الإسكان: جار تنفيذ 64 برجا سكنيا بها 3068 وحدة.. و310 فيلات بتجمع صوارى في غرب كارفور بالإسكندرية    الانتفاضة الطلابية بأمريكا.. ماذا يحدث في حرم جامعة كاليفورنيا؟    دور العرض ترفع أحدث أفلام بيومي فؤاد من شاشاتها.. تعرف على السبب    بحضور السيسي.. تعرف على مكان احتفالية عيد العمال اليوم    سفير روسيا لدى واشنطن: اتهامات أمريكا لروسيا باستخدام أسلحة كيميائية في أوكرانيا بغيضة    طقس أسيوط اليوم.. جو ربيعي وانخفاض درجات الحرارة لمدة يومين    ارتفاع في أسعار الذهب بكفر الشيخ.. عيار 21 بكام؟    ماذا يستفيد جيبك ومستوى معيشتك من مبادرة «ابدأ»؟ توطين الصناعات وتخفيض فاتورة الاستيراد بالعملة الصعبة 50% وفرص عمل لملايين    قوات الجيش الإسرائيلي تقتحم مخيم عايدة في بيت لحم وقرية بدرس غربي رام الله ومخيم شعفاط في القدس    "الحرب النووية" سيناريو الدمار الشامل في 72 دقيقة    ملخص عمليات حزب الله ضد الجيش الإسرائيلي يوم الأربعاء    إجراء عاجل من الفلبين ضد بكين بعد اشتعال التوترات في بحر الصين الجنوبي    رامي ربيعة يهنئ أحمد حسن بمناسبة عيد ميلاده| شاهد    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الخميس 2 مايو 2024    حملة علاج الادمان: 20 الف تقدموا للعلاج بعد الاعلان    بحضور السيسي، تعرف على مكان احتفالية عيد العمال اليوم    نسخة واقعية من منزل فيلم الأنيميشن UP متاحًا للإيجار (صور)    هل يستجيب الله دعاء العاصي؟ أمين الإفتاء يجيب    مشروع انتاج خبز أبيض صحي بتمويل حكومي بريطاني    تعرف على أحداث الحلقتين الرابعة والخامسة من «البيت بيتي 2»    الصحة: لم نرصد أي إصابة بجلطات من 14 مليون جرعة للقاح أسترازينيكا في مصر    الصحة: مصر أول دولة في العالم تقضي على فيروس سي.. ونفذنا 1024 مشروعا منذ 2014    ضبط عاطل وأخصائى تمريض تخصص في تقليد الأختام وتزوير التقرير الطبى بسوهاج    تشيلسي وتوتنهام اليوم فى مباراة من العيار الثقيل بالدوري الإنجليزي.. الموعد والتشكيل المتوقع    خبير تحكيمي يكشف مدى صحة ركلة جزاء الإسماعيلي أمام الأهلي    بتهمة التحريض على الفسق والفجور.. القبض على الإعلامية "حليمة بولند" في الكويت    تأهل الهلال والنصر يصنع حدثًا فريدًا في السوبر السعودي    الثاني خلال ساعات، زلزال جديد يضرب سعر الذهب بعد تثبيت المركزي الأمريكي للفائدة    متى تصبح العمليات العسكرية جرائم حرب؟.. خبير قانوني يجيب    بتهمة التحريض على الفسق والفجور.. القبض على حليمة بولند وترحيلها للسجن    «البنتاجون»: أوستن أكد لنظيره الإسرائيلي ضرورة ضمان تدفق المساعدات إلى غزة    أمطار تاريخية وسيول تضرب القصيم والأرصاد السعودية تحذر (فيديو)    تامر حسني يوجه رسالة لبسمة بوسيل بعد الإعلان عن اغنيتها الجديدة.. ماذا قال؟    وليد صلاح الدين يرشح لاعبًا مفاجأة ل الأهلي    هاجر الشرنوبي تُحيي ذكرى ميلاد والدها وتوجه له رسالة مؤثرة.. ماذا قالت؟    عميد أصول الدين: المؤمن لا يكون عاطلا عن العمل    كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي في الموارد البشرية؟    لاعب الزمالك السابق: إمام عاشور يشبه حازم إمام ويستطيع أن يصبح الأفضل في إفريقيا    عاطل ينهي حياته شنقًا لمروره بأزمة نفسية في المنيرة الغربية    هذه وصفات طريقة عمل كيكة البراوني    أهمية ممارسة الرياضة في فصل الصيف وخلال الأجواء الحارة    حكم دفع الزكاة لشراء أدوية للمرضى الفقراء    مظهر شاهين: تقبيل حسام موافي يد "أبوالعنين" لا يتعارض مع الشرع    كوكولا مصر ترفع أسعار شويبس في الأسواق، قائمة بالأسعار الجديدة وموعد التطبيق    بسام الشماع: لا توجد لعنة للفراعنة ولا قوى خارقة تحمي المقابر الفرعونية    الأنبا باخوم يترأس صلاة ليلة خميس العهد من البصخة المقدسه بالعبور    برج الميزان .. حظك اليوم الخميس 2 مايو 2024 : تجاهل السلبيات    الخطيب يطالب خالد بيبو بتغليظ عقوبة افشة .. فماذا حدث ؟    يوسف الحسيني : الرئيس السيسي وضع سيناء على خريطة التنمية    أخبار التوك شو|"القبائل العربية" يختار السيسي رئيسًا فخريًا للاتحاد.. مصطفى بكري للرئيس السيسي: دمت لنا قائدا جسورا مدافعا عن الوطن والأمة    حيثيات الحكم بالسجن المشدد 5 سنوات على فرد أمن شرع فى قتل مديره: اعتقد أنه سبب فى فصله من العمل    انخفاض جديد في عز.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الخميس 2 مايو بالمصانع والأسواق    بعد أيام قليلة.. موعد إجازة شم النسيم لعام 2024 وأصل الاحتفال به    مفاجأة للموظفين.. عدد أيام إجازة شم النسيم في مصر بعد قرار ترحيل موعد عيد العمال    بقرار جمهوري.. تعيين الدكتورة نجلاء الأشرف عميدا لكلية التربية النوعية    النيابة تستعجل تحريات واقعة إشعال شخص النيران بنفسه بسبب الميراث في الإسكندرية    أكاديمية الأزهر وكلية الدعوة بالقاهرة تخرجان دفعة جديدة من دورة "إعداد الداعية المعاصر"    بروسيا دورتموند يقتنص فوزا صعبا أمام باريس سان جيرمان في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الملف القضائي لأديب مصر
حضرة المتهم نجيب محفوظ
نشر في أخبار الحوادث يوم 03 - 09 - 2016

هذه ليست مجرد مذكرة قانونية عادية كتلك التي‮ ‬يسودها المحامون كل‮ ‬يوم في ملايين القضايا التي تشهدها المحاكم المصرية،‮ ‬بل هي‮ -‬بتواضع شديد‮- ‬وثيقة قانونية أدبية فريدة‮ -‬تستحق أن تنشر كاملة،‮ ‬لما تحويه من تفاصيل ومعلومات وحجج وحكايات،‮ ‬تجعل منها وثيقة نادرة،‮ ‬ويزيد من أهميتها أن طرفا من أطرافها هو أديبنا النوبلي‮- ‬نسبة إلي الجائزة العالمية الأشهر‮- ‬نجيب محفوظ‮.‬
هذه المذكرة تعود إلي العام‮ ‬1998،‮ ‬وهو العام الذي شهد صيفه صدور مذكرات نجيب محفوظ التي كتبها ناقدنا الجليل رجاء النقاش،‮ ‬وأحدثت دويا شديدا،‮ ‬بما تتضمنه من آراء وذكريات ووقائع كان نجيب محفوظ‮ ‬يكشف عنها لأول مرة‮. ‬
المذكرات التي حملت عنوان‮ "‬نجيب محفوظ‮... ‬صفحات من مذكراته وأضواء جديدة علي أدبه وحياته‮".. ‬قوبلت بنوعين متباينين من ردود الأفعال‮.. ‬ففي حين احتفي بها العشاق المحفوظيون،‮ ‬واعتبروها شهادة صادقة وجريئة علي مشواره الأدبي والإنساني،‮ ‬فإنها في المقابل أثارت عاصفة من الغضب خاصة في أوساط الناصريين،‮ ‬الذين لم تعجبهم آراء محفوظ في الثورة وزعيمها،‮ ‬واعتبروا شهادته مجروحة بحكم ميوله الوفدية الطاغية التي عكرت نظرته للثورة وانجازاتها ونجاحاتها‮. ‬
وانضم إلي صفوف الغاضبين بعض من أسرة أديبنا الكبير،‮ ‬الذين ساءهم صراحته وجرأته واعترافاته الصادمة،‮ ‬وكان جزءا منها شخصيا‮ ‬يرتبط بعلاقته العائلية،‮ ‬ولم‮ ‬يكن الغضب مكتوما،‮ ‬بل تطور إلي دعوي قضائية أقامها المهندس محمود الكردي ابن شقيقة نجيب محفوظ،‮ ‬الذي فسر بعض العبارات الواردة في المذكرات تفسيرا‮ ‬غير بريء،‮ ‬واعتبر أن ما قاله في إحدي الوقائع التي رواها سبا وقذفا‮ ‬يستدعي جرجرة خاله إلي المحكمة لتأديبه وتهذيبه وإصلاحه‮!! ‬
وقال المهندس محمود الكردي في دعواه التي نظرتها محكمة جنح الدقي في القضية رقم‮ ‬12137‮ ‬لسنة‮ ‬1998‮ ‬إن ما ورد علي لسان خاله في صفحتي‮ ‬16‮ ‬و‮ ‬20‮ ‬من المذكرات هي عبارات سب وقذف تقع تحت طائلة القانون،‮ ‬لأنها خدشت سمعة عائلته وأساءت إليها،‮ ‬ولذلك فإنه‮ ‬يطالب بمعاقبة المتهم‮- ‬الذي هو نجيب محفوظ وناقل كلماته رجاء النقاش‮- ‬وإلزامهما بتعويض مؤقت قدره‮ ‬501‮ ‬جنيه مصري‮!! ‬أما ما اعتبره المهندس الكردي سبا وقذفا في حقه وخدشا لعائلته فهي حكاية حكاها خاله نجيب محفوظ،‮ ‬وكان‮ ‬يروي فيها واقعة حدثت‮ ‬يوم وفاة والدته،‮ ‬وألمح بما‮ ‬يشتهر عنه من حب للدعابة إلي‮ "‬سرقة أهلية‮" ‬وقعت في أعقاب هذا الرحيل،‮ ‬حيث جاء أولاد أخته إلي بيتها لتقبل العزاء،‮ ‬و"استولوا‮" ‬علي كثير من الصور والأوراق الشخصية ليحتفظوا بها‮. ‬وفي الواقعة الثانية كان أديبنا الشهير‮ ‬يعترف بالمصدر الذي أوحي إليه بأشهر شخصياته الدرامية،‮ ‬وهي شخصية‮ "‬سي السيد‮" ‬التي جسدها الفنان‮ ‬يحيي شاهين باقتدار بالغ‮ ‬في الثلاثية السينمائية‮ "‬بين القصرين،‮ ‬قصر الشوق،‮ ‬السكرية‮" ‬حيث أكد أن مصدر الشخصية اقتبسه من زوج شقيقته زينب،‮ ‬الذي هو والد المهندس محمود الكردي،‮ ‬إذ كان رجلا صعيديا من أصل كردي ويتميز بالغلظة والخشونة وسطوة الرأي‮. ‬في حين أن الوجه المقابل لشخصية‮ "‬سي السيد‮" ‬وهو حبه للفن والحياة،‮ ‬فقد اقتبسه محفوظ من والده هو‮. ‬
