لا يعرف الكثير من عمَّال الدهانات أن خطراً كبيراً يداهم حياتهم، بسبب مواد خطيرة موجودة في بعض الدهانات التي يتم تصنيعها في مصانع بير السلم غير المرخصة، قد تكون سبباً في إصابتهم بأمراض خطيرة مثل السرطان وأمراض الصدر والربو الشُعبي وغيرها، كما أن الجهات المعنية لم تهتم بتوفير اشتراطات الأمن والسلامة المهنية لهم أو تفعيل الدور الرقابي علي الورش ومحال العمل لتتركهم يقعون فريسة للأمراض المتعددة التي تنهش أجسادهم. ويعتبر عمال الدوكو والأستورجية أبرز هؤلاء العمال، فكثرة التعرض لرائحة الدهانات والمواد الكيماوية تؤدي للإصابة بالأمراض الصدرية كالربو وضيق التنفس وليس هذا فقط فبحسب الدراسة التي نشرتها إحدي المجلات الطبية الأمريكية أكدت أن السرطانات المختلفة وعقم الرجال نتيجة طبيعية لكثرة التعرض للدهانات النارية المستخدمة في طلاء الموبيليا والسيارات فتحتوي علي التينر والبولي إستر إضافة لمادة "الأيزوفانيت "المسرطنة التي تتوغل في الأيدي وتنتقل لباقي أعضاء الجسم مستغلة جهل العمال بضرورة ارتداء قفازات طبية وكمامات واقية ومن المعروف أن أغلب العمال والأستورجية يقبلون عليها لسهولة استخدامها وقدرتها الفائقة علي تغطية عيوب الأخشاب والسيارات مما يؤدي لتحقيق مزيد من الربح ناهيك عن لمعانها المصقول والذي يجذب نظر الزبون. وقد انتشرت تلك الدهانات خلال السنوات الماضية انتشاراً سريعاً، وكان يتم استيرادها من فرنسا وإيطاليا إلا أن تلك الدول بعدما أدركت مدي أخطارها الجمة أوقفت استخدامها ببلادها واعتمدت علي الدهانات المائية التي لا تسبب أضراراً تذكر ولك أن تعلم أن فرنسا تستورد الموبيليا علي الخشب فقط وبدون أي دهانات، وتقوم هي بطلائها بدهانات صديقة للبيئة مستخرجة من المواد الطبيعية. والغريب أن الأمراض الصدرية والسرطان ليست الأمراض الوحيدة، فقد ذكرت مصحة الأمل لعلاج الإدمان أن أغلب العاملين بورش دهان الموبيليا والسيارات، وهم من المراهقين الذين لا تزيد أعمارهم علي الخمسة عشر، يدمنون شم المواد الطيارة المستخدمة في الدهان؛ نظراً لأسعارها الزهيدة مقارنة بالمواد المخدرة الأخري، وتوافرها دوماً، فلا يوجد قانون يمنع بيعها أو تداولها، مما يصيبهم بحالة من العنف والهياج والعدوانية، ويمكن أن تؤدي إلي فقد الوعي أو حتي الوفاة في بعض الأحيان. وقد أجري الدكتور مجدي محمد خليل، استشاري الأمراض الصدرية دراسة حول أهم الأمراض الناجمة عن الدهانات وأكدها المستشار الفني في شركة دهانات الجزيرة عماد فهمي مشدداً علي ضرورة تجنب أماكن الطلاء الحديثة التي عادة ما تمتد من يومين إلي سبعة أيام من وقت الطلاء وأشارت الدراسة إلي أن الرائحة النفاذة التي تنبعث من الدهانات ليست ناجمة من مادة معينة، رغم أن المادة العطرية التي قد تكون مسببة لأزمات الربو أو محدثة له هي مادة الأيزوفايانيت المعروفة في تركيب الدهانات التي تسبب حساسية الصدر، موضحة أن روائح الدهانات هي الأشد تأثيراً في حدوث أزمات ربوية حادة إذا ما تمت مقارنتها بروائح الدخان والعطور ومواد التنظيف. وأوصي الدكتور خليل في بحثه، بضرورة توفير تقنية صناعية خاصة تقلل من استخدام المواد الزيتية والاستعاضة عنها بالمواد البلاستيكية الأقل تأثيراً وتصنيع أصناف خالية من الروائح التي تهدد حياة المصاب بالربو وتؤدي إلي عواقب وخيمة. المؤسف أنه قبل ابتكار هذه الدهانات كان أصحاب الورش يعتمدون علي "الإستر" في عملهم والذي يتكون من السبرتو والجمالكا فقط، وهي مواد مستخرجة من الطبيعة كبذور الخردل وأشجار السنط ويتم تعريضها للشمس فقط لتأتي بنتائج مذهلة، وقد أسهمت في شهرة وجودة الموبيليا المصرية علي مر الزمان، إلا أنه بفضل التطور الحديث وغلبة المواد الصناعية اندثرت تلك المواد تماماً، ولم يعد لها أي ذكر واستبدلت بالدهانات الحديثة التي لا تتطلب أعدادها سوي دقائق معدودة، كذا فإن الجير يعد أأمن من باقي الدهانات الأخري عن طريق غمر الجير الحي تماماً بالماء لمدة تتراوح من أسبوعين إلي ثلاثة أسابيع في مجموعة من الأحواض قد يصل عددها إلي أربعة، كل واحد منها يكفي شغل أسبوع كامل، ثم يتم استخدام زبد الجير فقط من