بعد يونيو 1967، تعرض المقاتل المصري لحملة نفسية واسعة، كانت في حقيقتها موجهة إلي الإنسان المصري ذاته، بتاريخه، ومكوناته الحضارية، ودار محور هذه الحملة، حول عدم قدرة المقاتل المصري علي خوض حرب حديثة، بل امتدت لتشكك في قدراته القتالية، انطلقت هذه الحرب في شكل أكاذيب مدعومة بوجهات نظر علمية زائفة، لدرجة أن أحد الباحثين الفرنسيين أعد رسالة علمية تقدم بها إلي جامعة السوربون، وتدور حول العوامل الحضارية والنفسية التي تجعل من المقاتل المصري غير صالح لخوض غمار حرب، وبالطبع فإن هذه الحملة استندت إلي مجموعة من الأسس المادية العارضة كالهزيمة العسكرية عام 1967، والجو النفسي الكئيب الذي ساد مشاعرنا فيما تلي ذلك من سنوات، وكما تصور الإسرائيليون، أن نكسة 1967، كانت هي النهاية، شأنهم في ذلك شأن كل الغزاة والطامعين الذين هاجموا مصر عبر تاريخها الطويل، بدءًا من الهكسوس، والرعاة، والفرس، واليونانيين، والبطالمة، والعثمانيين، والفرنسيين، والإنجليز، وفي الناحية المقابلة - ناحيتنا - كان يمكن للبعض منا ألا يستطيع النفاذ عبر الحجب القاتمة التي أقامتها هزيمة 1967، فيري أنه لا فائدة، وأن المصري لم يخلق للحرب، بحجة أنه إنسان حضارة وبناء. ولكن كان هناك طريقان ينفذان عبر مرارة الفترة، ومن خلالها يتكشف الأمل، أولا، طريق مؤد إلي عمق التاريخ المصري الموغل في القدم، والذي نري خلاله كيف واجه الآباء والأجداد مواقف أكثر عتامة، وأشد إظلاماً، والطريق الثاني، هو الحاضر الذي نعيشه، واقعنا اليوم بعد الهزيمة، حيث عشنا رفض شعبنا للهزيمة، سواء في الجبهة الداخلية، واتخذ هذا الرفض مظاهر عديدة، أو في منطقة الصدام المباشر ضد العدو الإسرائيلي، جبهة القتال، حيث هدرت مدافعنا منذ الأيام القليلة التالية لانتهاء معارك عدوان 1967، وخلال هذه الفترة الصعبة، كان الجيش المصري يعمل في ظروف غاية في التعقيد. كان علي الجيش المصري أن يعيد تجديد بنائه، وأن يصد في الوقت نفسه اعتداءات العدو الإسرائيلي، ثم خوض حرب الاستنزاف حتي 18 أغسطس عام 1970. ثم مواصلة التدريبات في صمت، وبذل الجهد بلا حد حتي كانت الذروة في 6 أكتوبر 1973. خلال هذه الفترة الواقعة بين عام 1967 وأكتوبر 1973، كانت العوامل الحضارية في التاريخ المصري، أو عناصر الوطنية المصرية، تتبلور بوضوح، أو تعمل بشكل خفي مؤثر لتشكل سلوك الإنسان المصري، وظروفه خلال هذه الفترة الحاسمة الحرجة من تاريخنا وفي مواجهة هذا كله لم تتوقف الحملات المعادية ضد المقاتل المصري. تزيف التاريخ وتشوه الانتصارات، وتقلل من أهميتها، ولكن المستطلع لتاريخنا يجد أن مثل هذه الحملات قديمة قدم حضارتنا نفسها. "قد تعرض الإنسان المصري دوماً لحملات التشويه، كان هناك إلهام خبيث لدي أعدائه يجعلهم يدركون الخطر الذي يمكن أن يحيق بهم مالم يعملوا بكل مافي استطاعتهم لتشويهه، إلهام ينطلق من