وزير الإسكان يتفقد المركز التكنولوجي لخدمة المواطنين بالعبور الجديدة    مصر تشدد على ضرورة استجابة إسرائيل لوقف إطلاق النار فى غزة    الزمالك يحشد جماهيره لمساندة الفريق أمام مودرن سبورت    شريف فتحى: إعداد خطة جديدة للترويج السياحي لمعالم وأثار الإسكندرية    رابح صقر يعلن وفاة ابن شقيقته.. ويدعو له بالرحمة    ما الفرق بين التبديل والتزوير في القرآن الكريم؟.. خالد الجندي يوضح    الجنائية الدولية: نرفض بشدة عقوبات أمريكا ضد القضاة ونواب المدعى العام    تمرد إيزاك يشعل أزمة في نيوكاسل وليفربول يترقب    شعرت بالوحدة لغياب زوجها في حرب غزة، معلمة تهز الاحتلال بعلاقات إباحية مع الطلاب    موجة حارة جديدة.. تحذير من طقس الأيام المقبلة    وفاة سيدة بأوسيم بعد سقوطها من الطابق الثاني بسبب خلافات أسرية    روسيا تستضيف منتدى دولي للصحافة والإعلام بمدينة كالينينجراد    محافظ الغربية يجرى جولة ميدانية موسعة بالمحلة الكبرى    لميس الحديدي تنضم لقناة النهار لتقديم برنامج توك شو رئيسي    محافظ الإسماعيلية يستقبل الأمين العام المساعد للبحوث الإسلامية    ماذا أفعل مع الاكتئاب والفتور والكسل فى العبادة؟.. أمين الفتوى يجيب    اعمليها بطريقة الجدات، طريقة عمل البامية بمذاق لا يقاوم    عانى من كسرين في القدم.. تفاصيل جراحة مروان حمدي وموعد عودته للمباريات    بالأرقام.. الخارجية تكشف جهود مصر في دعم غزة    تعرف على آخر مستجدات الحالة الصحية للفنانة أنغام    صورة- عمرو دياب مع منة القيعي وزوجها على البحر    حدث في 8 ساعات| السيسي يؤكد رفض تهجير الفلسطينيين وتعديلات مرتقبة في قانون الخدمة المدنية    غدر الذكاء الاصطناعى    ما ثواب صلاة الجنازة على أكثر من متوفى مرة واحدة؟.. الإفتاء توضح    وسام أبو علي: مقتنع بخطوة اللعب في كولومبوس.. والأمر كان صعبًا بسبب الأهلي    في يومه العالمي- متى تسبب لدغات البعوض الوفاة؟    النائب محمد أبو النصر: رفض إسرائيل مبادرة وقف إطلاق النار يكشف نواياها الخبيثة    وزير الصحة يتفقد مستشفى الشروق ويوجه بدعم الكوادر الطبية وتطوير الخدمات    الأوقاف تعقد 681 ندوة بعنوان "حفظ الجوارح عن المعاصى والمخالفات"    وكيل تعليم الغربية: خطة لنشر الوعي بنظام البكالوريا المصرية ومقارنته بالثانوية العامة    صلاح: التتويج بالبطولات