المجلس الأعلي للثقافة هو أول من بادر من هيئات وزارة الثقافة باحياء الذكري العاشرة لرحيل أديب الحارة المصرية وشيخها الأكبر: نجيب محفوظ، أقيمت الاحتفالية في القاعة الرئيسية للمجلس يوم الثلاثاء الماضي وأدارها الناقد الدكتور حسين حمودة. قال حمودة في البداية: "أشكر الحضور في هذا اللقاء الذي يستعيد من هو مستعاد بيننا ويستحضر من هو حاضر دائماً. لا أدري إن كان نجيب محفوظ هو من رحل أم نحن الذين ارتحلنا عن أدبه الخالد. يستحق نجيب محفوظ أن يستعاد ويستحضر دائماً وذلك لما قدمه للإنسانية جمعاء". تحدثت الدكتورة أمل الصبان، أمين عام المجلس الأعلي للثقافة، عن بقاء نجيب محفوظ بيننا وفي وجداننا وكذلك الفنان لا يموت وإنما تخلده أعماله، وأضافت الصبان: "كتب نجيب محفوظ حوالي 50 رواية و250 قصة قصيرة وعشرات السيناريوهات للسينما والمسرح. إن نجيب محفوظ هو الذي استطاع أن يرسم بالورقة والقلم صورة للمجتمع المصري واستطاع أن يجذب شاشة السينما إلي أعماله ويقدم ذلك من مشاهد وزوايا مختلفة تفوقت علي تلك المشاهد التي صنعها المخرجون في أفلامهم، فكل شخصية من شخصياته كانت تنبض بالحياة علي الورق قبل بعثها علي شاشات السينما. جسد محفوظ العديد من الشخصيات متأثراً ببيئته الشعبية البسيطة وعمقها الأصيل، كما أود أن أتحدث عن المرأة عند نجيب محفوظ، وذلك بوصفي امرأة، فقد استطاع نجيب محفوظ بعبقريته أن يوظف المرأة في كل أعماله وحملها رسائله للقراء فالمرأة عنده إنسان عظيم يحمل التاريخ والجغرافيا والانتصارات والانكسارات والأمن والثورات التي عاشتها مصر، فمن ينسي حدوتة الست أمينة في الثلاثية، وجليلة في حديث الصباح والمساء، وحميدة في زقاق المدق، ونفيسة في بداية ونهاية، وزهرة في ميرامار، ونور في اللص والكلاب. أريد في ختام كلامي أن أشدد علي دور الترجمة في حصول نجيب محفوظ علي جائزة نوبل، فقد مكنت العالم الخارجي من قراءة رواياته والاطلاع علي أدبه بشكل كافٍ، وهذا لم يحدث مع غيره من أدبائنا، وإذا امتلكنا حركة ترجمة واسعة لما أبدع وأنتج الكثير من أدبائنا لصار لدينا أكثر من أديب حاصل علي جائزة نوبل. الدكتور صلاح فضل قال في مستهل كلامه: "نحتفي اليوم بالذكري المتجددة والعاطرة لمؤسس الرواية العربية وعلامتها الأولي عالمياً: نجيب محفوظ. أحسب أن السبق الأول لمحفوظ، أنه في نهاية الثلث الأول من القرن الماضي كان قد سبق شوقي بتأسيس خطاب النهضة المصرية التي قادت النهضة العربية واعتمد هذا الخطاب علي مكتشفات العلم الحديث وعلي إزاحة الستار عن وجه الإنجاز العظيم للحضارة المصرية القديمة بفك طلاسمها وقراءة منجزاتها العظمي المعنوية، بعد أن كان العالم يشهد منجزاتنا المادية ولا يستطيع لها تفسيراً. كان محفوظ يريد أن يكون روائياً تاريخياً لكنه سرعان ما انزلق إلي الحياة المعاصرة."وأضاف فضل: "استطاع محفوظ أن يضع أساس الشخصية المصرية الممتدة في علاقتها التي لا تقف عند حدود المرحلة العربية الإسلامية ولا حدود المرحلة الهيلينية الإغريقية، وإنما تمتد إلي الجذر الأول للتاريخ، فأسس بذلك فلسفة النهضة المصرية وحفر بعمق لاكتشاف الشخصية ثم كانت مصر الجديدة هي التي قادته إلي واقع منتصف القرن في كتاباته. استوعب محفوظ أصول الرواية الحديثة في الأدب الغربي ووضع صلة عربية لها، فأسس شكل الرواية الكامل بما لم يفعله أحد من قبله، وتمثل هذا الشكل في أن يصب الواقع المحلي البحت الصميم الذي يعايشه ويعاينه وينبض في عروقه في إطار إقليمي متقدم لا يتجرع بتجارب الماضي ولا يتمسح بما سبقه وإنما بأقوي وأكمل وأنضج شكل روائي وجده قبيل منتصف القرن الماضي. لم يتلعثم