بها مضمون "كتاب الشعر الصيني" في خواصه الجمالية وأساليبه البلاغية وإيقاعه الشعري وأوزانه بالقدر المكافئ من الحس الجمالي المتميز، بعد مهمة عسيرة ومطلبا صعب المنال. إلا أنه من الأسباب الداعية إلي الاطمئنان، والسرور والثقة أيضا، في إنجاز هذه الترجمة، هو أنها قد جرت في إطار من التعاون بين المترجمين العرب والصينيين، وعلي يد اثنين من أقدر وأكفأ شباب المترجمين الصينيين وواحد من المتخصصين العرب في الثقافة الصينية، وقد قامت جهودهم في الترجمة علي أساس التقاسم في إنجاز النص، سواء في الترجمة أو المراجعة والتنقيح والتحرير، عبر خطة في التعاون المتبادل بينهم، حتي أخرجوا إلي جمهور القراء أول ترجمة عربية كاملة في التاريخ ل "كتاب الشعر" نرجو لها أن تكون قد استوفت تمام الغرض وبلغت آفاق البراعة والإتقان.