ذكاء بارع بما في حضارة شعبنا من قيم إنسانية فطرية خيرة، تجعل جزءًا من جبهة العداء الممتد عبر التاريخ لكل أشكال الاستغلال والاستنزاف، جزءاً يتميز إلي هذا بخاصية المقاتل العنيد الذي يملك قدرة العطاء اللامحدود حرصًا علي استمرارها وعلي تخليصها من أدران الظلم والطغيان". نجد في العالم القديم حملة مماثلة، استمرت عصوراً متوالية حتي يومنا هذا، مصدر هذه الدعاية أيضا بنو إسرائيل، إذ أشاعوا نبوءة السخط والنقمة التي فاه بها بعض كهنة اليهود، وحاولوا تصويرها علي أنها وحي سماوي تنزل من عند الله، والحقيقة أن كراهية الإسرائيليين القدامي للمصريين، ترجع إلي أنهم سخروا في مصر تسخير العبيد، خرجوا منها كارهين ليضربوا في تيه سيناء، ثم صحراء فلسطين، وظلوا يتمنون الهزيمة لمصر، والغريب أن الدولة الإسرائيلية التي تقوم الآن علي اغتصاب حقوق الشعب الفلسطيني، لاتزال تتخذ من هذه الأحقاد القديمة مادة للدعاية ولتعبئة معنويات جنودها، برغم ادعائهم العصرية، والتقدم العلمي، وقد حدث في ديسمبر 1969، عندما قامت وحدة مصرية مقاتلة بعبور قناة السويس، في القطاع الأوسط، واقتحمت دشم وتحصينات خط بارليف القديم، إلي أن عادت ببعض مخلفات الجنود الإسرائيليين وكان بينها نشرات مطبوعة تصور فرعون مصريا يركب عجلة حربية ويطرد اليهود من مصر، وفي العصور الوسطي، وخلال الحكم العثماني ترفع الأتراك علي المصريين وتحدثوا دائماً باحتقار عن الفلاح المصري، وحتي وقت قريب كان تأثير هذا موجوداً في البعض إذ يتباهون بانتمائهم إلي أسر يمتد نسبها إلي أصل تركي، ويتبرءون من أصولهم الفلاحية، بل أن كلمة "فلاح" كانت تعتبر نوعًا من السب يطلقه الترك أو الباشا "المستترك" أو الإنجليزي المستعمر، عندما يسب المصري، وليس هناك أصعب من الهجاء الذي تجده في كتاب "هز القحوف في شرح قصيد أبي شادوف" للشيخ الشربيني، والذي يدور كله حول تصوير نظرة الطبقة التركية المستغلة إلي ظروف الفلاح المصري، وتصوير أوضاعه الاجتماعية البالغة السوء. أيضا تجد الإنجليز يشنون حملة مماثلة طوال فترة احتلالهم لمصر، التي بدأت عقب هزيمة الثورة العرابية، ويصفون أحمد عرابي بأنه (فلاح مصري) ثم يشككون في مقدرة المصريين علي القتال ويؤلفون في ذلك الكتب، ويصيغون مناهج التعليم بحيث تؤدي لفترات طويلة أن تترك في نفوس المصريين هذه العقيدة، وهي أنهم شعب غير مقاتل، متناسين أن الفلاحين المصريين كانوا يشكلون جنود وضباط الجيش الذي قاده إبراهيم باشا، ليفتح الجزيرة العربية، والشام، ويصل إلي بداية الطريق المؤدي إلي الأستانة، مهدداً بذلك الخلافة العثمانية لولا تدخل الدول الأوروبية مجتمعة. والتاريخ يمتليء بآلاف التفاصيل التي تدفع أي اتهام عن الإنسان المصري. وفي سنوات تاريخنا الحالية، شنت ضدنا حملة جديدة، مصدرها العدو الإسرائيلي، وضد الإنسان المصري بشكل عام. والمقاتل المصري بوجه