الأهم.. وسنقاتل لتكراره هذا الموسم    بيع مؤسسي يضغط سوق المال.. والصفقات تنقذ السيولة    مدحت العدل ينعى يحيى عزمي: "واحد من حراس الفن الحقيقي"    البرديسي: السياسة الإسرائيلية تتعمد المماطلة في الرد على مقترح هدنة غزة    النائب علاء عابد: المقترح «المصري–القطري» يتضمن بنود إنسانية    كنوز| 101 شمعة لفيلسوف الأدب الأشهر فى شارع صاحبة الجلالة    مدبولي لقادة الدول: حان الوقت لاتخاذ إجراءات سريعة وحاسمة لردع العدوان الإسرائيلي والاعتراف بالدولة الفلسطينية    حملة موسعة على منشآت الرعاية الأولية في المنوفية    تحرير 7 محاضر لمحلات جزارة ودواجن بمدينة مرسى مطروح    إزالة 19 حالة تعد على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة في المنيا    تعرف على مواجهات الزمالك في دوري الكرة النسائية للموسم الجديد    رئيس جامعة القاهرة: تطوير وصيانة المدن الجامعية أولوية قصوى للطلاب    كيف يكون بر الوالدين بعد وفاتهما؟.. الإفتاء تجيب    حالة الطقس في الإمارات.. تقلبات جوية وسحب ركامية وأمطار رعدية    ضبط المتهمين بالتنقيب عن الآثار داخل عقار بالخليفة    بيع 11 محلًا تجاريًا ومخبز بلدي في مزاد علني بمدينة بدر    الليلة.. إيهاب توفيق يلتقي جمهوره في حفل غنائي بمهرجان القلعة    وزير الشئون النيابية يزور مستشفى الناس: شاهدت صرح طبى نفخر به فى مصر    تعرف على مواقيت الصلوات الخمس اليوم الأربعاء 20 اغسطس 2025 بمحافظة بورسعيد    توقيع مذكرة تفاهم للتعاون بين اقتصادية قناة السويس وحكومة طوكيو في مجال الهيدروجين الأخضر    وزير الدفاع يلتقي مقاتلي المنطقة الشمالية.. ويطالب بالاستعداد القتالي الدائم والتدريب الجاد    محافظ القاهرة يقرر النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بالثانوي العام    أحمد ياسر: كهربا يمر بظروف صعبة في ليبيا... ولا يصلح للعب في الأهلي والزمالك    صباحك أوروبي.. صلاح يتوج بجائزة لاعب العام.. استبعاد فينيسيوس.. ورغبة إيزاك    رئيس الوزراء: أدعو الطلاب اليابانيين للدراسة في مصر    انطلاق القطار السادس للعودة الطوعية للسودانيين من محطة مصر (صور)    ترامب: رئيس البنك المركزي يضر بقطاع الإسكان وعليه خفض أسعار الفائدة    إيزاك: النادي يعرف موقفي منذ فترة.. وعندما تكسر الوعود لا يمكن للعلاقة أن تستمر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقبرة البيانو‮ ‬