وتسببت الدعوي القضائية التي أقامها المهندس محمود الكردي في حرج بالغ‮ ‬لناقدنا الجليل رجاء النقاش،‮ ‬إذ اعتبر نفسه شريكا ومسئولا عن هذه الورطة التي وقع فيها نجيب محفوظ‮.. ‬وعليه فقد جنّد نفسه وحشد ثقافته وخبرته ومقدرته علي التحليل في مساعدة المحامي الذي تولي الدفاع عن محفوظ،‮ ‬وهو الدكتور أحمد السيد عوضين‮. ‬
وليس سرا أن أقول إن رجاء النقاش ساهم مساهمة فعالة في صياغة مذكرة الدفاع،‮ ‬فحولها إلي وثيقة أدبية بالغة الأهمية وإلي مقطوعة نثرية بالغة العذوبة‮... ‬نجح د.عوضين في توظيفها قانونيا،‮ ‬وكان لها بلا شك دور فعال في الحكم الذي أصدرته محكمة جنح الدقي برئاسة المستشار طارق حجازي ببراءة‮ ‬نجيب محفوظ والنقاش من تهمة السب والقذف ورفض الدعوي المدنية التي أقامها الكردي‮.‬
‮ ‬ومازلت أذكر الفرح الطفولي الذي عاشه ناقدنا الكبير بعد أن أصدرت المحكمة حكما بالبراءة في جلسة‮ ‬21‮ ‬مايو‮ ‬1999،‮ ‬فخلصته من إحساس مؤلم عاشه علي امتداد أكثر من عام،‮ ‬مع أنه لم‮ ‬يكن مسئولا عن آراء محفوظ‮.. ‬ولكنه الحب الجارف الذي‮ ‬يكنه لأديب نوبل،‮ ‬والذي جعله‮ ‬يعتبر نفسه شريكا في‮ "‬الجريمة‮"‬،‮ ‬بل كان علي استعداد لأن‮ ‬يتحملها وحده،‮ ‬وهو الذي أصر علي أن‮ ‬يعنون كتابا له‮ ‬يضم مقالاته النقدية التي كتبها عن أدب محفوظ ب‮ "‬في حب نجيب محفوظ‮".‬
ولنقرأ الآن هذه الوثيقة الأدبية القانونية الفريدة‮... ‬عسي أن تنتقل إليكم المتعة التي‮ ‬غمرتني وأنا اقرأ صفحاتها‮: ‬
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع‮ ‬
أقام المدعي بالحق المدني دعواه الماثلة عن طريق الادعاء المباشر بصحيفة دعوي تم إعلانها إلي المتهم بتاريخ‮ ‬
‮ ‬14/‬‮ ‬11/‬‮ ‬1998
اتهم فيها الكاتب المعروف الأستاذ‮/ ‬رجاء النقاش بأنه قذف في حقه‮.. ‬
وأوضح في صحيفة دعواه أن العبارات التي وردت تحديدا بالصفحتين‮ ‬16‮ ‬و‮ ‬20‮ ‬من الكتاب المعروف باسم‮ "‬نجيب محفوظ‮: ‬صفحات من مذكراته وأضواء جديدة علي أدبه وحياته‮" ‬تضمنت‮ "‬وقائع منسوبة كذبا وزورا إلي الطالب وباقي أفراد أسرة الكاتب نجيب محفوظ‮" ‬وأنه‮ "‬من حيث أن عبارات القذف المذكورة تقع تحت طائلة القانون‮" ‬فإن‮ "‬ما ارتكبه المعلن إليه الأول‮ ‬يشكل أركان جريمة القذف والسب وخدش سمعة العائلات‮".‬
وعلي ذلك،‮ ‬فالمدعي‮ ‬يطالب بمعاقبة المتهم وإلزامه بتعويض مؤقت مقداره‮ ‬501‮ ‬جنيه‮ "‬خمسمائة وواحد جنيه مصري‮". ‬
وهكذا بدأ السيد المدعي صحيفة دعواه بأن ما ورد في الكتاب‮ ‬يعتبر قذفا في حقه‮.. ‬ثم انتهي إلي إضافة جريمتين أخريين دون أن‮ ‬يوضح أسانيده في هذه الإضافة‮. ‬
والتهمة‮ -‬أو التهم‮- ‬التي ضمنها السيد المدعي بالحق المدني صحيفة دعواه لن تجد لها أصلا في الواقع،‮ ‬ولا سندا من القانون كما سوف نوضح ذلك تفصيلا بعد عرض وجيز لواقعات الدعوي‮. ‬
القسم الأول
وجيز واقعات الدعوي
1‮- ‬بتاريخ‮ ‬11/‬11/‬‮ ‬1998‮ ‬بعثت السيدة المدير العام لمركز الأهرام للنشر خطابا إلي الأستاذ الكبير نجيب محفوظ ذكر فيه الآتي‮: ‬
يسعد مركز الأهرام للترجمة والنشر‮- ‬كثيرا أن‮ ‬يقوم بواجبه في تكريم كاتبنا الكبير بالصورة التي تليق به،‮ ‬وتتفق مع مكانته المتفردة‮. ‬
وبعد تفكير طويل،‮ ‬توصلنا إلي أن أفضل طريقة لذلك هي إصدار كتاب‮ ‬يتضمن كلمة‮ "‬نجيب محفوظ للتاريخ والأجيال الحالية والمقبلة،‮ ‬والتي تعكس عصارة فكره وفلسفته وخبرته وتجربته كإنسان وأديب ومفكر‮.. ‬ورأينا أن الشكل الأمثل لذلك هو اختيار محاور ذكي ومتتبع لأعمال نجيب محفوظ ودارس لها،‮ ‬وله مكانته وقيمته،‮ ‬ليدير معه حوارا موسعا في كل شئ،‮ ‬علي نحو‮ ‬يكفل للقارئ إلماما بالشخصية الفنية لنجيب محفوظ والكشف عن كنوز فكره وخبرته،‮ ‬واخترنا لهذا الغرض الأستاذ رجاء النقاش،‮ ‬وفاتحناه في هذا الأمر،‮ ‬وسعد به‮. ‬
وقد أتبع أسلوب الحوار هذا الذي نقترحه في إصدار كتاب عن ماركيز بعد حصوله علي جائزة نوبل‮.‬
وإذ‮ ‬يدرك المركز أن هذا سيقتضي من أستاذنا الكبير وقتا وجهدا فإنه سيحرص علي التقدير المادي لذلك،‮ ‬وإن كان‮ ‬يعرف سلفا أن أي مقابل مادي سيقصر عن أن‮ ‬يوازي ما‮ ‬يستحقه نجيب محفوظ‮.‬
2‮- ‬وإذا وافق الأستاذ الكبير علي الفكرة المطروحة عليه،،‮ ‬وإذ مضي المشروع خطوات في سبيل التنفيذ،‮ ‬فقد بعث الأستاذ نجيب بالرسالة التالية إلي الأستاذة نوال المحلاوي‮ ‬يذكر فيها الآتي‮: ‬
الأستاذة نوال المحلاوي‮ ‬
المدير العام لقسم الترجمة والنشر
تحية طيبة وبعد‮: ‬
فإني أشكر لك اهتمامك ورعايتك،‮ ‬وأرجو أن‮ ‬يتم المشروع بفضلك،‮ ‬أما عن المكافأة فلا أري مناسبة للحديث عنها قبل إنجاز العمل‮.‬
ولك مني صادق التحية
المخلص نجيب محفوظ
‮ ‬23/‬‮ ‬4‮ / ‬1993
3‮- ‬ويحدثنا الأستاذ رجاء النقاش عن خطوات إعداد هذا‮ ‬
الكتاب فيذكر‮: ‬
وفي أول أغسطس سنة‮ ‬1990‮ ‬بدأت لقاءاتي مع نجيب محفوظ،‮ ‬وكنت أطرح عليه الأسئلة فيجيبني عنها بصبر شديد،‮ ‬ورحابه صدر كاملة،‮ ‬وتوضيح لكل استفسار من أي نوع،‮ ‬وكنا نلتقي في الصباح الباكر في حدود الساعة الثامنة،‮ ‬ونواصل هذا اللقاء ما يقرب من ثلاث ساعات،‮ ‬واستمرت هذه اللقاءات حتي أواخر عام‮ ‬1991،‮ ‬وكنت ألتقي مع نجيب محفوظ في هذه المواعيد أربعة أيام في الأسبوع،‮ ‬وأحيانا كنا نعيد الأسئلة ونعيد تسجيل الإجابات لمزيد من الدقة والوضوح،‮ ‬وأخيرا توافر لي من هذه التسجيلات ما يقرب من خمسين ساعة كاملة،‮ ‬وكانت لقاءاتنا تتم في مقهي صغير بميدان التحرير وسط القاهرة‮. ‬
ثم يكمل رواية أسلوب إعداد الكتاب فيقول‮: ‬
في هذا المقهي،‮ ‬أجريت أحاديثي التي سجلتها مع نجيب محفوظ والتي يضمها هذا الكتاب،‮ ‬وعندما انتهيت من هذه الأحاديث،‮ ‬وبدأت في نقلها إلي الورق والعمل علي ترتيبها وصياغتها بصورة مناسبة،‮ ‬وسيطر علي نفسي إحساس رهيب بالمسئولية،‮ ‬فكيف أتحمل أنا وحدي أمام الناس والتاريخ هذا العبء الكبير؟ كيف أنقل إلي الورق كل هذا الحشد من الأفكار والآراء الجريئة،‮ ‬بل والمثيرة أحيانا والتي سمعتها من نجيب محفوظ وهو يجيب أسئلتي الكثيرة‮.. ‬
ويمضي ليرسم صورة الأفكار التي ناوشته ثم ليقرر ما يأتي‮: ‬علي أنني في آخر الأمر عزمت علي تقديم أحاديث نجيب محفوظ كما سمعتها منه،‮ ‬مع تلخيص أسئلتي في مقدمة كل فصل من فصول الكتاب،‮ ‬بالإضافة إلي تلخيص آخر لمضمون كل فصل‮.. ‬وهذا هو الكتاب أقدمه،‮ ‬بالطريقة البسيطة التي‮ ‬غابت عني في البداية،‮ ‬ثم اقتنعت بها واهتديت إليها بعد صراع طويل مع نفسي‮. ‬
4‮- ‬وإذ ظهر الكتاب في الأسواق منتصف شهر يونيو‮ ‬1998.‬‮.. ‬فقد أحدث دويا كبيرا،‮ ‬وإذ تلقفته أيدي القراء في شوق،‮ ‬وأقبلوا عليه في اهتمام وحظي الكتاب من الصحافة ومن البرامج الثقافية في الإذاعة والتليفزيون باهتمام كبير،‮ ‬فكتبت عنه المقالات ودارت الحوارات،‮ ‬وألقيت الأحاديث وسجلت البرامج،‮ ‬بما أثبت أن الكتاب كان عملا رائدا،‮ ‬لأنه قدم للقارئ العربي صورة من حياة نجيب محفوظ وألقي أضواء جديدة علي أدبه‮. ‬
ولا ننكر أن بعض الآراء التي مست النواحي السياسية،‮ ‬قد أثارت الكثير من الجدل،‮ ‬والمناقشات،‮ ‬لما تضمنته من نقد صريح لبعض سياسات عهود مضت وإعلاء لبعضها الآخر،‮ ‬مما حرك الكثير من المياه الراكدة،‮ ‬وبعث الحياة حارة متدفقة فيما يجري من مناقشات تتناول أوضاع هذا الوطن الغالي علينا جميعا في ماضيه وحاضره،‮ ‬وتستشرف مستقبله الباسم إن شاء الله‮. ‬
غير أن الذي أجمع عليه كل من كتبوا وتحدثوا عن هذا الكتاب هو الإشادة بسلاسة العرض،‮ ‬وأمانة الكلمة،‮ ‬ودقة التعبير وعظمة المجهود الذي بذله الأستاذ رجاء النقاش في إعداد هذا الكتاب،‮ ‬وصياغة حواراته وتقديمه لقراء العربية عملا متميزا بما قدم من أراء،‮ ‬وبما روي من تاريخ،‮ ‬وبما رسم من صور صادقة من حياة كاتب مصر العظيم‮ : ‬نجيب محفوظ‮.‬