خاص، لأن تشويه المقاتل المصري، باعتباره طليعة الكفاح ضد المستعمر المستغل يؤدي إلي تشويه الإنسان ثم تشويه مصر ذاتها، ولكن مكونات الوطنية المصرية، والحضارة، التي تحرك الإنسان المصري هي التي تحرك الإنسان المصري هي التي تحسم الأمور، وتصد الدعايات المضادة وتمنعها، وتحولها إلي وقود يلهب طاقة النضال. من خلال وقائع التاريخ المدون، تكتشف حقيقة موضوعية مهمة، وهي أن المقاتل المصري أقدم من حمل السلاح في التاريخ البشري، فالحضارة المصرية تمثل فجر الإنسانية، وأقدم مجتمع بشري، وأٍقدم مجتمع زراعي، وهذا يعني أنه أقدم المجتمعات المستقرة، ولكن هذا الاستقرار كان يواكبه عامل آخر مهم، هو العامل الحربي، فالمجتمع الزراعي لم يخلق في مصر مجتمعاً مستقراً وادعاً، إنما اقتضي هذا صراعاً طويلاً استغرق آلاف السنين، أضعاف تاريخنا الحديث، والإنسان المصري يحارب الطبيعة القاسية، يحاول أن يروض النيل الوحشي. ومحاولة الترويض هذا استمرت طوال حقبات تاريخنا وحتي الآن، كانت مصر مليئة بالأحراش، والأدغال، والوحوش، وكان الإنسان يحارب الطبيعة حتي يضمن الرزق والاستقرار، ومن ناحية أخري كان الصراع محتدماً وقاسياً بين الإنسان والإنسان، من هنا يقول أرنولد توينبي إن (الحضارة المصرية وليدة العنف، حضارة بنيت بالقتال). وتبلور هذا الصراع، حتي تكونت في مصر مجموعة من الدويلات الصغيرة المستقلة. وكان لكل إمارة جيشها الخاص، وكانت الحروب الداخلية لا تهدأ. حتي اتحدت هذه الدويلات فيما بينها وتشكلت في مصر مملكتان. مملكة الشمال وعاصمتها (بوتو) بالقرب من دسوق، ومملكة الجنوب وعاصمتها نخب (الكوم الأحمر بمركز إدفو). وبحكم الوضع الجغرافي لمصر، حيث يمثل النيل شريان الحياة ومحورها الرئيسي الذي تدور حوله الحياة. وحتي تصبح السيطرة، علي الطبيعة كاملة فلابد من التحكم في النيل كله، وهذا صعب في ظل مملكتين منفصلتين، ومن هنا جرت عدة محاولات لتوحيد مصر، كان آخرها محاولة الملك "مينا" التي بقيت واستمرت. وكان هذا بداية لعهد الأسرات المصرية التي تعاقبت علي حكم مصر. وخلال هذه الحقبة، تمدنا الوثائق والنصوص التاريخية بمعلومات قيمة، عن الجيش المصري الذي كان موجوداً في عصر الدولة القديمة (3200 ق. م). كان العسكريون قطاعاً مهماً في المجتمع، وكان التجنيد يشمل جميع أبناء البلاد بدون تمييز، والخدمة في الجيش تعتبر شرفاً. وخلال هذه الفترة يقول المؤرخون العسكريون إن الجيش المصري طور أدواته الحربية وأسلحته، وكان الجندي المصري أول من استخدم وسائل التمويه (الكامو فلاح)، حتي لا يظهر للعدو بوضوح. فكان يطلي غطاء رأسه وملابسه وأسلحته وعربته وجواده بطلاء ملون في غير انسجام وعلي نسق ما يفعل اليوم الجند في عرباتهم المسلحة ودباباتهم، وعتادهم الحربي. ويقول مونتوجمري في كتابه "الحرب عبر التاريخ"، "إن المصريين قد برعوا في فن الكمائن، وإن أجهزة مخابراتهم