لمَّا شَعَرتُ‮ ‬بالمرض،‮ ‬أدركتُ‮ ‬حينها أنني ميتٌ‮ ‬لا محالة‮.‬
في الأشهر الأخيرة من حياتي،‮ ‬كنتُ‮ ‬أمشي من بيتنا إلي الورشة‮. ‬أجلس فوق كومة من الألواح‮. ‬لا أقوي علي المساعدة في الأمور البسيطة؛ كتسوية إطار باب،‮ ‬أو دقّ‮ ‬مسمار‮ - ‬مثل حالي عندما كنتُ‮ ‬طفلًا‮ - ‬أرقبُ‮ "‬فرانسيسكو‮" ‬وهو وسط سحابة من نشارة الخشب‮. ‬في آخر النهار،‮ ‬أدركتُ‮ ‬أنه قد مضي زمن طويل من حياتي،‮ ‬لم أعرف فيه نفسي‮. ‬كان رأسي ثقيلًا،‮ ‬كأني أحمل بداخله العالم‮. ‬كنتُ‮ ‬أُغمض عينيَّ‮ ‬واضعًا وجهي بين كفيَّ‮- ‬مستدعيًا الظلام‮. ‬في صمت‮. ‬بعدها،‮ ‬دخلتُ‮ ‬المستشفي‮. ‬كان ذلك في الأسابيع الأخيرة من حياتي‮.‬
لم تأتِ‮ "‬مارتا‮" ‬لزيارتي في المستشفي‮. ‬كانت حاملًا في‮ "‬هيرميس‮"‬،‮ ‬في أشهرها الأخيرة‮. ‬وتحتاج إلي رعاية كبيرة،‮ ‬أثناء حَمْلِها‮. ‬أتذكرها،‮ ‬فجأةً؛ عندما كانت صغيرة،‮ ‬وسعيدة،‮ ‬علي الدراجة المستعملة،‮ ‬التي اشتريتها لها،‮ ‬وعندما كانت تذهب إلي المدرسة‮. ‬أتذكر أشياء كثيرة‮. ‬بينما كنتُ‮ ‬في المستشفي،‮ ‬أنتظر الموت؛ كانت‮ "‬مارتا‮" ‬في مستشفي آخر‮ - ‬ليس ببعيد‮ - ‬تنتظر ميلاد‮ "‬هيرميس‮".‬
سألتْ‮ "‬مارتا‮": ‬
‮- ‬كيف حال أبي؟‮ ‬
كانت ترقد‮. ‬شعرها‮ ‬غير مُصَفَّف،‮ ‬وملاءات سرير المستشفي تُغَطي بطنها‮.‬
‮ ‬ويرد عليها إنسان يكذب،‮ ‬قائلًا‮: ‬
‮- ‬علي الحال نفسه‮.‬
شخص آخر‮. ‬غير زوجتي،‮ ‬و"ماريا‮"‬،‮ ‬و"فرانسيسكو"؛ فلم يجرؤ أيٌّ‮ ‬منهم أن يكذب عليها‮.‬
في مساء آخر يوم من حياتي،‮ ‬جاءت‮ "‬ماريا‮" ‬وزوجتي و"فرانسيسكو‮" ‬لرؤيتي،‮ ‬وتخلَّف‮ "‬سيماو"؛ فلم يُرد أن يزورني،‮ ‬طوال فترة مرضي‮. ‬كان يوم أحد‮. ‬كنتُ‮ ‬معزولًا عن المرضي الآخرين؛ لأنني كنتُ‮ ‬أحتضر‮. ‬كنتُ‮ ‬أحاول أن أتنفس‮. ‬كان نَفَسي عبارة عن طنين؛‮ ‬غليظ،‮ ‬وأجش يملأ الغرفة‮. ‬في طرف السرير،‮ ‬كانت زوجتي مُختنقة بالبكاء،‮ ‬وتذرف دمعًا‮. ‬وجهها مُكفهرّ،‮ ‬وتتألم،‮ ‬معاناة‮. ‬ودون أن تختار الكلمات،‮ ‬كانت تقولها في أنين خفي،‮ ‬مشدود،‮ ‬وطويل لا يقطعه سوي تنفس مُنقبض‮. ‬الكلمات تلتهب،‮ ‬داخل جسدها الهزيل مُرتدية سترة من الصوف،‮ ‬وتنورة قَيِّمة،‮ ‬وحذاء لامع تقول‮: ‬