‮- ‬وإذا كانت هذه الدعوي قد أقيمت ضد الأستاذ رجاء النقاش بمناسبة صدور هذا الكتاب،‮ ‬فإننا نتشرف بأن نحضر وكلاء عنه،‮ ‬لنمثل بين يدي عدالة القضاء‮. ‬وإذا كنا نحضر من يصفه قانون الإجراءات الجنائية بأنه‮ " ‬المتهم‮" ‬فإن حضورنا رغم ذلك لن يكون حضورا عن متهم،‮ ‬بل هو حضور مع كاتب ناقد مبدع نحمد الظروف التي أتاحت لنا شرف تمثيله،‮ ‬والتحدث باسمه وعرض جانب من أفكاره وتجاربه في عالم النقد والأدب والإبداع‮.‬
القسم الثاني
دفع بعدم قبول الدعوي الجنائية لعدم انعقاد الخصومة بشأنها في خلال ثلاثة أشهر من واقعة النشر وعلم المدعي بها‮ :‬
‮ ‬ندفع بعدم قبول الدعوي الجنائية لعدم انعقاد الخصومة بشأنها بين المدعي بالحق المدني،‮ ‬وبين المدعي عليه‮ "‬المتهم‮" ‬خلال ثلاثة أشهر من واقعة النشر،‮ ‬وعلم المدعي بها،‮ ‬حيث إن الدعوي أقيمت عن طريق الادعاء المباشر ولم يلتزم المدعي صحيح حكم القانون علي النحو الذي نوضحه فيما يلي‮:‬
1‮- ‬جري نص المادة الثالثة من قانون الإجراءات الجنائية كالآتي‮:‬
لا تقبل الشكوي بعد ثلاثة أشهر من يوم علم المجني عليه بالجريمة ومرتكبها ما لم ينص القانون علي خلاف ذلك‮. ‬
2‮- ‬وقد جري قضاء النقض علي أنه‮: ‬يشترط لقبول الدعوي الجنائية شرطان‮: ‬
الأول‮: ‬أن تكون الخصومة الجنائية مقبولة،‮ ‬ويقتضي هذا الشرط أن يكون حق إقامة الدعوي الجنائية لم ينقض لسبب من أسباب الانقضاء كالتقادم أو الوفاة‮.‬
الثاني‮: ‬أن تكون الخصومة الجنائية منعقدة قانونا،‮ ‬وأن تستوفي شروطا صحتها كرابطة إجرائية يراجع نقض
26‮ / ‬12‮ / ‬1980‮ -‬مجموعة من الأحكام‮- ‬س19‮- ‬رقم‮ ‬148‮- ‬ص‮ ‬142.‬
3‮- ‬وهذا وقد تواتر الفقه علي أنه‮: ‬
يقتضي أن يستوفي المدعي بالحق المدني شروط تحريك الدعوي قانونا بواسطة التكليف حضورا،‮ ‬فإذا لم يعلن هذا التكليف لم تنعقد الخصومة وإذا كان الإعلان باطلا،‮ ‬أو تم التحريك بعد مضي ميعاد الشكوي،‮ ‬أو دون الطلب أو الإذن فيه،‮ ‬فإنه يترتب علي ذلك عدم قبول الدعوي الجنائية‮.‬
والخلاصة يجب أن تستوفي الدعوي الجنائية في شروط قبولها،‮ ‬وهو أمر تحتمه القواعد العامة‮ "‬يراجع أصول قانون الإجراءات الجنائية د.أحمد فتحي سرور‮- ‬طبعة‮ ‬69‮ ‬ص‮ ‬26‮ ‬بند‮ ‬217‮" ‬
‮- ‬ومما تواتر عليه الفقه أيضا‮: ‬
‮"‬والحكمة من اشتراط مدة قصيرة وعدم ترك المتهم تحت رحمة المجني عليه مدة طويلة قد تكون الشكوي خلالها وسيلة للتهديد أو الانتقام،وإذا مضت المدة المقدرة ولم تقدم الشكوي فالمفروض أن صاحبها قد تنازل عن تقديمها،‮ ‬ومرور المدة قرينة لدي القضاء الجنائي علي عدم وقوع الجريمة ولا تقبل إثبات العكس‮" "‬تراجع مبادئ الإجراءات الجنائية في القانون المصري د.رؤوف عبد المجيد‮- ‬الطبعة‮ ‬16‮ ‬سنة‮ ‬1985‮ ‬وما بعدها،‮ ‬وفي ذات المعني نقض‮ ‬6‮ / ‬4/‬‮ ‬1970‮ ‬وأحكام النقض‮ ‬21،‮ ‬131‮ ‬ص‮ ‬552‮ ‬مشار إليه في ذات المرجع‮". ‬
4‮- ‬وفي هذا الصدد نشير إلي ما استقر عليه قضاء محكمة النقض حيث قضت‮:‬
‮"‬متي كان الثابت أن إعلان المدعي عليه المطعون ضده بصحيفة الدعوي المباشرة لم يتم إلا بعد انقضاء مدة السقوط المنصوص عليها في المادة الثالثة من قانون الإجراءات الجنائية بالنسبة لجريمة السب موضوع المحاكمة التي تشملها تلك المادة،‮ ‬فإن الدعوي الجنائية تكون‮ ‬غير مقبولة،‮ ‬وبالتالي أيضا الدعوي المدنية التابعة لها المؤسسة علي الضرر الذي يدعي الطاعن إنه لحقه من الجريمة،‮ ‬والتزم الحكم المطعون فيه هذا النظر وقضي بعدم قبول الدعوي المدنية فانه يكون قد أصاب صحيح القانون‮" "‬طعن‮ ‬1721‮ ‬لسنة‮ ‬40‮ ‬ق جلسة
‮ ‬22/‬‮ ‬3‮ / ‬1971‮ ‬س22‮ ‬ص271،‮ ‬الطعن رقم‮ ‬220‮ ‬لسنة‮ ‬40‮ ‬ق جلسة‮ ‬6/‬‮ ‬4‮ / ‬1970‮ ‬ص21‮- ‬ص225‮". ‬
5‮- ‬وبإنزال هذه المبادئ علي الدعوي الماثلة،‮ ‬نجد أنها حقيقة بالحكم بعدم القبول لما يأتي‮: ‬
1‮- ‬الثابت من المستندات التي تنطوي عليها الحافظة المرفقة أن الكتاب تم نشره في‮ ‬غضون شهري مايو ويونيو‮ ‬1998.‬‮ ‬
2‮- ‬إنه صحبت صدوره حملة إعلانية ضخمة تعلن عنه وعن محتواه‮.‬
3‮- ‬إن جميع الصحف،‮ ‬والمجلات،‮ ‬راحت تتناوله بالنقد والتحليل والتعليق في مقالات مطولة‮. ‬
4‮- ‬إن ذلك كله إذ يلفت نظر القراء العاديين،‮ ‬فإنه أوجب للفت نظر أفراد أسرته،‮ ‬وعشيرته المقربين‮. ‬
5‮- ‬أن المدعي ذاته لم ينكر ذلك،‮ ‬بل أقر به ضمنا حيث إنه استهل صحيفة دعواه بقوله‮: ‬
فوجئ الطالب بكتاب يباع مع الباعة وفي المكتبات تحت اسم‮ "‬كتاب نجيب محفوظ‮... ‬صفحات من مذكراته وأضواء جديدة علي أدبه وحياته‮".‬
6‮- ‬وإذ كان من الثابت أن هذا الكتاب قد طرح في الأسواق،‮ ‬وعرض في المكتبات في خلال شهري مايو ويونيو
‮ ‬1998.‬‮.. ‬فيكون علم المدعي بهذا المحتوي قد تحقق في تلك الفترة‮.‬
7‮- ‬وإذ كان المدعي لم يقم دعواه إلا بصحيفة تم إعلانها إلي المدعي عليه المتهم في‮ ‬14‮ / ‬11‮ / ‬1998بعد انقضاء أكثر من ثلاثة أشهر بفترة طويلة علي تمام واقعة النشر وعلي المدعي بها فإن الدعوي تكون حقيقة بالحكم بعدم قبولها‮- ‬سواء في شقها الجنائي أو الشق المدني الذي يتبع الشق الجنائي‮. ‬
6‮- ‬وإذ يكون ما تقدم هو صحيح حكم القانون مع الوقائع الثابتة،‮ ‬فإننا ندفع الدعوي الماثلة بعدم قبولها ونطلب الحكم علي أساس هذا الدفع،‮ ‬والقضاء بعدم قبول الدعوتيين الجنائية والمدنية إعمالا لحكم المادة‮ ‬3‮ ‬من قانون الإجراءات الجنائية‮. ‬
ومع تمسكنا بهذا الدفع طلبنا الحكم علي أساسه،‮ ‬فإننا نتقدم بدفاعنا الموضوعي من قبيل الاحتياط حيث نثبت أن الجريمة المنسوبة إلي المتهم منتفية في ركنيها المادي والمعنوي،‮ ‬ومن ثم فهي حقيقة بأن يحكم فيها بالبراءة،‮ ‬وذلك علي النحو الذي نفصله في القسم التالي‮: ‬
القسم الثالث‮ ‬الدفاع
اتخذ السيد المدعي من عبارتين وردتا في سياق حديث الأستاذ نجيب محفوظ عن نفسه منطلقا يقيم عليه ادعاءاته،‮ ‬وأساسا يبني عليه دعواه‮.‬
وقد انتزع هاتين العبارتين من موضوعهما انتزاعا،‮ ‬وكأنهما قيلتا في فراغ،‮ ‬لم يسبقهما قول،‮ ‬ولم يلحقهما حديث‮.. ‬وكأنما قيلتا وليس لقولهما من قصد سوي الإساءة إلي المدعي علي النحو الذي صوره،‮ ‬والذي لا ندري من أين استمده،‮ ‬ولا من أي فهم سيئ استقاه‮. ‬
ومن هنا فقد وجب قبل أي شئ أن نعرض لهاتين العبارتين،‮ ‬وأن نضعهما في موضعهما،‮ ‬وأن نفسر ظروف قولهما ودواعي ذكرهما مما وصل متصلا بالكتاب ذاته،‮ ‬بصفة خاصة،‮ ‬وبفن السيرة الذاتية للكبار ممن هم في مقام نجيب محفوظ بصفة عامة‮.‬
حتي إذا استقام لنا فهم ذلك كان أن نعرض لصحيح حكم القانون علي ما هو مستقر عليه فهما وحكما وتطبيقا‮.‬
الناحية الأولي
تحليل العبارتين موضوع الاتهام علي ضوء وضعهما في السياق وفي إطار فهم الأعمال الأدبية كما هو متعارف عليه‮ ‬
أولا‮: ‬استعراض العبارة الأولي ووضعهما في سياق الكتاب‮: ‬قدمنا إنه كان المطلوب من نجيب محفوظ أن يقدم شهادته للتاريخ،‮ ‬عن نفسه وحياته،‮ ‬وفكره وأدبه،‮ ‬وفنه‮.. ‬إلي آخر ما يتصل به كإنسان ثم كفنان‮. ‬
وأشرنا إلي الجهد الذي بذله الأستاذ رجاء النقاش حتي يصل إلي هذه النتيجة من عمل استمر علي مدي ما يجاوز السنوات السبع المتصلة،‮ ‬بإخلاص دائم،‮ ‬ومحاولات متصلة للوصول إلي الصورة المثلي‮.‬
ولعل مطالعة لفصول الكتاب تؤكد هذا الجهد الصادق،‮ ‬فقد رافق الكتاب صاحب السيرة في طفولته وفي شبابه‮.. ‬في عالم الوظيفة وفي عالم الأدب‮.. ‬ومضي معه وهو يختار طريقه إلي الأدب وهو يتعرف علي من علموه ومن رافقوه،‮ ‬وهو يمضي مع أهل الفن ثم وهو يمضي في حياته الاجتماعية‮.. ‬ثم وهو يبدع مختلف أعماله ما حقق منه شهرة له وما جلب المتاعب إليه،‮ ‬ثم وهو في عالم السياسة يراقب حينا ويشارك حينا آخر،‮ ‬ويحلل ويبدي رأيه في معظم الأحيان‮... ‬ثم وهو ينال الجوائز،‮ ‬ويحظي بالتقدير،‮ ‬كما يواجه العواصف،‮ ‬كل ذلك في عرض يتميز بالسلاسة،‮ ‬وبالصدق،‮ ‬وبالعمق في نفس الوقت‮. ‬
وكان الفصل الأول عن الطفولة والشباب الذي تحدث فيه عن طفولته،‮ ‬وأسرته،‮ ‬وحارته،‮ ‬وأهله‮.. ‬وهو أمر طبيعي أن يكون مفتتح السيرة حديثا عن كل هذه النواحي التي ترسم المناخ،‮ ‬وتحدد عوامل النشأة،‮ ‬وتتحدث عن‮ "‬سنوات التكوين‮" ‬