كانت ذات مستوي عال في مجال الاستطلاع وتجميع المعلومات عن الجيوش المعادية"، والطريف أن كلمة (نفر) التي تطلق أحياناً علي الجندي، هي أصلاً كلمة فرعونية (نضرت). كانت تطلق علي الجندي ومعناها الشاب الصالح. وترجع أول وأهم المعارك الحربية التي خاضها الجيش الفرعوني، والتي وصلتنا معلومات مهمة عنها إلي عام 2450 ق. م في الدولة القديمة، عندما تعرضت مصر لإحدي موجات الغزو الخارجي من قبائل الرعاة الساميين الرحل، الذين كانوا يتجولون دائماً بحثاً عن المراعي، كانت غاراتهم علي المدن الغنية، والواحات الخصبة لا تنتهي، لكنها في معظمها كانت غارات متقطعة، تقوم بها جماعات متفرقة، لكنهم عندما قصدوا مهاجمة مصر، تجمعوا في أعداد هائلة بقصد الاستقرار في الوادي الخصب، وهكذا تبدو هذه المحاولة، إحدي الهجمات الواسعة التي تعرضت لها مصر، والتي كانت تدفع المصريين إلي حمل السلاح، والاحتفاظ دائما بجيش قوي يدفع عن الوادي الخطر الخارجي، وقبل الاستطراد في تفاصيل هذه المحاولة نلاحظ أن الإنسان المصري علي امتداد تاريخه حارب في اتجاهين. الأول ضد الغزوات الخارجية التي لم تنقطع، والثاني ضد المستعمر الذي كان ينجح في احتلال البلاد، أو الحكام المستبدين، أي الثورات الشعبية. وفي الوقت الذي تبدت فيه محاولة هؤلاء البدو، كان الشعب المصري يبني حضارة متقدمة علي ضفاف النيل، ونلاحظ أن الوضع الجغرافي الفريد لمصر قد ساعد الإنسان في بناء هذا المجتمع المستقر، إذ أن الطبيعة أحاطت مصر بموقع جغرافي جعلها محصنة، ولم تعرف البلاد أي خطر يأتيها من ناحية الشمال، لم تكن البلاد المطلة علي هذا البحر تتمتع بحضارة متقدمة تجعلها تمثل خطرًا علي مصر، وفي الغرب تمتد الصحراء التي يصعب علي الغزاة اجتياحها، أما الشرق فكان يمثل المعبر الوحيد إلي البلاد الذي يستطيع الغزاة النفاذ منه. ومن هنا جاء هؤلاء الغزاة الأول، وخلال هذه اللحظة التي تحتل موقعاً مبكراً جدا في التاريخ المصري، تبدو استجابة البلاد للخطر الخارجي الذي يهدد الأمن، والحضارة والاستقرار، يهدد الأمن العام، أمن الوطن، وبالتالي الأمن الخاص للأفراد، للأسر الصغيرة التي تشكل في مجموعها الأسرة الأكبر، مصر، وباستمرار كانت تتكرر هذه اللحظات الخطيرة. وفي كل مرة كانت الشخصية المصرية تتصدي له بأساليب تتفاوت وتختلف طبقاً للظروف التاريخية والحضارية الناتجة عن العصر نفسه، عندما بدأ الخطر سارع "بيبي الأول"، فرعون مصر وقتئذ بتعيين "أوني" أحد رجاله قائداً أعلي للجيش. بدأ أون في تجهيز وإعداد جيش قوي، ليس جيشاً محترفاً، فالمصريون لم يحترف منهم أحد القتال بغرض القتال في حد ذاته، ولم ينخرط أحدهم في جيش دولة أجنبية كمرتزقة، فلم يعرف التاريخ المصري الطويل هذه الظاهرة أبداً، إنما كان المصري يحمل السلاح دائماً للدفاع عن الوطن أو للخروج في حملات تستهدف مطاردة بعض الغزاة وتأمين