‮- ‬آهٍ‮ ‬يا زوجي الغالي‮. ‬يا صديقي‮. ‬أنت أكبر صديق لي‮. ‬ستتركني وحيدة‮. ‬يا زوجي الغالي‮. ‬يا رفيقي‮. ‬يا صديقي العظيم‮. ‬العظيم‮.‬
كانت‮ "‬ماريا‮" ‬تبكي،‮ ‬وتحاول أن تحتضن أمها،‮ ‬وتُخَفّفَ‮ ‬عنها؛ لأنهما كانتا تشعران‮ - ‬في قرارة نفسيهما‮ - ‬بالفراغ‮ ‬الرهيب نفسه،‮ ‬الذي كنتُ‮ ‬سوف أحسه لو فقدتُ‮ - ‬في يومٍ‮ ‬من الأيام‮ - ‬إحداهما‮. ‬كان‮ "‬فرانسيسكو‮" ‬يُطل من النافذة،‮ ‬مُتَظاهرًا بأنه لا يري‮. ‬يتجاهل ما كان يعلمه‮. ‬يحاول أن يكون رجلًا‮. ‬كان جادًّا‮. ‬اقترب مني‮. ‬في الوقت المحتوم،‮ ‬مَلَّس علي وجهي‮. ‬وضع يده علي يدي‮. ‬علي الترابيزة المجاورة للسرير‮ - ‬فوق‮ ‬غطاء حديدي رمادي‮ - ‬وجد كوب ماء،‮ ‬وعودًا خشبيًّا،‮ ‬في طرفه قطعة من القطن‮. ‬بلل القطن بالماء،‮ ‬ووضعه في فمي الجاف،‮ ‬والمفتوح‮. ‬عضضتُه،‮ ‬بكل قوتي‮. ‬تفاجأ‮ "‬فرانسيسكو‮"‬،‮ ‬بإحساسه‮ - ‬للمرة الأخيرة‮ - ‬بقوتي‮. ‬سَحَبَ‮ ‬القطن‮. ‬نظر إليَّ‮ ‬وبكي؛ لأنه لم يتحمل‮. ‬احتضنته‮ "‬ماريا‮"‬،‮ ‬وعاملته كما كانت تُعامله وهو طفل صغير‮. ‬قالت له‮:‬
‮- ‬لا تخف يا بُني‮. ‬لن نتركك وحيدًا‮. ‬سوف نهتم بك‮.‬
كل قوتي‮. ‬استخدمتُ‮ ‬كل قوتي‮. ‬تَمَكَّنتُ‮ - ‬فقط‮ - ‬من إصدار صوت مُرَوِّع‮. ‬صوتٌ‮ ‬مريضٌ‮ ‬يحتضر‮. ‬وددتُ‮ ‬لو أقول ل"فرانسيسكو‮" ‬و‮ "‬ماريا‮" ‬إنني‮ - ‬أيضًا‮ - ‬لن أتركهما وحيدين‮. ‬أردتُ‮ ‬أن أقول لهما إنني أكبر صديق لهما،‮ ‬في الحياة‮. ‬لن أتركهما وحيدين‮. ‬لن أتخلي عن كوني والدهما‮. ‬وسوف أهتم بهما وأحميهما‮. ‬في صوت مُرَوِّع‮. ‬أنين لا يستطيع الكلام‮. ‬نعم‮! ‬أنين‮. ‬رغم استخدامه لكل قوته،‮ ‬كان لا يُخرج إلا ضجيجًا مبحوحًا،‮ ‬من الحنجرة‮. ‬صوت مُرَوِّع‮. ‬صوت الموت‮. ‬نظروا إليَّ؛ فازدادوا بكاءً‮. ‬أحسوا في صدورهم فراغًا هائلًا،‮ ‬أسودَ،‮ ‬وعميقًا‮. ‬نعم‮! ‬عميقًا‮. ‬كنتُ‮ ‬سوف أحس ذلك لو فقدتُ‮ ‬أحدهم يومًا ما‮.‬
عادوا إلي بيت‮ "‬ماريا‮". ‬انزوي كلٌّ‮ ‬منهم في ركن‮. ‬في‮ ‬غياهب المعاناة‮. ‬كان عُمْر‮ "‬آنَّا‮" ‬عامين،‮ ‬وكانت في بيت جدَّيها لوالدها‮. ‬بعيدةً،‮ ‬ومحميةً‮. ‬كانت زوجتي،‮ ‬و"ماريا‮" ‬و"فرانسيسكو‮" - ‬دون سند‮ - ‬ينتظرون أن يدق التليفون‮. ‬كانوا ينتظرون أن يتصلوا بهم من المستشفي؛ لإخبارهم نبأ وفاتي؛ حيث قالت الممرضة‮:‬
‮- ‬سوف نتصل اليوم‮ - ‬مبدئيًّا‮ - ‬حال وفاة زوجك‮.‬
