السجن.. سجن! والفارق بين الحرية والسجن.. باب الزنزانة! ومن يدخل السجن - أي سجن في العالم - لابد أن يفقد الكثير من حريته، لابد أن يدفع ثمن جريمته، وخروجه علي قوانين المجتمع، والسماء أيضا! وطوال سنوات في الماضي. عاشت السجون المصرية ظروفا صعبة ومؤلمة من كل النواحي، وكانت هناك أوقات، لم يكن من عمل للسجناء، سوي تكسير حجارة الجبل! في الماضي كان السجناء يعيشون داخل السجن، ظروفا غير آدمية، كان السجناء يرتدون الخيش الممزق، وينامون علي »البرش« ولا يأكلون سوي العدس السييء الطبخ »كان تواليت« السجين مجرد »جردل« يقضي فيه السجين حاجته، ثم ينظفه بنفسه! في الماضي كانت السجون مصانع لانتاج مجرمين شديدي الخطورة، ومدارس لتعليم الجريمة بكل فنونها وأنواعها! لكن سنة الحياة التغيير.. والحقيقة التي لا يمكن لأحد انكارها أن السجون في مصر، شهدت تغييرا وتطويرا، هو في حقيقته ثورة في فلسفة العقاب، التي كانت في الماضي تقوم علي فكرة عقاب السجين وايلامه بكل الصور، في كل وقت من الأوقات كانت لائحة السجون في مصر تتضمن عقوبة »الجلد« التي كانت تطبق علي السجناء بجلدهم علي جهاز خشبي، كانوا يطلقون عليه اسم »العروسة«! وخلال 53 سنة هي عمر مشواري الصحفي شاهدت التغييرات التي حدثت في السجون المصرية، وكيف تحولت فلسفة العقاب فيها إلي فكرة الاصلاح والتأهيل، ومحاولة تحويل السجين إلي انسان آخر، عندما تكون توبته صادقة، ويمكن بعد قضاء فترة عقوبته أن ينضم الي حظيرة المجتمع. وأن يعيش فيها كإنسان شريف لا يفكر في العودة مرة أخري إلي الجريمة! ولابد أن يحسب للسيد حبيب العادلي وزير الداخلية كل الانجازات التي حدثت في السجون المصرية، وايمانه بتطبيق سياسة احترام الحقوق الانسانية لنزلاء السجون، تماما كما يؤكد علي احترام حقوق الانسان المواطن العادي. والذي حدث دون أن يعلمه الكثير من الناس انه تم تطوير السجون الحديثة، وبناء سجون جديدة عصرية، توفر لنزلاء السجون حياة أفضل، من حيث النوم والرعاية الصحية والانسانية، حتي أصبحت معظم السجون تحتوي علي ورش ومصانع يعمل فيها السجناء، وانتاجاتهم المختلفة تباع للناس في كل مكان، ويتقاضي السجناء مرتبات علي العمل في هذه الورش والمصانع والمزارع! الاسبوع الماضي وفي اطار منتدي ثقافي لحقوق الانسان في السجون، أقيم في سجن المرج المعروف وشهدته نخبة من الخبراء والشخصيات العامة قمت بزيارة الي سجن المرج استغرقت نهارا كاملا. عند بوابة السجن استقبلنا اللواء عاطف شريف مساعد وزير الداخلية لقطاع مصلحة السجون، كان رفيقاي في هذه الزيارة المستشار محمد عامر نائب مجلس الشعب ووكيل لجنة حقوق الانسان بالمجلس، والأخ والصديق حافظ أبوسعده الذي يطلقون عليه لقب »وزير حقوق الانسان في مصر« لجهوده المخلصة في الدفاع عن حقوق الانسان، ومواقفه الشجاعة الجريئة في هذا المجال. وكان أول ما شاهدناه داخل سجن المرج الملاعب الرياضية الواسعة، ونزلاء السجن يمارسون رياضة كرة القدم، بينما فرقة موسيقية من السجناء، تعزف في مرح الألحان الشهيرة. وانبهرت كثيرا عندما فوجئت بوجود مصنع علي أحدث طراز للحلاوة الطحينية يعمل فيه بعض السجناء، وفوجئت أكثر بأن انتاجهم من الحلاوة هو نفسه الذي أحبه ويشتريه معي ملايين المواطنين في المحلات الكبيرة المعروفة. ثم قمنا بزيارة مستشفي السجن الذي يعمل فيه عدد من الاطباء والطبيبات من ضباط الشرطة وقد تم تدريب بعض السجناء علي التمريض للعمل في المستشفي مقابل مرتب شهري مجز. لكن أكثر ما لفت نظري كان وجود صالون حلاقة كامل داخل السجن، والحلاقون أيضا من نزلاء السجن، ولا يتم تقاضي أي مقابل علي قص شعر السجناء، وقد دعاني »السجين م« حلاق الصالون الي حلاقة ذقني في دقائق، فلم أتردد »حلاقة ببلاش بقي«! وعندما دخلنا عنبر السجناء المحكوم عليهم في جرائم الأموال العامة لاحظت ان الصديق حافظ أبوسعده يحاول الاختلاء ببعض السجناء ليسألهم في همس عن المعاملة التي يعاملهم بها الضباط لعله يتصيد شكوي أو واقعة اساءة معاملة يسجلها في بياناته الشهيرة لحقوق الانسان. وأزعم أن حافظ أبوسعده قد فوجيء عندما سأل أحد السجناء: بيعاملوك ازاي هنا؟ - فوجيء بالسجين يرد عليه: أحسن معاملة! سأله حافظ أبوسعده: ازاي؟ - قال له السجين: والله العظيم يا باشا.. حكومة السجن.. أرحم من الحكومة عندي في البيت!
وتمنيت لو أن عدسات التليفزيون المصري بل والفضائيات أن تكون معنا لتسجل علي الواقع السجينات ومشغولاتهن الجميلة والسجناء الذين صنعوا أجمل الموبيليات. ودخلت فصول محو الامية بالسجن وشاهدت السجناء في مكتبة السجن يقرأون ما يريدون ودخلت فرن السجن الذي يوفر العيش كل يوم. والذين يعملون في الفرن كلهم من السجناء. وعندما تناولت قطعة من رغيف عيش السجن تحسرت علي مستوي العيش الذي اشتريه من الشارع كل يوم!
ولم نكن وحدنا في تلك الزيارة لسجن المرج.. بل كان معنا عدد من سيدات جمعيات العمل الخيري وعدد آخر من رجال الدين الاسلامي والمسيحي وعدد من أهالي السجناء الذين افرج عنهم. وكان أغرب من لقيته في زيارتي لسجن المرج »حمو دمو«! »وحمو.. دمو« سجين سابق اتهم في قضية قتل، وحكم عليه بالمؤبد ثم افرج عنه بعد انقضاء ثلاثة أرباعالعقوبة لحسن السير والسلوك. ووقف »حمو.. دمو« الذي كان قد جاء الي السجن لزيارة أحد أصدقائه من نزلاء السجن وقف يشيد بالمعاملة الانسانية التي تلقاها داخل السجن. لكن السجين السابق »حمو.. دمو« الذي فاجأ الجميع باعترافه بانه تمكن من أن يكسب حوالي 041 ألف جنيه من العمل داخل السجون المختلفة التي عاش فيها وقف »حمو.. دمو« يثير مشكلة قديمة جديدة، وهي نظرة المجتمع القاسية للسجين المفرج عنه، وعدم مساعدته علي الانضمام للمجتمع. قال »حمو.. دمو« انه كلما حاول بداية عمل صغير شريف، يفاجأ بأن المجتمع يريد منه العودة الي السجن، وكلما اشتري بضاعة وافترش رصيفا ليأكل منها لقمة عيش شريفة، تأتي شرطة المرافق لتحمله مع بضاعته! وكل ما يريده »حمو.. دمو« هو ترخيص كشك سجائر في منطقة العامرية. والترخيص يملكه محافظ الاسكندرية اللواء عادل لبيب الانسان الشجاع. واللهم قد بلغت.. اللهم فاشهد!
في نهاية زيارة سجن المرج.. سألت حافظ أبوسعده وزير حقوق الانسان: ماذا ستقول في بيان حقوق الانسان الذي ستصدره غدا؟ قال بلا تردد: لن أصدر بيانا.. سأرسل برقية شكر إلي حبيب العادلي وزير الداخلية!