لقد تحدث أول ما تحدث عن مولده في بيت القاضي،‮ ‬ثم ثني بالحديث عن أمه حديثا صريحا لم يجد حرجا أن يستهله بقوله‮: ‬
‮"‬كانت أمي سيدة أمية لا تقرأ ولا تكتب،‮ ‬ومع ذلك كنت أعتبرها مخزنا للثقافة الشعبية‮" ‬
ثم مضي في الحديث عن أمه وسيرتها،‮ ‬وعلاقتها معه طفلا ثم صبيا ثم شابا ثم رجلا مكتمل الرجولة إلي أن وافاها الأجل المحتوم‮. ‬
وهنا وردت هذه الفقرة‮: ‬
‮"‬وعندما ماتت والدتي حدثت في بيتنا سرقة‮ "‬أهلية‮" ‬حيث جاء أولاد أختي وأخذوا كثيرا من الأوراق والأشياء الشخصية،‮ ‬ومن بينها صور خاصة بي أخذها أبن أختي‮ "‬محمود الكردي‮" ‬وهو علي المعاش حاليا،‮ ‬وقال لي إنه أخذ الصور لعمل متحف مصور في بيته،‮ ‬وطلب مني بعد أن حصلت علي جائزة نوبل أن يسافر لتسلم الجائزة ولكنني رفضت‮". ‬
ثم مضي بعد ذلك يتحدث عن أشقائه من الذكور والإناث وعن علاقاته بهم لينتقل بعد ذلك إلي الحديث عن أبيه‮... ‬إلي آخر حديثه عن الطفولة والشباب‮. ‬
ثانيا‮: ‬التعليق علي هذه العبارة من صاحب السيرة ومن أحد الأكاديميين‮: ‬
1‮- ‬لقد سئل الأستاذ نجيب محفوظ نفسه عن هذه العبارة فكان جوابه ما يأتي بالحرف الواحد‮: ‬
إنني أجد أن السياق الذي كتب فيه الأخ رجاء النقاش هذا الكلام يوضح أن المسألة كلها دعابة،‮ ‬فحين يقال‮ "‬سرقة أهلية‮ " ‬لأشياء ليست ذات قيمة مادية،‮ ‬فهي مجرد أوراق،‮ ‬وكتب قديمة،‮ ‬وصور،‮ ‬أي أنها أشياء ترتبط بذكريات معينة،‮ ‬وليست‮ "‬مصاغا‮" ‬مثلا أو نقودا،‮ ‬لذلك فإني أري أن استخدام كلمة‮ "‬سرقة‮" ‬في هذا السياق لم يكن إلا مجازا،‮ ‬وعلي سبيل الدعابة،‮ ‬فأرجو أن تطيب خاطره،‮ ‬وتؤكد له أنني ليست لدي أي أسباب تدعوني للمساس به
‮"‬الحديث جاء تحت عنوان‮: ‬وجهة نظر،‮ ‬ونشر في الأهرام‮- ‬ص11‮- ‬بتاريخ
‮ ‬10‮ / ‬9‮ / ‬1998‮ ‬بقلم محمد سلماوي‮"‬
2‮- ‬وفي دراسته‮ ‬ قرر الدكتور حامد أبو أحمد الأستاذ الجامعي ما يأتي‮: ‬
الفقرة الأولي تقابلنا في صفحة‮ ‬16‮ ‬وهي مكونة من أربعة سطور ونصف السطر تقول‮: "‬وعندما ماتت والدتي حدثت في بيتنا سرقة‮ "‬أهلية‮" ‬حيث جاء أولاد أختي وأخذوا كثيرا من الأوراق والأشياء الشخصية،‮ ‬ومن بينها صور خاصة بي أخذها أبن أختي‮ "‬محمود الكردي‮" ‬وهو علي المعاش حاليا،‮ ‬وقال لي إنه أخذ الصور لعمل متحف مصور في بيته،‮ ‬وطلب مني بعد أن حصلت علي جائزة نوبل أن يسافر لتسلم الجائزة ولكنني رفضت‮".‬
وكما يمكن أن يلاحظ القارئ فإن كلمة‮ "‬أهلية‮" ‬الموضوعة هكذا بين قوسين تنقض كلمة سرقة ولا شك أننا ينبغي أن نضع الأمور دائما في سياقها،‮ ‬فالسياق الموضوعة فيه كلمة سرقة هنا‮ ‬غير السياق العادي لمفردة السرقة ومن ثم يجب أن تتغير دلالتها الأصلية لتعبر عن دلالة أخري تليق بالموقف مثل العبث،‮ ‬وبذلك يكون المعني عبث أولاد أختي بكثير من الأوراق،‮ ‬والأشياء الشخصية والدليل علي أن كلمة سرقة هنا‮ ‬غير مقصودة في ذاتها إنها لا يمكن أن تتحول إلي اتهام قانوني جنائي،‮ ‬ومن منا لم يعبث بعض أهله أثناء سفره أو‮ ‬غيابه ببعض محتوياته الشخصية خاصة الأوراق والكتب؟‮!! ‬ولو أن السرقة المذكورة كانت سرقة حقيقية ما جرؤ ابن أخت نجيب محفوظ علي أن يطلب منه بعد ذلك،‮ ‬ولو بسنوات طويلة،‮ ‬أن يذهب بدلا منه إلي السويد لتسلم جائزة نوبل،‮ ‬ولا شك أن رفض نجيب محفوظ لذهابه لم يكن خوفا من أن يسرق الجائزة مثلا‮ "‬أعني قيمتها المادية‮" ‬لأن التفكير في ذلك نكتة سخيفة،‮ ‬بل لأنه فضّل ذهاب ابنتيه فاطمة وأم كلثوم،‮ ‬وقد توقفت عند فقرة السرقة هذه لأن الكثيرين استغلوها لبث أقوال تفيد أن أبناء أخت نجيب محفوظ رفعوا دعوي لمصادرة الكتاب وأن المحكمة أصدرت حكما يقضي بذلك‮. ‬وقد تصورت عند ظهور مثل هذه الأخبار أن الكتاب ملييء بالإهانات التي لا تغتفر لأسرة كاتبنا الكبير،‮ ‬وهذه النقطة تطرح قضية المبالغات الصحفية التي تضع الأشياء في بعض الأحيان في حجم أكبر بكثير من حجمها الحقيقي،‮ ‬وأذكر في هذا الصدد القضية الضخمة التي أثيرت خلال الستينيات حول ما سمي بسرقة توفيق الحكيم لكتاباته في الحمار من كتاب الشاعر الأسباني خوان راهون خمينيث‮ "‬حماري وأنا‮" ‬وقد درست هذه المسألة بالتفصيل في كتابي‮ "‬قراءات في أدب أسبانيا وأمريكا اللاتينية‮" ‬ووجدت أن شبهة السرقة لا وجود لها علي الإطلاق‮". ‬
ثالثا‮: ‬عن العبارة الثانية سياقا ومضمونا‮: ‬
1‮- ‬وكذلك الشأن في العبارة الثانية‮... ‬فهي قد وردت في ثنايا حديثه عن شخصية والده وهو يصفه بقوله‮: ‬
وبصراحة كانت شخصية والدي تتحلي بقدر كبير من التسامح والمرونة والديمقراطية،‮ ‬وليس فيها استبداد أو عنف،‮ ‬ولا علاقة لها بشخصية‮ "‬السيد أحمد عبد الجواد‮" ‬بطل‮ "‬الثلاثية‮" ‬بل كانت شخصية‮ "‬سي السيد‮" ‬تنطبق أكثر علي‮ "‬جار لنا‮..." ‬ثم أعقب ذلك بقوله‮: ‬
وشخصية الزوج القاسي كانت من الأمور المألوفة في ذلك العصر،‮ ‬ولكن لم تكن تنطبق علي أزواج شقيقاتي‮: ‬نعيمة ورتيبة،‮ ‬وكان زوج أمينة عصبيا بعض الشيء،‮ ‬ولكن بدون قسوة،‮ ‬والوحيد الذي كان فيه بعض ملامح‮ "‬سي السيد‮" ‬هو زوج شقيقتي زينب،‮ ‬فقد كان صعيديا من أصل كردي،‮ ‬كان فظيعا،‮ ‬ومع ذلك كانت عندما يفيض بها الكيل تقف في وجهه بشراسة،‮ ‬أما والدي فربما أخذت منه في شخصية‮ "‬السيد أحمد عبد الجواد‮" ‬حبه للفن فقط‮.‬
2‮- ‬وهذه في الواقع ما هي إلا عبارات عامة لا تسيء إلي أحد،‮ ‬وإنما تعمد إلي التحليل والدراسة،‮ ‬وليس في أي منها لفظ ناب أو خارج عن نطاق السياق،‮ ‬فقد تحدث عن شقيقاته الثلاث وعن أزواجهن،‮ ‬فوصف أحدهم بالعصبية،‮ ‬ووصف الآخر بأنه لم يكن كذلك،‮ ‬ووصف الثالث بأنه كان صعيديا من أصل كردي،‮ ‬وإنه كان‮ "‬فظيعا‮" ‬أي به بعض القسوة‮...‬
والوصف إذ ورد بهذه الصورة في مجال الدراسة والمقارنة لا يمكن أن ينطوي علي إساءة أو علي قذف‮.... ‬وبخاصة إذا كنا نتحدث عن شخصيات عاشت في العشرينيات من هذا القرن حيث كانت المرأة لا تزال ترسف في حجابها وكانت الزوجة لا تخرج إلي العمل،‮ ‬وكان الزوج هو بهذه الصورة التي عرفت فيما بعد بالوصف الذي ابتدعه نجيب محفوظ وهو‮ "‬سي السيد‮" ‬الذي يفعل ما يريد،‮ ‬ويأمر فيطاع وهو وحده مالك الأمر،‮ ‬حر التصرف في كل شئ‮.. ‬إنه تاريخ وواقع،‮ ‬وليس لمن يصف الواقع ويتحدث عن التاريخ أن يوجه إليه لوما أو يؤاخذ بقول‮...‬
3‮- ‬وهكذا تكون هاتان العبارتان مبرأتين مما وصفتا به،‮ ‬فليس في أي منهما إهانة،‮ ‬ولم يقصد بأي منهما تحقير من تناوله،‮ ‬أو دارت حوله،‮ ‬ولا تعدو أن تكون إكمالا لملامح الصورة،‮ ‬أو هي بمثابة الرتوش التي تظهر الحقيقة،‮ ‬وتجلي الواقع،‮ ‬فقصد الإهانة أو الإساءة أو التجريح منتف تماما من هذه الكلمات،‮ ‬ولا يمكن لقارئ نجيب محفوظ ولأدبه أن يفهم منها ما يسئ إلي السيد المدعي،‮ ‬وإلا كان مؤدي ذلك أن نجيب محفوظ كان يتعمد الإساءة إلي نفسه‮... ‬فالذين كان يتناولهم الحديث إنما هي خاصة أهله‮: ‬أمه وأبيه وشقيقاته وأزواجهن‮... ‬كل هؤلاء اجتمعوا في حديث واحد وهم الأهل والجذور والمنتسب،‮ ‬فكيف يمكن أن نتصور أن أديبا بحجم نجيب محفوظ يمكن أن يتعمد أن يسئ إلي نفسه‮.. ‬؟
وهل الأهل إلا خاصة النفس،‮ ‬وموضع الاعتزاز،ومصدر الفخر؟ ومن هنا فلا يمكن بحال من الأحوال أن ينسب إلي الإنسان أن يتحدث عن نفسه وأهله أنه إنما يخدش سمعتهم أو يسئ إليهم،‮ ‬وبخاصة إذا كان المتحدث أديبا في مكانة نجيب محفوظ،‮ ‬إذ يهم قارئيه‮- ‬ليس في اللغة العربية فحسب بل في مختلف لغات العالم‮- ‬أن يعلموا بكل أحواله،‮ ‬وأن يقفوا علي كل ما يتصل به،‮ ‬وعلي أمور كل من ارتبط به بصلة القربي أو النسب أو الصداقة،‮ ‬فتلك جميعها أمور لابد أن تجمع وتوثق،‮ ‬وتخضع للدراسة والتحليل‮... ‬لغاية أسمي هي‮ ‬غاية البحث والنقد،‮ ‬والوصول إلي مصادر الإلهام،‮ ‬ومنابع التكوين،‮ ‬وعوامل الإبداع بالنسبة لكاتب في حجم ومكانة نجيب محفوظ فنحن إذن فوق هذه النظرة الضيقة التي تقف عند ظاهر الألفاظ،‮ ‬وعند منطوق الكلمات،‮ ‬ولا تأخذ بوصفها في السياق،‮ ‬ولا تهتم بالغاية من الحديث،‮ ‬ولا تأخذ في اعتبارها دواعي البحث والتأصيل‮. ‬