هكذا قالت الممرضة‮. ‬ربما لم تُلاحظ أن زوجتي لم تعد شيئًا مذكورًا‮.‬
2
لا أريد أن يكون هذا اسمي فحسب،‮ ‬بل أريد أن أكون صاحبه‮.‬
‮ ‬أخيرًا‮. ‬تخيلت هذا اليوم،‮ ‬عندما كنت مفعمًا بالأمل‮. ‬راقدًا بجوار زوجتي،‮ ‬واضعًا يدي فوق بطنها المستدير،‮ ‬وهي حاملٌ‮ ‬في ابننا،‮ ‬أو عندما كنت صبيًّا،‮ ‬أعود من الورشة مع أبي‮. ‬يدخل هو الحانة،‮ ‬ويأمرني بالذهاب إلي المنزل‮. ‬يستمر علي الطريق الترابي بمفرده،‮ ‬بملابسه،‮ ‬ووجهه وشعره المُغطّي بنشارة الخشب،‮ ‬أو عندما كنت صغيرًا،‮ ‬أجلس في مقبرة البيانو،‮ ‬بجوار الزمن‮. ‬نعم‮! ‬كنت مفعمًا بالأمل،‮ ‬أتخيل هذا اليوم،‮ ‬وأظن أنني لن أخاف‮. ‬كنت أكرر ذلك‮ - ‬في داخلي‮ - ‬ألف مرة‮: ‬لن أخاف،‮ ‬نعم‮! ‬لن أخاف‮. ‬كنت أري‮ - ‬هذه اللحظة،‮ ‬وهذه الوجوه‮ - ‬بصفاء،‮ ‬ووضوح،‮ ‬وأظن أن كل اللحظات التي تخيّلتُ‮ ‬فيها هذا اليوم،‮ ‬كانت أطول منه،‮ ‬لكن هذه اللحظة تبدو ذ الآن‮ - ‬أكثر عمقًا،‮ ‬كبئر لا نهاية له،‮ ‬لو سقطتُ‮ ‬فيه‮ - ‬الآن‮ - ‬لسوف أستغرق حياتي كلها،‮ ‬وأموتُ‮ ‬قبل أن أصل إلي نهايته‮. ‬هذه الساعة من المساء‮.‬
علي الرخام‮. ‬أضع يدي علي سطح الجدار الأبيض‮. ‬كثير من الأسمنت‮. ‬وكأنني ألامس باطنه البارد‮. ‬وصلتُ‮ ‬إلي هنا‮. ‬أضع الحقيبة الكرتونية فوق المقعد الممتد‮. ‬الحقيبة الجديدة التي اشترتها زوجتي،‮ ‬بالنقود التي تدّخرها،‮ ‬ممّا يتبقّي من مصاريف البقالة‮. ‬التي كانت تخفيها عنّي‮. ‬كنت‮ ‬غاضبًا تارة،‮ ‬وسعيدًا تارة أخري،‮ ‬وفي اللحظة التي أهدتني إياها،‮ ‬كنت سعيدًا‮. ‬الحقيبة فوق ترابيزة المطبخ‮. ‬بجوار القفل،‮ ‬تحت المقبض،‮ ‬عليها صورة من القصدير لرجل يعدو‮. ‬رفعتُ‮ ‬رأسي‮. ‬لاحظتُ‮ ‬نظرة زوجتي‮. ‬كانت تبتسم‮. ‬وأنا أراقبُ‮ ‬الرجُل الصغير يعدو‮. ‬كانت زوجتي،‮ ‬يداها،‮ ‬صوتها،‮ ‬الوجه الذي يبتسم قبل أن أقبّله،‮ ‬هي التي اشترته لي،‮ ‬واحتفظت به ملفوفًا في ورق،‮ ‬وخبّأته في قاع صندوق،‮ ‬حتي جاءت اللحظة التي لصقته فيها،‮ ‬علي الحقيبة الجديدة،‮ ‬بجوار القفل،‮ ‬تحت المقبض؛ كي أراه دائمًا‮. ‬أفتح الحقيبة؛ القميص المكوي المطوي،‮ ‬والسروال القصير،‮ ‬والحذاء الرياضي،‮ ‬وساعة جيب أبي،‮ ‬وعلبة من الكريمات الخاصة‮. ‬واتتني فكرة عندما‮.‬
‮ ‬كل شيء‮. ‬ما زلنا نظن أن الزمن لم يمضِ‮. ‬عادت الأيام التي نحلم فيها‮. ‬فترات المساء‮.‬
‮ ‬وخلال ذلك الذي أتمناه يدور الزمان داخل نفسه مُسَيّرًا‮. ‬ليست له إرادة‮. ‬له فطرة‮. ‬الزمن أدني من حيوان يرتع‮. ‬لا يفكر إلي أين يذهب‮. ‬عندما يتوقف،‮ ‬يكون مجبرًا علي ذلك‮.‬
عادتْ‮ ‬إلي طبيعتها،‮ ‬عندما كنا نعبر الحدائق،‮ ‬يمسك كل منّا بيد الآخر‮. ‬في ضوء الشمس‮. ‬نعم‮! ‬الشمس التي كانت تُضيئنا‮. ‬سامحيني‮. ‬لا تزال نفس الخفّة،‮ ‬كالنور،‮ ‬الذي كان يملؤنا‮. ‬رجاءً‮ ‬سامحيني‮. ‬نحن‮ - ‬مرة أخري‮ - ‬كل شيء‮. ‬ما زلنا نظن أن الزمن لم يمضِ‮. ‬عادت الأيام التي نحلم فيها‮. ‬فترات المساء‮.‬
كنت أرقد‮. ‬شحوم خاصة،‮ ‬خليط من الزيت،‮ ‬والدهن،‮ ‬والشحم‮. ‬كدتُ‮ ‬أنام،‮ ‬ولكني أحسستُ‮ ‬بدفء زوجتي بجانبي‮. ‬جسد يتنفّس‮. ‬ذراعي اليمني فوقها،‮ ‬وصدري ملاصق لظهرها‮. ‬تتداخل ركبتَاي في طية ساقيها،‮ ‬ويمر بطن ذراعي تحت ذراعها،‮ ‬تتبع شكل ضلوعها،‮ ‬وتحيط بها،‮ ‬وتحتويها،‮ ‬وتحميها‮. ‬راحة يدي علي بطنها‮: ‬ابننا‮. ‬يدي فوق بطنها‮. ‬فوق ابننا‮. ‬كانت تلك هي طريقتي في النوم‮. ‬أحكي لهما عن أفكاري،‮ ‬وأحلامي‮. ‬كنت أفكر في ابننا،‮ ‬كأنني أتحدث إليه،‮ ‬وأفكر في مسابقات العَدْو،‮ ‬وفي السفر إلي السويد؛ لتمثيل بلدي في ماراثون أفضل العدّائين في العالم في الألعاب الأوليمبية‮. ‬كنت أتخيل وجه ابننا عندما يُولد،‮ ‬وأعود فأفكر في مسابقات العَدْو‮. ‬ستوكهولم‮. ‬واتتني فكرة،‮ ‬أذهبتْ‮ ‬عني النوم،‮ ‬وهي أن أقوم من الفراش،‮ ‬وأبدأ في التدريب‮. ‬وفي اليوم التالي،‮ ‬اشتريتُ‮ ‬بعضًا من زيت،‮ ‬ودُهن،‮ ‬وشحم‮. ‬تركتُ‮ ‬الخليط يستقر لمدة ليلة‮. ‬في مساء اليوم التالي‮ - ‬بعد العمل،‮ ‬حيث جو شهر يونيو المُنعش‮ - ‬دهنتُ‮ ‬الشحوم الخاصة علي جسدي بأكمله‮. ‬لم أحمل معي الساعة،‮ ‬ولكني تأكّدتُ‮ ‬من أنني عَدَوْتُ‮ ‬أسرع بكثير‮. ‬أصبحت أكثر خفّة‮. ‬ساقاي تعدوان بسرعة أكبر في الهواء‮. ‬لم أحْتَجْ‮ ‬لشُرب ماء كثير؛ لأنني لم أعرقْ‮. ‬أصبحتُ‮ ‬أكثر قوة‮. ‬
‮ ‬صمت يعمّ‮ ‬العدّائين،‮ ‬وهم يرتدون ملابسهم‮. ‬بعضهم يصلي‮. ‬أصوات الاستاد‮ ‬غير مرئية،‮ ‬وراء الجدران،‮ ‬غائبة حاضرة،‮ ‬كالخوف‮. ‬صمت الخطوات القصيرة السريعة للعدّائين،‮ ‬كأنهم يقومون بأداء تمرينات رياضية‮. ‬أبدأ في دهن الكريمات علي جسدي‮. ‬أدخل أصابعي في العلبة‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.