استمتعتُ بقراءة الروايتين اللتين كتبهما عمرو كمال حمودة: "السمسار " دار الثقافة الجديدة 2016، و"فيوليت والبكباشي " دار هفن 2010 .وعلي الرغم من أن الأعمال الفنية التي تعتمد علي الوقائع السياسية المباشرة، وتستهدف التماهي مع هذا الواقع، لا تجذبني عادة، ومن النادر أن يكون رأيي فيها إيجابيا، إلا أن هذين العملين تحديدا أمر آخر. الأعمال الفنية ذات العلاقة المباشرة بالواقع السياسي، أي تلك التي تتناول الفساد واستغلال النفوذ والانقلابات والأحداث السياسية، هي سيئة السمعة عموما، وتستحق ذلك في حقيقة الأمر، ليس فقط لأنها تتوجه للقارئ السريع وتبحث عن أكبر كمية ممكنة من النسخ المبيعة، بل أيضا لأنها في العادة تبحث عن التوابل والمشهيات بكل أنواعها، الجنسية والسياسية والفضائحية، غير أن كلا العملين، البكباشي والسمسار يكادان ينجوان من كل تلك الفخاخ الكامنة. ففي "البكباشي" علي سبيل المثال، يمكن للواحد أن يكتشف بسهولة ملامح شخصية لكثير من ضباط يوليو، وبعضهم يذكرهم الكاتب بالاسم ويلعبون أدوارا في الرواية، هي نفس أدوارهم في الواقع مثل جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، كما يمكن أن تتذكر شخصيات نسائية محددة وواقعية، ومع ذلك ينجح الكاتب في صياغة عمل متماسك ومترامي الأطراف، ويضم شخصيات قوية تتحرك بعنفوان. من جانب آخر، ليست "التقليدية " شرا ينبغي تجنبه، ليست نقيصة، و"الحبكة " و"الحكاية" أيضا ليسا كفرا في حد ذاتهما، بل أظن أنه يجب النظر إليها - التقليدية باعتبارها اختيارا من الكاتب، والمهم هو نجاح الكاتب في كتابة عمل يخطف الواحد مثل هذين العملين القصيرين المكتنزين علي الرغم من بساطتهما المتناهية. وإذا كانت رواية "فيوليت والبكباشي" تغطي مساحة ممتدة من التمهيد لانقلاب الضباط الأحرار، من خلال أحد ضباط الصف الثاني في التنظيم، وحتي نزول طائرة السادات في مطار بن جوريون، أي قرابة ثلاثين عاما ، فإن أحد إنجازات الكاتب، سواء في البكباشي أو السمسار، وإن كانت الأخيرة أقل، هو التحرر من الواقع والاتكاء عليه في الوقت نفسه، هو الاستبعاد المحسوب لكثير من الوقائع والأحداث، بشرط أن تفرض ظلالها ورائحتها ووجودها، أي أنها موجودة وليست موجودة أيضا. وفي السمسار يقطع منتصر رحلة مخيفة وطويلة منذ ستينات القرن الماضي وحتي هروب بن علي بعد ثورة تونس، يصعد من القاع، ويمتطيه الجميع ويمتطي هو من يتيسر له، ويعمل في كل شيئ، بل وأخطرها جميعا وهو تجارة السلاح .يعرّي الكاتب المتنفذين من رجال الدولة بل ونسائها، ويقدم أولئك الذين أكلوا لحم هذا البلد وتاجروا في كل شيئ, وفي الوقت نفسه يسعي الكاتب جاهدا لعدم التورط ويقترب من الحياد الفني، ولا يقدم إدانة مباشرة. وهنا أيضا، مثل البكباشي، يمكن للقارئ أن يكتشف شخصيات واقعية تلعب نفس الدور في الرواية مثل شخصية حسين سالم، وعندما علمت مما كتبته الصديقة عبلة الرويني أن سالم خال الكاتب أدركت إلي أي حد استفاد الكاتب من الواقع، وإلي أي حد أيضا تحرر منه.