‮( ‬2‮ )‬
وقد استغل رجاء النقاش موهبته الطاغية في النقد والتحليل الأدبي،‮ ‬وثقافته الموسوعية العميقة في إعداد تلك المرافعة التي صاغها د.أحمد السيد عوضين المحامي،‮ ‬واستعان النقاش فيها بنماذج مماثلة لاعترافات عارية جاءت علي لسان وفي مذكرات أدباء مشاهير،‮ ‬من الشرق والغرب،‮ ‬ليثبت أن نجيب محفوظ لم يتجاوز‮.. ‬بل إن اعترافات من سبقوه كانت أشد قسوة،‮ ‬لأنها شهادة للتاريخ ولا تحتمل المجاملة ولا الزيف‮. ‬
وعندما تقرأ هذا الجزء الأخير من المرافعة ستكتشف أنك أمام بحث أدبي مدهش،‮ ‬ساهم إلي حد كبير في حكم البراءة الذي اتخذته بالإجماع محكمة جنح الدقي في‮ ‬15‮ ‬مارس‮ ‬1998
لنقرأ الجزء المتبقي من تلك المرافعة التاريخية
رابعا‮: ‬أمثلة من كتّاب كبار سبقوا نجيب محفوظ‮:‬
1‮- ‬علي أن مثل هذه الأقوال لم يكن بدعا من القول،‮ ‬ولا أمرا استحدثه نجيب محفوظ،‮ ‬أو ابتدعه النقاش‮: ‬
2‮- ‬ومن منا لم يقرأ‮- ‬أو علي الأقل‮- ‬يسمع‮ "‬اعترافات جان جاك روسو‮" ‬وما تضمنته من تعرية شاملة لحياته وحياة كل من أتصل أو ارتبط به في صراحة لا مثيل لها‮.. ‬
ومع ذلك فقد نالت الاعترافات مكانها ومكانتها في عالم الفكر والفن والأدب،‮ ‬لم نسمع أن من تناولتهم‮- ‬وكشفت كل المستور من أمرهم‮- ‬وجدوا في ذلك شيئا يضطرهم إلي أن يعرضوا الأمر علي القضاء،‮ ‬أو يصلوا به إلي ساحات المحاكم‮!‬
3‮- ‬وفي أدبنا العربي‮... ‬كان الإمام الغزالي هو من أوائل من كتبوا عن النفس،‮ ‬ورووا تجاربهم الشخصية في صدق وصراحة حتي لقد تحدث عن لحظات بلغ‮ ‬به الهوي والضلال أن انحرف عن صادق الإيمان بالله الواحد الأحد‮.. ‬اعترف بذلك بكل صراحة ليعلن من بعد أنه اهتدي إلي نور الحق،‮ ‬وعرف السبيل إلي العلي القدير‮ ‬
وارجع إن شئت إلي كتابة‮ "‬المنقذ من الضلال‮" "‬ص‮ ‬24‮-‬25‮-‬26‮ ‬من مجموعة رسائل الإمام الغزالي‮- ‬نشر دار الكتب العلمية‮- ‬بيروت‮- ‬1988‮" ‬حيث ورد بها‮ "‬اعلموا‮- ‬أحسن الله تعالي إرشادكم،‮ ‬وألان للحق قيادكم‮- ‬أن اختلاف الخلق في الأديان والملل‮- ‬ثم اختلاف الأئمة في المذاهب علي كثرة الفرق وتباين الطرق،‮ ‬بحر عميق‮ ‬غرق فيه الكثيرون وما نجا منه إلا الأقلون،‮ ‬وكل فريق يزعم انه الناجي و‮ "‬كل حزب بما لديهم فرحون‮" "‬الروم‮ ‬32‮" ‬هو الذي وعدنا به سيد المرسلين،‮ ‬صلوات الله عليه،‮ ‬وهو الصادق الصدوق حيث قال‮ "‬ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة،‮ ‬الناجية منهم واحدة‮" ‬فقد كان ما وعد أن يكون‮.‬
ولم أزل في عنفوان شبابي،‮ ‬منذ راهقت البلوغ‮ ‬قبل بلوغ‮ ‬العشرين إلي الآن وقد أناف السن علي الخمسين،‮ ‬أقتحم لجة هذا البحر العميق،‮ ‬وأخوض‮ ‬غمرته خوض الجسور،‮ ‬لا خوض الجبان الحذور،‮ ‬وأتوغل في كل مظلمة،‮ ‬وأتهجم علي كل مشكلة،‮ ‬وأقتحم كل ورطة،‮ ‬وأتفحص عن عقيدة كل فرقة،‮ ‬واستكشف أسرار مذهب كل طائفة،‮ ‬لأميز بين محق ومبطل،‮ ‬ومتسنن ومبتدع لا أغادر باطنيا إلا وأحب أن أطلع علي بطانته،‮ ‬ولا ظاهريا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته،‮ ‬ولا فلسفيا إلا وأقصد الوقوف علي كنه فلسفته،‮ ‬ولا متكلما إلا وأجتهد في الاطلاع علي‮ ‬غاية كلامه ومجادلته،‮ ‬ولا صوفيا إلا وأحرص علي العثور علي سر صوفيته،‮ ‬و لا متعبدا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته،‮ ‬ولا زنديقا معطلا وأتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته‮. ‬
وقد كان التعطش إلي درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري،‮ ‬غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي،‮ ‬لا باختياري وحيلتي،‮ ‬حتي انحلت عني رابطة التقليد وانكسرت علي العقائد الموروثة علي قرب عهد شرخ الصبا،‮ ‬إذ رأيت صبيان النصاري لا يكون لهم نشوء إلا علي التنصر،‮ ‬وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا علي التهود،‮ ‬وصبيان المسلمين لا نشوء إلا علي الإسلام،‮ ‬وسمعت الحديث المروي عن رسول الله‮- ‬صلي الله عليه وسلم‮- ‬يقول‮ "‬كل مولود يولد علي الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه‮" ‬فتحرك باطني إلي حقيقة الفطرة الأصلية وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين والأستاذين،‮ ‬والتمييز بين هذه التقليدات،‮ ‬وأوائلها تلقينات،‮ ‬وفي تميز الحق منها عن الباطل اختلافات،‮ ‬فقلت في نفسي‮: ‬إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور فلابد من طلب حقيقة العلم ما هي؟ فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذي يكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقي معه ريب،‮ ‬ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم ولا يتسع القلب لتقدير ذلك،‮ ‬بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارنا لليقين مقارنة لو تحدي بإظهار بطلانه مثلا من يقلب الحجر ذهبا والعصا ثعبانا،‮ ‬لم يورث ذلك شكا وإنكارا،‮ ‬فأني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة،‮ ‬فلو قال لي قائل لا،‮ ‬بل الثلاثة أكبر بدليل أني أقلب هذه العصا ثعبانا،‮ ‬وقلبها،‮ ‬وشاهدت ذلك منه،‮ ‬لم أكتشف بسببه معرفتي ولم يحصل لي منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه،‮ ‬فأما الشك فيما علمته فلا‮. ‬
ثم علمت أن كل ما لا أعلمه علي هذا الوجه ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه،‮ ‬وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني‮"‬
ولن نطيل في ضرب الأمثلة،‮ ‬إنما نقف عند أمثلة محدودة‮: ‬أولها أستاذنا الكبير توفيق الحكيم في كتابه الرائع‮: "‬سجن العمر‮"‬،‮ ‬الذي يتحدث فيه عن نفسه وأهله‮... ‬
طبعة‮ ‬1988‮ " ‬حيث يذكر‮:‬
‮"‬كانت الأخت الكبري لوالدتي أمية لا تقرأ ولا تكتب،‮ ‬بل لا تحسن‮ ‬غير التفكير في الخرافات الشائعة بين نساء جيلها،‮ ‬كانت علي‮ ‬غرار أمها‮- ‬جدتي‮- ‬ولعل هذا كان السر في فرار زوجها المتعلم إلي مجالس السهر والسكر‮"-‬ص‮ ‬16‮- ‬
‮"‬كانت جدتي في أوج شبابها حين مات عنها زوجها،‮ ‬فنصحها الناصحون أن تقبل الاقتران بزوج أختها المتوفاة‮... ‬احتضنت جدتي أولادها هي،‮ ‬أي البنتين‮- ‬وخصتهما بكل رعاية وإعزاز،‮ ‬ونبذت وأهملت أولاد الأخت،‮ ‬وعاملتهم كما تعامل أولاد الأعادي‮.."-‬ص20‮- ‬
ويقول عن والده‮ : "‬كان لابد أن يصدر عنه من المخاطرات ما قد يزعزع الحياة الزوجية وهو لا يرضي أن يحدث ضررا بأهل بيته الأبرياء‮... ‬هناك طريق يحتاج أحيانا إلي الحركة الجنونية‮..."-‬ص41‮- ‬
وفي موضع آخر يقول عن والدته وتأثيرها علي والده‮: "‬ما الذي حدث له بالضبط؟ أهو مجرد الزواج وأعبائه؟ أهي والدتي بشخصيتها القوية الثائرة العنيفة المسيطرة وجهت مصير زوجها كما أرادت هي؟‮"-‬ص41‮-‬
ثم يورد علي لسان أمه قولها عن أبيه‮ "‬خذلني أبوك يومها‮... ‬خذلني بنذالة‮"-‬ص51‮- ‬
ويقول عن أخيه‮: ‬
‮"‬كان أخي منذ طفولته عنيفا جريئا،‮ ‬ولعله ورث ذلك عن والدته ميراثا كاملا،‮ ‬فكانا بذلك من معدن واحد مما سبب لها هي كثيرا من المتاعب‮"-‬ص63‮-‬
ويتحدث أيضا عن أخيه فيقول‮: ‬
‮"‬ولم يكن أخي مجدا كل الجد في دراسته فقد اتجه ميله إلي تعلم الرقص،‮ ‬وحضور حفلاته،‮ ‬وكانت تدهشني جرأته في ارتياد فنادق كبري ليراقص من يراقص وليس في جيبه أكثر من خمسة قروش‮..." ‬ويتحدث عنه في فرنسا فيقول‮: "‬هالني يوما أن أراه هبط عليّ‮ ‬واستولي في‮ ‬غفلتي علي البذلة الجديدة الوحيدة التي جعلت أوفر وأدبر ثمنها،‮ ‬عاما كاملا،‮ ‬ولم أكن لبستها بعدما ضننت بها علي نفسي،‮ ‬فإذا بي أراها عليه‮.. ‬وقد جال بها في الشانزليزيه وعاد مصطحبا فتاتين فاتنتين،‮ ‬طالبا مني أنا القيام بمهمة العشاء‮"-‬ص219‮- ‬وأما المثال الثاني فمنقول عن الكاتب الناقد الدكتور لويس عوض‮- ‬في كتابه‮ "‬أوراق العمر‮" ‬حيث ذكر فيها‮: ‬
مثلا‮: ‬بعد أن تخرج أخي رمسيس عوض في كلية الآداب جامعة القاهرة عام‮ ‬1950،‮ ‬عينته وزارة المعارف مدرسا للغة الانجليزية في مدرسة المنيا الثانوية‮.. ‬وكان أخي الفونس أيام عمله في الأورنس في منطقة القنال قد تزوج دون موافقة الأسرة من فتاة من الزقازيق اسمها إيفون كامل،‮ ‬كانت أختا لأحد زملائه في العمل في كسفريت وكانت أم هذه الفتاة مطلقة،‮ ‬وهو عار كبير عند الأقباط،‮ ‬وفوجئنا ذات يوم باكتشاف التالي‮: ‬أن فائزة كامل،‮ ‬الأخت الصغري لإيفون‮ "‬لافت‮" ‬علي رمسيس عوض وتزوجته زواجا عرفيا دون علمنا واستكتبته ورقة تقول إنه في حالة انفصاله عنها فهو ملزم بأن يدفع لها نفقة شهرية قدرها ثمانية جنيهات‮. ‬وكان كل مرتب رمسيس يومئذ اثني عشر جنيها شهريا،‮ ‬وهي تسعيرة البكالوريوس في تلك الأيام وحين عرفنا بذلك هاجت أمي وماجت وأصبحت وأمست في حالة من الكمد المتفجر،‮ ‬تطلق أمامنا أقذع الشتائم كالحمم علي فائزة وأختها إيفون،‮ ‬وعلي أولادها المغفلين رمسيس والفونس اللذين استدرجا إلي فخاخ البنات النصابات‮. ‬
ودفعت أمي أبي إلي استدعاء أخي الفونس وزوجته إيفون إلي المنيا وطالبت بفسخ هذا الزواج العرفي واشترطت أن تسلك الزوجة أو‮ "‬الوليفة‮" ‬المحتالة فائزة ورقة الزواج العرفي ليمزقها بيده حتي تطمئن إلي أن كل هذه المهزلة قد انتهت بالفعل،وحين زعمت إيفون أنها تملك هذا السلطان علي أختها فائزة،‮ ‬هددتها أمي بأن أبي سوف يتبرأ من الفونس ويحرمه من الميراث ويجرجر النصابة فائزة في المحاكم لإلغاء هذا العقد العرفي فتكون الفضيحة لأمها المطلقة ولكل أسرتها‮. ‬
وبعد شهور من هذه الحملة‮ ‬المكثفة والحصار المحكم علي إيفون وفائزة بل وعلي الفونس ورمسيس،‮ ‬أرسلت البنت فائزة العقد إلي أبي مع أختها إيفون والفونس فمزقه أو أحرقه في حضور رمسيس والجميع،‮ ‬وأعتقد أن أبي عوّض فائزة بمبلغ‮ ‬بسيط من المال،‮ ‬رغم احتجاج أمي‮. ‬
وبأسرع ما يكون خطبت أمي لأخي رمسيس ابنة عمنا الدكتور يسي إبراهيم عوض الطبيب في المنيا،‮ ‬واسمها لوسي،‮ ‬وكانت قد تعلمت عند الراهبات في المنيا حتي شهادة‮ ‬البريفيه،‮ ‬وتم الزواج في يناير‮ ‬1952.‬
وما إلي ذلك إلي مقولات عديدة أوردها لويس عوض في كتابه فيها ما فيها من الحديث عن أفراد أسرته،‮ ‬بما‮ ‬يكشف كثيرا من الأمور،‮ ‬مما‮ ‬يعتبر من أدق الأسرار‮.. ‬ومع ذلك فقد اقتضته دواعي‮ "‬الأمانة‮" ‬أو‮ "‬ضرورات المصارحة‮" ‬ألا‮ ‬يخفي شيئا بل‮ ‬يورد الوقائع،‮ ‬والتعليقات في صراحة كاملة‮. ‬
والمثال التالي مستمد من كتاب الأستاذ سلامة موسي‮- ‬المعروف ب"تربية سلامة موسي‮" ‬وقد بلغت صراحة سلامة موسي في الحديث عن نفسه, وعن عائلته وعن أهله درجة لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يقاس عليها‮.. ‬ونقتطف من ذلك هذه الفقرة‮: "‬والراضون عن النظام الاقتصادي الحاضر في مجتمعنا الاقتنائي كثيرا ما‮ ‬يذكرون العائلة،‮ ‬وأن نظامنا‮ ‬يؤيدها مع أنه لا‮ ‬يفكك العائلات،‮ ‬ويضع البغض مكان الحب بين أعضائها سوي الخلافات المالية التي تلابس هذا النظام وقل أن تجد عائلة متوسطة أو ثرية بلا خلاف مالي بين أعضائها مرجعة طمع أحد أعضائها ورغبته في الاستئثار دون الآخرين،‮ ‬ولم تنج عائلتنا من هذه الخلافات التي سودت العلاقات‮... ‬ولو أننا كنا نعيش في نظام اشتراكي ومجتمع تعاوني‮ ‬غير اقتنائي لما كان هناك مجال لهذه الخلافات التي تكاد تهم العائلات في أيامنا‮. ‬وأني أذكر السنوات الطويلة والعناء العظيم الذي‮ ‬‮ ‬أنفقناه في خلافات كان منشؤها امتياز واحد علي آخر أو طمع واحد في آخر،‮ ‬وكلها مطامع مالية ما كانت لتكون لولا أننا نتعلم منذ الطفولة بأن هذا لي وهذا لك وأنني يجب أن أتفوق عليك في اللعب والعمل وفي المدرسة والمجتمع،‮ ‬روح خبيث يقال لنا أنه يعمل للرجولة مع انه يعمل للعداوة والبغض والحقد وقد لقيت أختي الصغري عناء،‮ ‬بل سرقة صريحة،‮ ‬ومن بعض أعضاء عائلتنا ولم يكن المرتكب لهذه السرقة يحس أنه مجرم،‮ ‬بل كان يتباهي لأن روح المباراة في هذا الروح الاقتنائي الذي نشأ عليه،‮ ‬قد أكسبه هذه العقلية،‮ ‬وكلنا مغموسون في هذا الفساد بدرجات متفاوتة‮" ‬
والمثال الأخير هو للأديب الكبير‮- ‬أحد ثلاثة عرفوا بأنهم أصحاب مدرسة الديوان‮: ‬
إبراهيم عبد القادر المازني‮.. ‬ولنقرأ في كتابه‮ "‬قصة حياة‮": ‬
يقول المازني عن أبيه‮ "‬كان أبي مشغولا عنا بزوجة جديدة،‮ ‬وكان عمله يضطره إلي السفر إلي‮ "‬استنبول‮" ‬فكان يقضي هناك ما شاء الله أن يقضي شهورا أو عاما أو قرابة ذلك،‮ ‬ثم يعود ومعه زوجته وأحسبه كان يضطر إلي الزواج اتقاء من الإثم،ولكن الغريب أنه كان إذا احتاج إلي السفر مرة أخري يحمل معه الزوجة ويسرحها هناك،‮ ‬ويجئ بغيرها،‮ ‬وأظنه كان يحب التركيات،‮ ‬ويؤثرهن علي سواهن،‮ ‬وعسي أن يكون قد راقه منهن بياضهن،‮ ‬وحسن التدبير والنظافة والطاعة والأدب،‮ ‬فإن يكن ذاك فما ورثته منه إلا نقيضه،‮ ‬ولست أعني كما لا أحتاج أن أقول أني أحب الوساخة وسوء التدبير،‮ ‬وقلة الأدب والعياذ بالله،‮ ‬وإنما أعني أن اللون الأسمر آثر عندي،‮ ‬وأحب إليّ،‮ ‬وأنه إذا اجتمعت اثنتان واحدة بيضاء والأخري سمراء،‮ ‬وكانتا من الحسن في منزلة واحدة،‮ ‬فالسمراء عندي أجمل وأندي علي القلب،‮ ‬وعسي أن يكون هذا التعصب لأمي ولنفسي فأني أسمر أو إلي السمرة أقرب ولعلي أكره أن تزهي عليّ‮ ‬واحدة ببياض جلدها،‮ ‬ولكن هذا شطط فلأرجع إلي ما كنت فيه‮. ‬
ولم تكن الزوجة الجديدة من‮ "‬إستنبول‮" ‬وإن كانت تركية‮... ‬ولم يهجر أبي‮ "‬البيت الكبير‮" ‬في سبيل فرحة هذه الزوجة الجميلة،‮ ‬فقد كانت جميلة والشهادة لله وكان الزميل معذورا ولكنه كان يقضي عندها ليلة،‮ ‬وعند هذه الزوجة ليلة،‮ ‬فأما ليلته في البيت الكبير فكان يقضيها مطرقا يستمع التقريع والتأنيب من جدي تارة،‮ ‬ومن أمي تارة أخري،‮ ‬وكان عظيم الحلم،‮ ‬طويل البال،‮ ‬قليل الكلام،‮ ‬فكان لا يزيد عن الابتسام،‮ ‬وهذا ما خالفته فيه أيضا،‮ ‬فأني أحمق طياش،‮ ‬وسريع الغضب،‮ ‬حاد الطبع،‮ ‬وثرثار لا يفرغ‮ ‬الناس من هذره،‮ ‬ومن الإنصاف لأبي أنه ما بين شغله بزوجته الجميلة وما يكابده في البيت الكبير،‮ ‬فضلا عن عمله المضني،‮ ‬لم يبق له وقت يعني فيه بنا نحن بنيه الصغار‮" ‬
وفي موضع آخر يقول‮: ‬
‮"‬مرض أبي بعد شهور قليلة من دخولي مدرسة القرية الحكومية،‮ ‬وصار كل من في البيت يغلط بأن زوجته التركية سمته،‮ ‬أو هي لم تسمه،‮ ‬وإنما دأبت علي إطعامه لحم الأرنب بعد أن يعالجه رجل مشعوذ بما لم يعرف أحد ليحبب أبي في هذه الزوجة،‮ ‬ويبغض إليه أمي،‮ ‬وكان أبي يعتقد أن هذه خرافات وأباطيل،‮ ‬وأنها مما يلفقه الخيال بتأثير الغيرة،‮ ‬ولكن أمي قد أصابها سقم شديد،‮ ‬واضطراب عصبي عنيف،‮ ‬فعني أخي الأكبر بما أشيع من أن هذا بعض ما جره سحر المشعوذ عليها،‮ ‬فراقب بيت هذه الزوجة التركية فرأي يوما شيخا يدخل،‮ ‬فتبعه من حيث لا يشعر،‮ ‬فصعد الشيخ إلي‮ ‬غرفة فوق السطح وأوقد نارا وذبح أرنبا،‮ ‬وكتب علي لحمه كلاما وعلقه في الهواء ورمي في الموقد بخورا فأطلقه وراح يقرأ ويعزم وأخي يرقبه،‮ ‬ثم خطر له أن يطلع أبي علي ذلك،‮ ‬فأغلق عليه الغرفة،‮ ‬وأوصد باب البيت،‮ ‬وحمل مفتاحه معه،‮ ‬وذهب فجأة بأبي وأراه ما ري،‮ ‬فشق الأمر علي أبي فطلق المرأة‮..‬
ولعل الصورة لا تكتمل إلا إذا مضينا نستعيد بعض ما كتبه المازني عن أمه وفي الحقيقة أنه كتب عن أمه الكثير من الصفحات،‮ ‬ولكننا نكتفي بهذه الأسطر ننقلها عن مقال له عنوانه‮ "‬أمي‮": ‬
‮"‬لا أعرف الأمهات كيف يكن،‮ ‬ولكني أعرف أمي كيف كانت وأجمل التعريف بها وأوجز الوصف فأقول‮: ‬أنها كانت‮ "‬رجلا‮" ‬وأحسب أن النساء لا يرضيهن ثناء كهذا يسلبهن أنوثتهن،‮ ‬وأن سرهن ما فيه من معني الإكبار،‮ ‬ولكن أمي لم يكن لها بال تجعله إلي شئ من هذا،‮ ‬فقد اضطرت أن تمحق أنوثها في سن يبدأ فيها‮ ‬النساء
أو معظمهن يعرفن معني الأنوثة الكاملة فقد مات أبي وهي في الثلاثين من عمرها،‮ ‬وأذاقها في حياته ما سود الدنيا في عينيها،‮ ‬وأنساها أنها امرأة كالنساء،‮ ‬وكان أبي رحمه الله مزواجا،‮ ‬وكان حبه للتركيات وافتتانه بهن عجيبين،‮ ‬ومن فرط حبه لهن كرهتهم أنا،‮ ‬وكان يذهب كل بضعة أعوام إلي الآستانة فيبقي فيها ما شاء الله أن يبقي ثم يعود بزوجة من هناك يعايشها سنوات ثم يملها ويشتهي‮ ‬غيرها،‮ ‬فيسرحها بإحسان ويردها ويجئ بغيرها،‮ ‬وهكذا‮. ‬
وتركنا أبي ذوي مال فأكله أخي الأكبر‮- ‬أعني انه أنفقه باليمين وبالشمال حتي أتي عليه‮- ‬فلولا لطف الله لتسولنا،‮ ‬أو علي الأقل لما أمكن أن نتعلم،‮ ‬وكان المازني الآن‮- ‬علي الأرجح‮- ‬نجارا‮ ‬غير حاذق‮- ‬أو شيئا من هذا القبيل،‮ ‬ولكن أمي كانت حازمة مدبرة،‮ ‬فوسعها بالقليل الذي أسعفها به حسن الحظ أن تربينا وتقينا المعاطب‮. ‬
ولست أذم أبي أو أنتقصه،‮ ‬وما يسعني أن أفعل ذلك وقد كانت أمي تثني عليه،‮ ‬ولا تنسي تذكره بالخير،‮ ‬ولم تنقطع قط بزيارة قبره في اثنتين وثلاثين سنه عاشتها بعده،‮ ‬وكنت ربما مازحتها فأقول لها‮: ‬وماذا كان يعجبك في هذا الرجل؟
خامسا وخلاصة ما تقدم جميعه‮: ‬
وخلاصة ما أسلفنا بيانه‮: ‬
إن العبارتين موضع الاتهام متي وضعتا في سياقهما من المؤلف،‮ ‬فلا تكون لهما من دلالة سوي تسجيل ذكريات نجيب محفوظ،‮ ‬وهي ذكريات لا تسئ إلي أحد،‮ ‬وإنما تحكي واقعا حقيقيا،‮ ‬ليس له من هدف سوي إبراز معالم صورة حياة الكاتب العظيم‮. ‬
أن العبارتين موضع الاتهام لا يمكن أن نفهم منهما أن بهما إساءة أو أنهما قصدتا إلي شئ من الإساءة،‮ ‬بل قصد الدعابة في أولاهما واضح وجلي،‮ ‬إذ قرن كلمة السرقة بأنها أهلية أي عائلية أي بين أفراد أسرة واحدة،‮ ‬والسارق في وضع الابن بالنسبة للمسروق‮..‬
إن موضوع‮ "‬السرقة‮" ‬والهدف منها يجعلانها سرقة شريفة،‮ ‬راقية،‮ ‬بما يجعل استعمال كلمة‮ "‬سرقة‮" ‬إنما هو محض‮ "‬مجاز‮" ‬لغوي‮.. ‬إن المسروقات مجرد‮ "‬صور‮" ‬للكاتب الكبير‮.. ‬وإن الهدف من ذلك‮- ‬كما ورد في ذات العبارة وهو عمل متحف للخال العظيم‮.. ‬فهل في مثل هذه الأحوال وصف التصرف بأنه‮ "‬أهلي‮" ‬أو‮ "‬عائلي‮" ‬وتجريد الموضوع من أية قيمة مادية،‮ ‬وتحديد الهدف بأنه إقامة متحف للكاتب الكبير هل مع ذلك كله وقد دلت عليه العبارة،‮ ‬وزادها نجيب محفوظ إيضاحا يمكن القول أن فيما قيل إساءة للسيد المدعي بالحق المدني؟‮ ‬
إن مثل هذا القول فيه تجن علي الحقيقة،‮ ‬وظلم للواقع،‮ ‬وتفسير للأمور بما لا تحتمل تفسيره‮.‬
وكذلك الأمر بالنسبة للعبارة الثانية التي تحدث فيها الكاتب الكبير عن شقيقاته وأزواجهن،‮ ‬فالبادي من السياق أنه يستكمل ملامح الصورة الأسرية وأن العبارة في سياقها لا تدل علي إساءة أو قصد إساءة‮... ‬وكون الزوج يحرص علي‮ "‬التسييد‮" ‬في فترة العشرينيات من هذه القرن لا يمكن أن يعد وصفا سيئا،‮ ‬أو أمرا مشينا‮.. ‬بل لا نبالغ‮ ‬إذ قلنا وحتي إذا وصف الزوج بهذا الوصف ونحن علي أعقاب القرن الحادي والعشرين فلا يمكن القول بأن في ذلك إساءة أو تشهيرا،‮ ‬بل هو وصف لواقع‮ ‬غير مشين،‮ ‬وليس فيه خروج عن الأعراف والتقاليد في مجتمع شرقي حتي وإن قال مفكروه بوجوب التحرر والتطور‮!! ‬
فإذا ما أخذنا في اعتبارنا ما هو معروف‮- ‬في عالم الإبداع‮- ‬من أدب السيرة الذاتية ينطوي علي قدر كبير من كشف النفس،‮ ‬والحديث عن الدخائل وضرورة التعرف علي عالم صاحب السيرة والوسط الذي نشأ وتكون فيه دون تحرج،‮ ‬أو محاولة لإخفاء الحقائق البارزة‮.. ‬وما قدمناه من أمثلة‮ "‬فاتنا أن نشير إلي أيام عميد الأدب العربي‮: ‬طه حسين،‮ ‬وما ضمتها من حقائق تتصل بأسرته وأخوته‮.. ‬علي نحو أكثر تفصيلا ورواية لأحداث مما ورد في‮ "‬سيرة نجيب محفوظ‮" ‬كل ذلك يؤكد أنه حتي لو وجدت تجاوزا فإن ذلك أمر مقبول في هذه الحالة‮... ‬ومن ثم فإنه لو لم يقع تجاوز في الحالة المطروحة فلا مجال لادعاءات المدعي بحال من الأحوال‮.‬
علي ضوء ما قدمنا نعرض للناحية الجنائية في جانبيها أو ركنيها المادي والمعنوي فنجد ما يؤكد انتفاءهما بما يجعل الحكم بالبراءة هو الحكم الذي يتفق مع صحيح القانون،‮ ‬وواقع الخيال‮..‬
الناحية الثانية
انتقاء الركن المادي في جرائم الاتهام‮ ‬
بغض النظر عما تضمنته صحيفة الدعوي من تصور في تحديد‮ "‬التهم‮" ‬التي يوجهها حيث وقف حديثه عندما زعم بنسبته إلي‮ "‬المتهم‮" ‬من تهمة القذف‮... ‬ولم يورد أية إشارة إلي التهمتين الأخريين إلا في طلباته الختامية وهو يعدد‮ "‬مواد الاتهام‮" ‬إذا أورد من بينهما المادتين‮ ‬306‮ "‬السب‮" ‬و‮ ‬308‮ "‬خدش سمعة العائلات‮" ... ‬دون أن يوضح أي شئ أو يورد ثمة بيانا عن هاتين التهمتين‮. ‬
ورغم هذا القصور في البيان،‮ ‬فإننا سوف نساير السيد المدعي،‮ ‬ونتابعه فيما يدعيه لنعرض ما تضمنه الكتاب علي صحيح حكم القانون‮.. ‬فإذا ما تبين لنا أن هذه التهم لم تقم لها قائمة في حق المتهم سواء من حيث ركنها المادي أو ركنها المعنوي‮... ‬فإن طلبنا بالبراءة يكون هو الطلب المتفق مع القانون والواقع علي حد سواء‮. ‬
وعلي ضوء ما قدمنا من بيان فإننا نقرر‮: ‬
إن الجريمة التي وردت في المادة‮ ‬308‮ ‬هي ذاتها القذف والسب إذا ما تعدي أثرها شخصا بذاته إلي سمعة العائلة‮... ‬كما أن تهمتي القذف والسب تجمعهما فكرة الاعتداء علي الشرف والاعتبار،‮ ‬ومن ثم فإن كلتا التهمتين تتحدان في المحل الذي تنالانه بالاعتداء وهو الحق في الشرف والاعتبار،‮ ‬ومن ثم فإن هذا الاتحاد كان مصدرا لأحكام مشتركة بينهما د.محمود نجيب حسني شرح قانون العقوبات‮- ‬القسم الخاص بند‮ ‬825‮".‬
وعلي ذلك وإذ كان تعريف القذف بأنه إسناد واقعة محددة تستوجب عقاب من تنسب إليه أو احتقاره إسنادا علنيا عمديا‮... ‬فإن السب هو خدش شرف شخص واعتباره دون أن يتضمن ذلك إسناد واقعة معينة إليه‮.. ‬وعلي ذلك فكلتا التهمتين تتفقان في أنهما تتضمنان وقوع أفعال من الجاني تتضمن الاعتداء علي شرف واعتبار المجني عليه‮. ‬
ومن هنا فإن كلا من التهمتين تفترضان فعل إسناد هو التعبير وصفة لهذا الإسناد علانية،‮ ‬وبينما يستلزم القذف أن يرد الفعل واقعة معينة ينسبها للمجني عليه فإن السب يكفي بشأنه أن يكون الفعل خادشا للشرف أو الاعتبار بأي وجه من الوجوه‮. ‬
وبإنزال هذه الأحكام علي وقائع الدعوي الماثلة يتبين عدم توافر أي من هذه العناصر بالنسبة للمتهم علي ضوء ما يلي‮: ‬
أولا‮- ‬بالنسبة لفعل الإسناد‮:‬
1‮- ‬نحب أن نوضح بادئ ذي بدء أن كل ما ورد في‮ "‬الكتاب‮" ‬هو من أقوال الأستاذ نجيب محفوظ،‮ ‬وجميع ما ذكر هو روايات قيلت علي لسانه،‮ ‬ومسجلة علي شرائط مازال أصلها محفوظا،‮ ‬ولم يزد دور الأستاذ رجاء النقاش عن إعادة صيغة ما قيل له وإعداده للنشر‮.. ‬فلم يكن الأستاذ رجاء واحدا من أفراد أسرة الكاتب الكبير نجيب محفوظ،‮ ‬وما كان رواه عنه معلومات وإنما كان مأخوذا عن ومن صاحب السيرة نفسه،‮ ‬والواقعة التي يتمسك بها المدعي ويقيم اتهاماته علي أساسها لم ينكرها الأستاذ نجيب محفوظ،‮ ‬بل أقر ضمنا بأنه مصدر هذه الرواية وتلك المعلومات وأنه قائلها‮ "‬يراجع حديث الأستاذ نجيب محفوظ المنشور بالأهرام بتاريخ‮ ‬10‮/‬9‮/‬1998‮ ‬بحافظة المستندات‮".‬
2‮- ‬فإذا أضفنا واجب أمانة القلم،‮ ‬وشرف الكلمة،‮ ‬وأن ما تم تسجيله إنما يقصد به وجه الحق ووجه التاريخ،‮ ‬فإن لنا أن نقرر أنه ما كان في وسع الأستاذ رجاء النقاش أن يحذف قولا أو يستبعد عبارة‮... ‬ومن ثم فإنه بلغة القانون فأن رجاء النقاش ليس هو الفاعل الأصلي في هذه الواقعة،‮ ‬لا نقول ذلك تهربا،‮ ‬وإنما نقوله إثباتا لواقع قائم،‮ ‬وإقرارا بحقيقة ثابتة‮.‬
3‮- ‬وعلي ضوء ذلك فإننا نقرر أنه بالنسبة لفعل الإسناد،‮ ‬فإنه لا يمكن أن ينسب إلي الأستاذ رجاء النقاش،‮ ‬فهو لم يزد علي أن أثبت ما قيل له،‮ ‬وسجل ما أملي عليه،‮ ‬ونفذ اتفاق صاحب الحديث مع دار النشر علي تقديم الأحاديث وقد أعدت في هيئة كتاب يذاع علي الجمهور يحمل حديثا صادرا عن الأستاذ نجيب محفوظ ولا يزيد دور رجاء النقاش فيه علي إعداده للنشر في الصورة التي تليق بصاحب السيرة ومكانته العظيمة‮.. ‬ومن هنا فإننا نخلص إلي انتقاء نسبة هذه العبارات محل الاتهام إلي الأستاذ رجاء النقاش علي ضوء ما أثبتناه من واقع،‮ ‬وما أوضحناه من حقيقة‮. ‬
ثانيا موضوع الإسناد‮:‬
1‮- ‬موضوع الإسناد في جريمة السب والقذف هو الواقعة التي يسندها المتهم إلي المجني عليه ويكون من شأنها المساس بشرفه واعتباره،‮ ‬وقد تطلب القانون في هذه الواقعة شرطين‮: ‬أن تكون محددة وأن يكون من شأنها لو كانت صادقة عقاب المجني عليه أو احتقاره عند بني وطنه‮ "‬محمود نجيب‮ ‬حسني‮- ‬المرجع سالف الذكر‮- ‬بند‮ ‬841‮".‬
وهو ذات ما استقر عليه قضاء النقض ومن ذلك‮: ‬
الأصل أن القذف الذي يستوجب العقاب قانونا هو الذي يتضمن إسناد فعل يعد جريمة قرر لها القانون عقوبة جنائية أو يوجب احتقار المسند إليه عند أهل وطنه،وإذا كان من حق قاضي الموضوع أن يستخلص وقائع القذف في عناصر الدعوي فإن لمحكمة النقض أن تراقبه فيما يرتبه من النتائج القانونية ببحث الواقعة محل القذف لتبين مناحيها واستظهار مرامي عباراتها لإنزال حكم القانون علي وجهه الصحيح‮ "‬30‮/‬11‮/‬1983‮-‬مج‮- ‬س34ق205ص1015‮"‬
الأصل أن المرجع في تعريف حقيقة ألفاظ السب أو القذف أو الإهانة هو بما يطمئن إليه القاضي من تحصيله لفهم الواقع في الدعوي،‮ ‬ولا رقابة عليه في ذلك لمحكمة النقض،‮ ‬ما دام لم يخطئ في التطبيق‮" "‬8‮/‬4‮/‬82‮-‬مج س‮ ‬33‮-‬ق95‮-‬ص468‮" ‬
والواقع بأنه بإنزال هذه الأحكام علي واقعات الدعوي يتبين عدم توافر هذه الشروط،‮ ‬فبغض النظر عن كون الواقعة محددة إلا أنه ليس من شأن ما قيل بحال من الأحوال أن يؤدي إلي عقاب المدعي أو احتقاره عند بني وطنه وسندنا في ذلك ما أوردناه فيما سبق من تحليل ودراسة لما نشر نصا ومضمونا انتهينا منه إلي‮: ‬
إن عبارة‮ "‬السرقة الأهلية‮" ‬لا يفهم منها المعني الحرفي للسرقة حيث إنها وصفت بأنها‮ "‬أهلية‮" ‬أي‮ "‬عائلية‮" ‬بما يعني أنها قيلت في مجال المداعبة دون أن يقصد المعني المحدد للسرقة كجريمة‮.‬
إن هذه العبارة وقد أضيف إليها أن السرقة كانت لصور شخصية ليست لها قيمة مادية وأن المقصود منها إقامة متحف للأديب نجيب محفوظ‮. ‬يفسر ويوضح ويؤكد أنها قصدت معني شريفا و كريما‮. ‬
إن هذه العبارة علي هذا النحو لا يمكن أن تؤدي إلي تحقير قائلها أو معاقبته‮... ‬ومن ذا لا يود أن تتاح له فرصة لحيازة قدر من الصور الشخصية لنجيب محفوظ يقيم منها معرضا‮. ‬
إنه إزاء ما قام به صاحب السيرة من تفسير يتفق مع الواقع،‮ ‬وما نشر من بحث أدبي يؤيد ذلك،‮ ‬فإنه يبدو من المستحيل نسبة القذف إلي تلك العبارة خاصة إذا وضعت في سياقها مع الكتاب،‮ ‬مع الأخذ في الاعتبار،‮ ‬موضوع الكتاب‮: ‬سيرة ذاتية لكاتب كبير ومكانة الكاتب وحق التاريخ وأمانة القلم‮. ‬
كذلك ينبغي أن نأخذ في الاعتبار ما هو متعارف عليه في كتب السيرة الذاتية بالنسبة للأدباء والمفكرين من التعرض لجميع النواحي والأوضاع دون حرج أو تحرج‮ "‬تراجع الأمثلة التي أوردناها‮".‬
ونلخص من ذلك إلي أن تلك العبارة لا يتوافر بالنسبة لها الشروط التي أوجب القانون توافرها بالنسبة لجريمة القذف،‮ ‬بما يتعين معه تبرئة المتهم من تلك التهمة‮. ‬
2‮- ‬ومن ناحية ثانية‮: ‬فإن السب وخدش شرف شخص واعتباره دون أن يتضمن ذلك إسناد واقعة معينة له‮.. ‬وإذا أثبتنا فيما سبق أن ما قيل لم تتوافر فيه شروط جريمة القذف‮.. ‬من حيث إنه لا ينطوي بحال من الأحوال علي ما يسيء إلي المدعي أو يدعو إلي تحقيره،‮ ‬ومن ثم ومن باب أولي فإن ذات العبارة لا يمكن أن تنطوي علي سب لأنها لم تخدش الشرف من قريب أو من بعيد،‮ ‬بل الواضح أنها تحمل طابع الدعابة،‮ ‬وتعبر عن مدي اعتزاز أفراد أسرة الكاتب بصورة وكل متعلقاته الشخصية إلي درجة الاحتفاظ بها لإقامة متحف‮. ‬
3‮- ‬وثمة عبارة أخري‮ "‬ص20‮ ‬من الكتاب‮" ‬تحدثت عن أخوات الكاتب وأزواجهن‮.. ‬وقد أثبتنا أن تلك العبارة متي وضعت في سياقها،‮ ‬ومتي فهمت علي أنها تروي جزءا من التاريخ العائلي لصاحب السيرة،‮ ‬وأن ما نسب إلي زوج شقيقته ليس أمرا مشينا،‮ ‬ولا هو يخدش الشرف أو السمعة،‮ ‬فهو لا يعدو أن يكون وصفا له بالتسيد في بيته،‮ ‬وذلك أمر‮ ‬غير مشين في عصره‮ "‬الثلاثينات من هذا القرن‮" ‬بل لا يزال هو السمة الغالبة للرجل الشرقي‮.. ‬بما ينفي عن هذه العبارة في سياقها التاريخي والفني ما ينسبه إليها المدعي من إساءة إليه أو إلي سواه‮. ‬
4‮- ‬وإذا كان ذلك هو الثابت بالنسبة للعبارات محل التداعي فليس لأي منها في سياقه دلالة بشيئ إلي من دارت حوله،‮ ‬ولا تحقر من وضعه،‮ ‬ولا تخدش من شرفه،‮ ‬بل علي العكس فإنها توحي بعمق العلاقة والمحبة بين المدعي ووالديه من ناحية وبين صاحب السيرة من ناحية أخري‮.. ‬الأمر الذي ينفي عن الواقعة أي تأثيم لانتفاء توافر الركن المادي لأي من الجرائم موضوع الاتهام بما تسقط معه التهم،‮ ‬ويتداعي الاتهام،‮ ‬وتضحي البراءة هي ما يتفق مع صحيح القانون،‮ ‬وثابت الواقع‮. ‬
الناحية الثالثة
انتفاء الركن المعنوي في جرائم الاتهام
1‮- ‬إن ما نسب إلي المتهم هو جرائم عمدية وليست من جرائم الخطأ ومن ثم يتخذ ركنه المعنوي صورة‮ "‬القصد الجنائي‮" ‬ومن هنا فقد استقر القضاء علي اعتبار القصد المتطلب في القذف قصدا عاما فقضت محكمة النقض بالاتي‮: ‬
إن القانون لا يتطلب في جريمة القذف قصدا جنائيا خاصا،‮ ‬بل يكتفي بتوافر القصد الجنائي العام الذي يتحقق فيها متي نشر القاذف أو أذاع الأمور المتضمنة للقذف وهو عالم أنها لو كانت صادقة لا وجبت عقاب المقذوف في حقه أو احتقاره عند الناس‮ "‬مقض‮ ‬16‮/‬1‮/‬62‮ ‬ج س‮ ‬13‮ ‬ق‮- ‬ص47‮"‬
وبالنسبة للسب‮- ‬فهو‮ "‬في جميع حالاته جريمة عمدية،‮ ‬ومن ثم يتخذ ركنه المعنوي صورة القصد الجنائي والقصد في السب قصد علم عنصراه‮ "‬العلم والإرادة‮" ‬د.محمود نجيب حسني‮- ‬المرجع المذكور‮- ‬بند‮ ‬953‮".‬
2‮- ‬وعلي ذلك فثمة عنصران يلزم توافرهما للقول بتوافر القصد الجنائي في الوقائع محل الاتهام وهما العلم والإرادة،‮ ‬العلم بمعني أن يعلم أن ما كتب يتضمن إساءة أو تحقيرا أو خدشا للشرف بالنسبة للمجني عليه،‮ ‬وبالثاني هو الإرادة أي إرادة الفعل وإتيانه عن بصر وبصيرة وتعمد‮. ‬
3‮- ‬والواقع أنه بإنزال هذه الأسس علي واقعات الدعوي يتبين انتفاء الركن المعنوي،‮ ‬في عنصريه فلا الكاتب علم أدني علم بأن فيما نشره ما ينطوي علي إساءة إلي شخص بذاته أو أشخاص بذواتهم،‮ ‬لأنه كان يسجل ما يروي له،‮ ‬وما يصل إلي سمعه في مجال تسجيل حياة صاحب السيرة وتاريخه وتطوره فذلك هو الهدف الذي يستلزم تحقيقه الإحاطة بكل التفاصيل والوقوف علي كل الوقائع خدمة للتاريخ،‮ ‬وقياما بحق الأدب‮.. ‬وما كانت هناك مظنة أو شبهة مظنة أن فيما كتب ما قد يري فيه البعض ما يسيء إليهم‮. ‬
4‮- ‬وبالمثل فإن عنصر الإرادة‮.. ‬أي إرادة الفعل الذي يسييء‮.. ‬لم يتحقق إنما الإرادة قد انصرفت من البداية إلي التاريخ والعرض ورسم صورة قاطعة الملامح شاملة النظر،‮ ‬وافية المعلومات بحيث تعرض حياة الكاتب وتعرض أفكاره وإبداعاته واضحة جلية للباحثين والدارسين وسائر القراء‮. ‬
5‮- ‬وعلي ذلك وإذ انتفي الركن المعنوي فلا سبيل للقول بقيام الجريمة إذ لا قيام لها إلا بثبوت قيام ركنها المعنوي‮.‬
وإذ يكون الثابت مما تقدم جميعه انتفاء قيام التهم المنسوبة إلي المتهم سواء في ركنها المادي أو ركنها المعنوي،‮ ‬فإن الدعوي تكون حقيقة بأن يحكم فيها بالبراءة‮. ‬
‮ ‬القسم الثالث
انتفاء قيام المسئولية المدنية
وإذ رفعت الدعوي المدنية بالتبعية للدعوي الجنائية
وإذ كان الثابت انتفاء قيام المسئولية الجنائية
ومن ثم فإن ركن الخطأ في المسئولية المدنية يكون منتفيا،‮ ‬بما يستتبع انهيار المسئولية المدنية‮.‬
وإذا كان ذلك،‮ ‬فإن الدعوي المدنية تكون حقيقية بالرفض‮.‬
ولما كان الأمر كذلك فإن للمتهم أن يطلب أصليا الحكم بعدم قبول الدعوي الجنائية حيث لم تنعقد الخصومة فيها إلا بعد تحقق مدة السقوط القانوني وبصفة احتياطية الحكم ببراءة المتهم مع رفض الدعوي المدنية في جميع الأحوال‮. ‬
بناء عليه
يلتمس المتهم من عدالة المحكمة الاتي‮: ‬
أولا وبصفة أصلية‮: ‬بعدم قبول الدعوي الجنائية الماثلة لعدم انعقاد الخصومة بشأنها خلال الثلاثة أشهر من يوم علم المجني عليه بواقعة الدعوي وبمرتكبها‮. ‬
ثانيا‮: ‬وبصفة احتياطية‮: ‬ببراءة المتهم مما هو منسوب إليه‮.‬
وفي جميع الأحوال برفض الدعوي المدنية والله ولي التوفيق‮.‬
وفي‮ ‬15‮ ‬مايو‮ ‬1999حكمت محكمة جنح الدقي ببراءة نجيب محفوظ ورجاء النقاش من تهمة السب‮ ‬والقذف في حق ابن شقيقة نجيب محفوظ‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.