ولم يتردد وتجاوز التجارب السابقة وصاغ تجربته بالشكل الذي انتهي إليه، فلم يغرق في أوهام الرومانسية التي غرق فيها أصحابه وتغمس بدم الواقع الجديد في القاهرة الجديدة، فكانت "الثلاثية"التي وضعته في الصف الأول من الروائيين العرب وكرسته باعتباره مؤسس الشكل الروائي الجديد، ثم جاءت القفزة الثانية والتي نتذكرها جميعاً في مغامرته العظمي بعقل ليبرالي منفتح ومعرفة إنسانية عميقة وخبرة وجدانية عريقة، جعلته يقفز -بعد تريث طويل- إلي مغامرته الكبري "أولاد حارتنا" التي تصور قصة الأديان في مهدها من منظور صناع هذه الأديان في المنطقة العربية، ثم أكمل بالحرافيش فأتقن صناعة الأساطير، ثم جاءت مرحلة التجريب المستمر باستخدام الرموز، التي يعرفها الجميع". الأديب يوسف القعيد تحدث عن جوانب تخص تكريم نجيب محفوظ بعد وفاته لما قدم وأبدع، فأشار إلي أن هذا هو الاحتفال الوحيد الذي تم بمناسبة مرور عشر سنوات علي رحيل نجيب محفوظ في حين لم تلتفت الهيئات الثقافية الأخري لتقديم أي شيء يحيي ذكري الرجل الذي حصل علي جائزة نوبل وشرف مصر والعرب، وأضاف القعيد: "أريد أن أتحدث عن الجريمة التي ارتكبت في حق نجيب محفوظ علي مدي عشر سنوات وهي التجاهل التام له ولتكريمه. في جنازة نجيب محفوظ عام 2006 اتخذ فاروق حسني، وزير الثقافة وقتها، قراراً بإنشاء متحف نجيب محفوظ ومنذ ذلك التاريخ لم يحدث شيء ولا أريد أن أثقل عليكم بتفاصيل كثيرة أدت في النهاية إلي تعثر الموضوع وعدم إقامة المتحف وأظن أنها مستمرة ولن تحل اليوم. أتحدث أيضاً عن ضرورة أن يكون لنجيب محفوظ رواية يدرسها الطلاب في المدارس، هذا الأمر الذي رفضته الوزارات المتعاقبة وحجتها في ذلك أن روايات محفوظ تنطوي علي خلاعة ومشاهد عري ورقص لا ينبغي للتلاميذ أن يدرسوها، وهو ما لا أفهمه ولا أتقبله، وحتي عندما عرضنا أن يدرس التلاميذ رواياته التاريخية التي تخلو مما يخيفهم قاموا بعمل مشين ولخصوا إحدي رواياته بطريقة تجعل القاريء ينفر منها ولا يعود إلي قراءة محفوظ مجدداً". الدكتور يحيي الرخاوي تحدث عن علاقته بنجيب محفوظ خاصة بعد عملية الاغتيال التي تعرض لها عام 1995 وكيف أنه نصحه بضرورة الكتابة اليومية كنوع من التمرين ليده التي تأثر عصبها بشكل كبير، وقد أنجز محفوظ 1050 صفحة علي مدي عدة كراسات احتفظ بها الرخاوي ثم قدمها بعد وفاة محفوظ إلي الدكتور جابر عصفور كأمانة يجب الاحتفاظ بها وكنز من كنوز محفوظ، وتلا الرخاوي بعضاً من هذه الأوراق التي احتوت علي كتابات لا علاقة لبعضها بالبعض الآخر فهناك آيات قرآنية وأحاديث نبوية وذكر لبناته وأدعية لنفسه، فقد كان يكتب نجيب محفوظ دون أن يعلم أن هناك من سيطلع علي هذه الكراسات. الدكتورة فريدة النقاش قالت: "لقد التف محبو نجيب محفوظ حوله بعد حصوله علي جائزة نوبل وأحاطوه بهالة من القداسة مما أعجز الكثير من نقاده عن انتقاده وتحليل ما يكتب. لقد تشبع وجدان نجيب محفوظ بالنص القرآني وذلك من صغره فنشأ في أسرة متدينة بالقرب من منطقة دينية بها الجامع الأزهر ومسجد الحسين. دخل محفوظ إلي هذه المنطقة بشجاعة وقوة معلناً عن هذا الدخول في روايته المثيرة للجدل "أولاد حارتنا" التي أشارت إليها وثيقة جائزة نوبل. استلهم محفوظ حياة الأنبياء الثلاثة وذلك بعدما عرض لقصة آدم، ثم قدم العلم الحديث باعتباره نبياً جديداً، وعلي ما أظن فقد كان يتوقع ويعلم علم اليقين طبيعة رد الفعل الذي ستحدثه الرواية في العالم العربي وخارجه، فرأي فيها نقاد عالميون إيذاناً بتحول النص الديني إلي شكل أدبي يستلهمه المبدعون، وهو ما فعله نجيب محفوظ بشكل أوضح في أحلام فترة النقاهة".