البلاد، وفي لحظات الخطر لم يكن الجيش وحده هو الذي يتحمل مسئولية القتال، إنما كان أهل البلاد كلهم يهبون لدفع الخطر، يوجه جهد الوطن كله لخدمة الحرب، سواء أكان المعتدي من البدو، أم مستعمراً من الهكسوس، أم الفرس، أو اليونانيين، أم التتار، الصليبيين، العثمانيين، الفرنسيين، الانجليز، الإسرائيليين، إن الصورة التي يمدنا بها التاريخ عن هبة الشعب المصري في عهد الملك بيبي تتشابه مع أسلوب المصريين في التصدي للخطر الخارجي خلال فترات التاريخ المختلفة، لقد تطوع الفلاحون من القري، وجاء النوبيون، وسكان الواحات، ونجد ملحوظة طريفة تركها لنا (أوني) قائد الجيش علي جدران مقبرته. (إن رجل جزيرة "الفانتين" لم يستطع أن يتفاهم هو ومواطنه الذي يسكن شمالي الدلتا، ولكن لم يتشاجر أحد من الجنود مع زميله، ولم ينهب أحد منهم عجينة الخبز من جوال. أو يسرق نعاله، ولم يأخذ أحد منهم خبز أية مدنية، كما لم يستول أحد منهم علي عنزة واحدة من أي شخص). وهكذا يعلو الإنسان المصري في لحظات الخطر، إن حياته مرتبطة تماماً بالأرض، وأمام الغزو يجد حياته مهددة، ولا خيار هنا، أما التصدي للعدو وإبادته، أو الموت، فإلي أين يمضي؟!، وخلال فترات المواجهة هذه يبدو العديد من العناصر الايجابية التي تشكل الشخصية المصرية، والتي قد لا تبدو في الظاهر خلال فترات الركود أو الاستكانة في جيش "أوني" لا يشاجر أحد من الجنود زميله، ولا يعتدي واحد منهم علي بضاعة في قرية يمر بها الجيش، وفي مواجهة الهكسوس يضحي المقاتل من أجل زميله ووطنه، ويبرز عدد من الشخصيات الفريدة، مثل الملكة "تيتي شيري" زوجة الملك "»قنن رع" التي عاصرت جميع مراحل الكفاح الشعبي ضد الهكسوس منذ بدايته حتي حرب التحرير في عهد حفيدها أحمس الأول، مات ابنها في الحرب منهياً المرحلة الأولي من مراحل الكفاح ضد الهكسوس، كان قد جمع حوله أبناء الصعيد، وسائر أبناء مصر الذين جاءوا من أنحاء مصر ليحاربوا الهكسوس ولاتزال جثته تحمل آثار جروحه التي استشهد بعدها في الحرب، إن جثته في المتحف المصري الآن تثير في النفس انفعالات كثيرة، هذا الوجه المليء بالجروح الذي يطل علينا عبر آلاف السنين، استشهد دفاعاً عن مصر، إن جثته حنطت علي عجل، لم تجر أية محاولة لوضع الجسم في وضعه الطبيعي المستقيم، الرأس ملقي إلي الخلف ومنثنياً نحو اليسار، ولسانه بارز من فمه يضغط عليه بأسنانه، ساقاه منبسطتان بعض الشيء، أزيلت أحشاؤه من فتحة عملت في بطنه، بينما حفظ الجسم بوضع نشارة الخشب المعطرة عليه فحسب، لقد تم التحنيط علي عجل؛ لأنه استشهد في ساحة القتال، ولم يكن هناك الوقت الكافي لتحنيطه كما يجب، ولم تمض إلا فترة قصيرة حتي أعلن (كاموس) حفيد تيتي شيري استئناف الجهاد. حرر الأقاليم الوسطي "وكان جيشي شجاعاً يسير أمامي كعاصفة من نار" وقاد أحم المرحلة الثالثة من الكفاح، وشهدت تيتي شيري خروج الهكسوس من البلاد. كانت