علي وش الحوض بعد تصفيته جيدا للتخلص من الشوائب. وتنتشر مصانع إنتاج دهانات بير السلم بالمدن الجديدة وعلي رأسها السادس من أكتوبر ومدينة الحرفيين حيث يقومون باستخدام "التينر واللاكيه والسلاقون" منتهية الصلاحية مع إضافة مواد لامعة ومقاومة للمياه وجدير بالذكر أن مصنع إنتاج البتروكيماويات الذي انفجر بمنطقة الزيتون مؤخراً خير دليل علي أخطار مصانع بير السلم في ظل عدم التزامها بشروط السلامة والأمن الصناعي كما يقومون باستغلال أسماء ماركات دهان شهيرة ويعبئون منتجاتهم في نفس العبوات أيضاً ويقدمون عروض أسعار للمستهلك تقل بنحو 100 جنيه عن المنتج الأصلي، مستغلين عدم خضوع تلك المنتجات للضرائب وأبحاث تطوير المنتجات، وعدم حصولهم علي التراخيص اللازمة، مما يهدر حق الدولة في هذه الموارد غير المدفوعة ولا شك أن تلك الدهانات تضر بالمنشآت الخرسانية والمعدنية التي تستخدم فيها، لعدم مطابقتها المواصفات المحلية والعالمية. ولم يكن عملاء الدوكو والأستورجية وحدهم من تهددهم الدهانات فالأهالي العاديون الذين يشترون موبيليا دهنت حديثاً يصابون أيضاً بنفس الضرر في ظل ضيق مساحات الشقق وعدم تهويتها وتعريضها للشمس فوجود الموبيليا السامة في البيت يؤدي إلي تفاعل هواء وجو المنزل مع الكيماويات السامة وتطاير أبخرة وغازات سامة يستنشقها الموجودون في البيت، خاصة إذا كانت الشقة مساحتها صغيرة، أو سيئة التهوية، أو مزدحمة بالأثاث. يقف محمود بدر أحد عمال الدوكو بشبرا الخيمة أمام سيارة حمراء باهتة اللون ليتفحصها سريعاً، هذا الشاب العشريني الذي ورث المهنة من والده فبحسب قوله إنها مهنة مربحة وتعمل علي تدعيم صلاته وعلاقاته بالزبائن المهمين يمسك بخرطوم رش السيارات والمحتوي علي الدهان الأحمر ليرشه بدقة ومهارة علي السيارة ليتحول لونها إلي لون براق يخطف الأنظار، لا يهتم محمود بالأمراض التي أصيب بها جراء مهنته وأهمها النزلات الشعبية المتكررة والصداع المزمن الذي يهاجمه في أوقات الليل المتأخرة. يقول محمود: ورثت مهنة الدوكو من والدي وقد تعلمتها منذ بلوغي مرحلة المراهقة وتعلمت فنونها فكل سيارة تختلف عن الأخري في الرش والسنفرة حتي لا تصاب بالخدوش وتتكون مواد رش السيارات من مادة التينرب واللاكيه ورغم نصائح الكثيرين لي بضرورة ارتداء كمامات واقية إلا أنني لم أهتم مطلقا بذلك فالعمر واحد والرب واحد وبالفعل فإن الكثيرين ممن يعملون بتلك المهنة مصابون بأمراض الربو والفشل الكلوي. ويتفق معه جابر علي أحد عمال الأستورجية بورشة تصنيع الموبيليا بطوخ فيقول: منذ عملي بمهنة الأستورجية نصحني أصدقائي بضرورة شرب كوب من اللبن يومياً لقتل سموم الجسم وتفادي الإصابة بالسرطان فالمواد الكيميائية الموجودة بالدهانات لها أخطار شديدة لكنني بعد تعودي علي العمل أيقنت أنه لا مفر من الإصابة بالأمراض الجلدية وحساسية العين فالرائحة النفاذة للزيوت ومادة التينر تعمل علي تهيج الجلد والإصابة بالحكات المستمرة. وحول طرق الحصول علي الدهانات النارية يقول: هناك بعض المصانع الكبري ذائعة الصيت تبيعها بأسعار غالية جداً لذا فإننا نضطر لشرائها من بعض مصانع بير السلم والتي تنتجها بنفس المواصفات لكن بأسعار أقل وأغلبها موجود بمدينة الحرفيين والسادس من أكتوبر. وحول الأخطار الصحية الناتجة عن استنشاق الدهانات يقول الدكتور أحمد البنا، أستاذ العقم والذكورة: يعد عمال الدوكو والأستورجية أكثر الفئات تعرضاً للإصابة بالعقم والضعف الجنسي، نتيجة لتعرضهم لنسبة عالية من مادة الرصاص الموجودة في الدهانات، التي تصل الجسم عن طريق الاستنشاق أو التلامس المباشر في ظل عدم ارتدائهم كمامات أو قفازات واقية، فالرصاص يؤثر علي ضغط الدم وتقلص الأوعية الدموية، كما أضاف أن الأجنة في بطون الأمهات تتأثر أيضاً جراء استنشاق الأم لتلك الروائح النفاذة مما يزيد من خطر تشوهاتها وإجهاضها في الشهور الأولي. ويتفق معه الدكتور حسن عبدالرسول، أستاذ الأمراض الصدرية فيقول: مادتا (البوليستر والبوريتان) اللتان يتم استخدامهما في رش غرف الأثاث، تؤدي إلي احتقان الأغشية المخاطية للأنف والحلق والقصبة الهوائية والشعب الهوائية.