كانت خاطرتي منذ سنوات "علي الهامش أجدك أكثر" تعبيرًا مني عن حرية ما لا يبدو أساسيا في النصوص، وأقصد بالنصوص هنا كل نص شفاهي أو حركي، أدبي أو مرتجل، رسمي أو هزلي، فكثير من النصوص بدت لي شديدة الضيق والرسمية بل كثيرة الإزعاج والزيف، بينما تجلت لي الهوامش أكثر رحابة وحرية وصدق وبساطة. ولم أكن أتوقع أن تتصادف خاطرة صغيرة كتبتها منذ سنوات مع عمل أدبي كامل، حتي قابلت رواية "موسم الكبك" للصحفي والروائي أحمد إبراهيم الشريف لأجدها رواية تحمل بين الحين والآخر إحالات هامشية جديدة، بل "كثيرة" المعني والدلالة والاستخدام. والأكثر غرابة ظهر لي حينما خطرت لي فكرة قراءة الرواية قراءة "هامشية"؛ أقصد: قراءة تعني بهوامش العمل، الذي وجدت فيها رحابة لغة وتصويراً وجديد إبداع. تأخذ الهوامش أرقامًا من 1 إلي 145 في نهاية الرواية وقد تكفي رحابتها لأن تكون رواية جديدة علي "هامش" الرواية. يدخلك هامشها الأول إلي ذلك العالم البسيط الذي هو أيضًا عالم علي هامش عالمنا حيث "المعدمون يسكنون شقوق حيطانهم، يترقبون الشمس فطورهم الدائم، ويعقدون أكفهم حتي لا يسألوا الناس شيئا، لهم تصاريفهم في الحر والبرد، وللميسورين تصاريف أخري مخالفة.هامش1" هكذا أري بلاغة القول والتصوير حين يدخلك الهامش الروائي إلي عوالم تعيش هي الآخري علي هامش الحياة. وتنقلك الهوامش نفسها إلي حياة أبطال العمل وإلي فلسفة حياتهم وبيئتهم، بل وإلي تحليل اجتماعي لأمراض مثل هذه المجتمعات حيث "لا يلتفت الناس كثيرًا إلي الفاعل.. يتعلقون بالفاعلية.. وأنا سقطت في هذا الفخ؛ فما لدي من الحكايات يخلو من ذلك الفاعل الذي ربما يكون قد نجا بفعلته.. وربما لا ينجو منها.. لكن ظلت القرية لفترات طويلة لم يحدث بها شيء مشابه. هامش 9". "الفاعلية" النقطة ذاتها التي تدور حولها الهوامش وتستهلكها مجتمعاتنا وتنتجها أيضًا. في موسم أصبح بالأهمية لأن يعرف معناه في رحابة الهامش ويصبح مرتكزا جيدا لاسم عمل روائي "موسم الكبك: موسم صيد لا يشبه مواسم الصيد الأخري.. موسم ليلي يبدأ قبيل غروب الشمس ولا ينتهي طالما كان الليل قائمًا.. يأخذ النيل عرضًا من الشرق للغرب.. شباكه عيونها واسعة تشفق علي السمكات الصغيرات التي تتفلت منها مكتفية بالليل القاسي.. صيادوه يبادرون الليل بصدورهم العارية.. وشايهم الثقيل المر.. وسجائرهم القليلة.. هامش18" بتفاصيل كبيرة وصغيرة وتفرد هؤلاء الذين يقطنون هوامش الحياة وبما يعرفون ولا نعرف يصبح "موسم الكبك" هامشيًا ومجهولا بما يكفي بأن يُختار اسما وسردا. أما القصة التي شغلت تلك القرية وجعل من هامش وجودها مجالا للحكي فكانت حادثًا لم يعرف فاعله "لم يعرف أحد من أطلق الرصاص أولا.. حتي بعد أن هدأت الدنيا وانفضت عبارتها.. وأصبح الحكي رجعًا لصدي ما حدث.. لم يقطع أحد بمن أطلق الرصاص أولا، ربما كان حمودة السيد فهو أول من انتهكت المركب حرمته ومزقت شباك كبكه.. وربما فرج محمدين لأنه يحتفظ بالفرد دائمًا بجانبه وعلي أهبة الاستعداد.. وربما غريب عبد الله لأنه أهوج مندفع.. لا يتوقع أحد رد فعله.. بين الهجوم والمدح لمن قد فعل أولا يضيع اسمه ولا يقطع أحد به. هامش 22" هذا الهامش الرحب الذي يلخص الحدث بل ويحصر أمامك أسماء الفاعلين ينفي أيضًا عن ذهنك أو يكون الفاعل بالأهمية التي تدور حوله الكتابة. تشعل تفكيرك في هوامش أكثر رحابة حيث ما يخفي وراء هذا الحدث وما تحويه تلك الشخصيات. استجابت رحابة الهامش لرسم ملامح شخصيات الرواية، بل ورسم تفاصيل حال عملهم وهيئتهم فيه ف"ملابسهم بسيطة ومعظمهم عاري الصدر، وبعضهم له عضلات ضامرة علي الرغم من قوة أذرعهم بسبب التجديف.. وكلهم شعره جاف وقصير.. قد توجد عمامة صغيرة بسيطة شوهتها الحركة فسقطت علي صدورهم مجرد شال خفيف أبيض، رمادي، فاقد اللون، شواربهم كثة تقريبًا.. كلهم سمر أو سمر جدًا ونحيفون. هامش24" ستصدق تماما أمام تلك الهوامش أن عالمًا بتفاصيله وحكيه يرتسم أمامك بصوره المتحركة. يتسع الهامش لمزيد لغة فلا يبخل بالإفصاح عن تمكن الكاتب من لغته حين يسرد بعض تعابيره وتصويراته الشعرية بها، وما أكثرها وأرحبها؛ كقوله: "للملوك سمات متناقضة بين البطش والحنو.. والليل والنهار ملكان يلبسان التناقض ويعايشانه.... هامش39" وأقواله: "فهو دائمًا ما يضاجع الأرض في هذه العتمة.. يهب لها الصمت المفزع.. وتهب له الندي في الصباح.. حصيلة ليلة ضجت بالغرام... هامش42" وتفسر هوامشه تلك الحالة الهامشية التي اختارها حيث أنه لربما لم يستطرد حين ضعفه أمام الحكي وقسوة حياة المحكي عنهم، واختار الهوامش حيث حرية البعد عن الشكل والإطار والقيد؛ يقول "أول ما نقسو يكون علي اللغة.. فبين الرضا والغضب وبين النفور والقبول نلجأ إلي اللغة نسكنها في قوتنا.. ونختار كلمات قوية معبرة ونسطرد.. وفي لحظات الضعف نقتصد بشدة فتنقص الحروف وتتآكل أطرافها.. ونلتهمها.. وحين تقسو الحياة.. نقسو علي اللغة ونلجأ إلي الإيماءات.. هامش48 " إن كنت تبحث عما وراء الأحداث وعلتها فإن هوامش الرواية تضع لك المقصد والحكمة أمامك، وتعرفك مفاهيمها؛ ربما لأن كاتبها أراد للقارئ معايشة أناس لا نعرف عنهم شيئًا؛ لا وضع الرواية مقام أساطير الأماكن المجهولة حيث الحكي من أجل استنباط الحكمة. يرصد مبغي حكمته أمامك بسهولة بتعريفاته وتشبيهاته؛ فيقول: "النقطة الأولي للتيه.. عندما تقف وحيدًا علي رأس الأشياء المتنازعة.. فكل الإشارات التي وضعها الله علي ضفتي الطريق لا تصل بك إلي شيء.. كل الطرق تتحول إلي أفران تحرق الذي داخلك.. ويظل هذا الإحساس مسيطرا عليك.. حتي في حال الوصول تجد نفسك قلقًا قد ضاع منك شيء لا تعرفه.. هامش59" ويسمح الهامش بأن يكون المخاطَب أنت بشكل مباشر؛ ف"القديم.. أنت الذي ترسم دائرة تجلس وسطها وتجعل لها مخرجًا واحدًا.. ثم تغمض عينيك عنها وتدور وتدور حول نفسك.. ثم تحاول أن تخرج من المخرج الصحيح.. وأن تسرب نفسك داخل ذكرياتك.. وترتدي ملابس الطفل الذي يخرج من جانبك كل صباح ويسير.. ويسير.. ويسير.. هامش60" ينسحب الهامش ليتحدث عن ماضٍ أزّم شخصيات العمل؛ فيعطي لك ما يعطيه الصندوق الأسود لتعرف ما قبل الحدث، وتدخل إلي مخيلة وذكريات شخصياته "بينما هي تغمض عينيها وتتذكره في أول ليلة بعد أن أغلقوا الباب عليها.. بكت تريد أمها.. وألقي هو سيجارته في غضب وأمسكها من شعرها وسحب عصاه الخيزرانية الصغيرة وقربها منه ونظر في عينيها حتي أرعبها.. وغمغم بما لا تسمع أو لا تعي وظل قابضًا علي منبت شعرها حتي سكتت من الألم.. ثم شدها ناحيته أكثر.. فأغمضت عينيها حتي اندفع الألم في داخلها.. فصرخت وصرخت ولم تر شيئًا.. بعد ذلك أصبح هو من يغمض عينيه.. هامش62" تسرد لك الهوامش تفاصيلا أكثر عن دواخل الشخصيات وتعطي بين يديك معجمًا كان هامشًا علي اللغة لا يُستخدم إلا في هذا المكان خاصة. تتيقن أن موسم الكبك بذاته وحادث الرصاص رغم جلله ليس كل ما يشغل الكاتب. ورغم رتابة حياة هؤلاء وهامشهم المتكرر إلا أن الكاتب وبنوع من دائرية الحدث يعيد إليك ما حدث، ويضع بين يديك إشارة لربما تستطيع أن تصبح من المبصرين ليلتقط رغم الاعتياد والرتابة ما يجعل من حياتنا الهامشية حدثًا حين تتصرف شخصيات عالمه بغير عاداتها؛ يقول: "اليوم المشهود تكون له علامات وإشارات منذ الصباح لا يلتفت إليها إلا المبصرون.. كأن تشرق الشمس مثلا بزاوية مختلفة ليس من الشرق تمامًا.. أو يلقي طفل بحجر علي قارب محمدين فينتبه فرج ويعاتب الطفل.. أو تجد بلحة تحت نخلة نافع قد تركتها لك العفاريت.. أو تشاهد عامر يسب رجلا.. أو يلقي عوض معبد السلام علي الجالسين.. أو أن يلتقي محمد عمران بأخيه فيسأله عن أحواله.. أو تمر ابنة حياة ولا تلتفت ناحية شجر السنط.. هامش137". هكذا وجدت في رواية "موسم الكبك" انسجامًا بين ما تطرحه الرواية من عالم لم أكن أعرفه بمفرداته وتفصيلاته، وبين إدراج الهوامش التي تحمل في مجملها تفصيلا وإشارات لما يعبر أمامنا دون التفات. أنتظر المزيد من إبداع عين قادرة علي التقاط التفاصيل وقلم يحمل معجمًا خاصًا ومتنوعًا استطاع دمج مشاهده في لغة شعرية بليغة.