امرأة من عامة الشعب قبل أن تتزوج فرعون، وعندما أتخيلها أراها كإحدي نساء الصعيد النحيلات، الذين وضعتهن الظروف في مواجهة الحياة، فيكتسبن صلابة، يصبحن كجذوع النخيل الفارهة الصلبة ، إن هذا النموذج تعرفه الحياة المصرية، في العديدات من السيدات اللواتي يواجهن بظروف صعبة في مقتبل حياتهن، كأن يموت الزوج مثلا، عندئذ ترفض المرأة كل متقدم لها برغم صغر سنها، ومهما بلغ جمالها تتفرغ تماماً لإدارة شئون حياتها، تربي الأطفال، وتخرج إلي الأسواق، تبيع وتشتري، وتعمل في الأرض، لقد شاهدت العديدات من زوجات المقاتلين علي الجبهة، يقمن بتصريف شئون حياتهن في ثقة وإخلاص وتفان لا حد له، خاصة في الريف، حيث تخرج المرأة مع أولادها لتحرث الأرض، أو تتعهد الزرع، بحيث لا يقلق الرجل المتفرغ للقتال علي شئون بيته. لقد اشتعلت روح جديدة عارمة في البلاد بعد طرد الهكسوس، اندفع الناس للتطوع في صفوف الجيش، حتي ثقافة المصريين ومعتقداتهم الدينية لم تخل من التأثير الحربي، فخلعوا علي كثير من الآلهة صفات أبطال الحروب والقادة، وفي مقدمتها آمون، سيد الآلهة المصريين أصبح ربا للحرب، وتكرر خروج الفراعنة إلي الشرق لتأمين حدود مصر وإخضاع القوي التي تفكر في الإغارة علي مصر. حدث هذا في عصر "توت غنخ آمون" و"حور محب" و"سيتي الأول" وخرج رمسيس الثاني ليخضع الحيثيين عند قادش، ونكرر هنا ملاحظة أن المصريين لم يخرجوا كغزاة، لم يكن الغزو هدفا في حد ذاته، إنما تأمين مصر هو الهدف، والدافع الرئيسي لخروج المصريين لمقاتلة الآسيويين أو النوبيين، لا يقتصر هذا علي العصر الفرعوني إنما هي ظاهرة ثابتة ومستمرة في التاريخ المصري. ها هم أمراء المماليك يخرجون لرد الخطر المغولي، ويهزمونهم عند (عين جالوت)، ثم يتصدون للويس التاسع في دمياط والمنصورة، ويطاردون الصليبيين في الشام حتي يتم اجتثاثهم من الشام، ويفتحون قبرص، وتصبح قبرص ولاية تابعة للسلطنة المملوكية، في عهد الأشرف برسباي، يتولي حاكمها بأمر من قلعة الجبل في القاهرة، ونلاحظ أن الاتجاه لفتح قبرص ومحاولة غزو رودس تمت عقب الحملات الصليبية، أيضا لابد من الإشارة هنا إلي أن الجيوش المملوكية التي كانت تخرج لمحاربة التتار، أو الصليبيين، أو للجهاد، تعتبر جيوشاً مصرية خالصة، برغم أن النسبة العظمي من الجنود فيها كانوا من المماليك القادمين من أصقاع آسيا، فهؤلاء المماليك الذين انتهت دولتهم عام 1517 ميلادية، في مرج دابق، كانوا ينشئون في مصر، وكانوا يندمجون في الحياة المصرية يؤثرون فيها ويتأثرون بها، وبمجرد خروجهم من خدمة السلاح يندرجون في الحياة الاجتماعية المصرية تماماً، ويمثل ابن إياس المؤرخ العظيم مثالاً واحداً علي هذا، فهو أحد أفراد أسرة مملوكية، لكنه اشتغل بالعلم وعاش في المجتمع المصري كأحد أفراده، وعندما نقرأ كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور".