كان البعض يسأل الأستاذ أمامي هل حقا قلت لرجاء النقاش كذا أو كيت؟ ولم يكن الأستاذ في سنه المتقدمة يتذكر في عام 1998 ما يمكن أن يكون قاله في عام 1990 لكنه في ثقته الكاملة برجاء النقاش كان يقول لسائليه هل ورد هذا في كتاب رجاء؟ فيقولون: نعم فيرد بلا تردد إذن فقد قلته«. ويقول سلماوي أنه يسرد هذه الواقعة لأن فيها: »أولا أمانة الناقد مع المادة التي تحت يديه وعدم لهفته لنشرها بأسرع وقت وكأنها سبق صحفي رخيص يمكن ان يصنع العناوين الساخنة اليوم ليكون بلا أهمية غدا، فقد كانت عين رجاء النقاش علي التاريخ والتاريخ لا يقبل إلا الأمانة والصدق. وفيها ثانيا تفانيه في تقديم ما ائتمن عليه في أفضل صورة ممكنة، حتي لو أخذ منه ذلك سنوات طوال. وفيها ثالثا روح الإيثار التي تجعل الناقد ينحي نفسه جانبا مفضلا عمل الأديب وكلماته، فقد كان من الممكن لرجاء النقاش أن يكتب كتابا لم يكتبه أحد من قبل عن حياة محفوظ، ولكنه فضل أن يحتفظ بكلمات محفوظ كما نطق بها دون تدخل منه. وفيها قبل ذلك كله وبعده الثقة التي يحوزها مثل هذا الناقد عند الأديب والتي جعلت نجيب محفوظ يرد دون بحث ولا تدقيق بأن كل ما كتبه رجاء النقاش عنه أو عن لسانه لابد أن يكون صحيحا«. وعذرا علي هذا الاقتباس المطول لكني وجدت فيه خير ما يوضح الأمر الذي نحن فيه. فقد طالعتنا صحيفة أخبار الأدب في عددها الصادر يوم 13 ديسمبر الماضي بملف شيق عن أديب مصر الكبير نجيب محفوظ وكان الموضوع الأول فيه حول تسجيلات لمقابلات أجراها الكاتب الكبير محمد سلماوي مع محفوظ لم تنشر من قبل. وتطرق أحد التسجيلات - وفقا لما هو منشور - إلي كتاب الراحل رجاء النقاش. وكتاب النقاش كما نعلم من مقدمته جاء بعد حوارات دامت لمدة خمسين ساعة تقريبا علي مدي أكثر من عام بين رجاء النقاش والكاتب الكبير نجيب محفوظ. ذلك الكتاب الذي يعد مرجعا مهما عن حياة محفوظ وآرائه في كثير من القضايا اختار هو البوح بها للنقاش بناء علي ثقة عبر عنها في أكثر من مناسبة. ولكن القائمين علي إعداد هذا الموضوع ارتأوا أن يستخدموا أسلوب العناوين الساخنة المثيرة: فجاء في الصفحة الأولي »صاحب نوبل لم يراجع مذكرات النقاش« . وجاء في الصفحة الرابعة في الفقرة الثانية من التقديم الذي كتبته الأستاذة عائشة المراغي علي لسان محفوظ أنه (أي الكتاب) قد ورد به معلومات منافية للحقيقة. كما ورد في الصفحة 8 في التقديم للتسجيل رقم 2: »أوضح محفوظ أن ما قرأه من الكتاب به عدد من الأخطاء التي لا يعرف مصدرها«. وهنا لابد من وقفة لما ورد في ملف أخبار الأدب إذا كنا نبتغي خير القارئ ، فحينما يتصدر الصفحة الأولي للصحيفة عنوان مثل "صاحب نوبل لم يراجع مذكرات النقاش"فإننا نشفق مما قد يراه غير المتخصص »جريمة كبري« في حق صاحب نوبل. فإذا ما أضفنا إليه »أوضح محفوظ أن ما قرأه من الكتاب به عدد من الأخطاء لا يعرف مصدرها« و»أنه قد ورد به معلومات منافية للحقيقة«. فهذا قد يجعل البعض يشك في قيمة الكتاب المرجع الذي كتبه النقاش وأصدره مركز الأهرام للترجمة والنشر عام 1998 وترجم إلي الفرنسية عام 2007 وأعيد نشره عن دار الشروق عام 2009. وبناء عليه إذا كنا نتوخي الدقة ومراعاة المعايير العلمية للكتابة فلابد أن نجيب أولا علي هذه الأسئلة: هل طلب محفوظ من النقاش مراجعة المذكرات أم لم يفعل؟ وهل كان من المتوجب أن يعرض النقاش المذكرات علي محفوظ قبل نشرها؟ وبالتالي هل من قبيل المفاجأة أن محفوظ لم يراجع المذكرات؟ للإجابة علي هذه الأسئلة أقول إن محفوظ لم يطلب ذلك، وكل من له صلة بإصدار الكتاب فضلا عن المحيطين بمحفوظ يعلمون ذلك، فهو علاوة علي ثقته بالنقاش يعلم أصول الصحافة التي لا توجب ذلك متي كانت الأحاديث موثقة بالتسجيلات مثلما هو الحال مع كتاب النقاش. وقد عاش نجيب محفوظ ثمانية أعوام بعد صدور الكتاب، ولو كان لديه رغبة في التعليق علي أي شيء ورد فيه لكان قد فعل، أما تصوير ذلك علي أنه مفاجأة فنحن أمام محاولة لإحداث إثارة صحفية لا تليق بجريدة ثقافية متخصصة وتؤدي إلي تضليل القارئ غير المتخصص. وسعيا لتحقيق هذه الإثارة يتم ببساطة مهاجمة واحد من أهم المراجع عن فكر محفوظ، مكتوب بأمانة تحدث عنها سلماوي نفسه في المقال الذي نشر قبل ثمانية أعوام، حيث قال إن النقاش لديه: »أمانة الناقد مع المادة التي تحت يديه وعدم لهفته لنشرها بأسرع وقت وكأنها سبق صحفي رخيص يمكن أن يصنع العناوين الساخنة اليوم ليكون بلا أهمية غدا، فقد كانت عين رجاء النقاش علي التاريخ والتاريخ لا يقبل إلا الأمانة والصدق«. ونقول "الأمانة والصدق" مقابل العناوين الساخنة والسبق الصحفي ، تلخيص سابق لعصره ساقه لنا كاتبنا الكبير محمد سلماوي لما نحن فيه. وأذّكر هنا بما رواه أيضا الكاتب الكبير محمد سلماوي في نفس المقال من أنه كان حاضرا حينما سئل محفوظ »هل حقا قلت لرجاء النقاش كذا أو كيت؟ « لكنه في ثقته الكاملة برجاء النقاش كان يقول لسائليه » هل ورد هذا في كتاب رجاء؟ فيقولون نعم، فيرد نجيب محفوظ بلا تردد: إذن فقد قلته«. أما بالنسبة لما جاء في صفحة 4 وصفحة 8 ما قيل إنه علي لسان محفوظ بأن »الكتاب به عدد من الأخطاء التي لا يعرف مصدرها «. فبعد أن قرأنا بدقة تفاصيل الحوار الذي نشر نقلا عن التسجيل رقم 2 وجدنا أن هذه العبارة لم ترد علي لسان محفوظ ولا علي لسان سلماوي. فمن أين جاء هذا العنوان إن لم يكن له ذكر في حوار سلماوي ومحفوظ؟ فما جاء في الحوار هو سؤال سلماوي لمحفوظ عن ابن شقيقته طارق الذي استشهد في حرب السويس و هل كان لذلك تأثير علي موقفه من التأميم ؟ مشيرا -في السؤال - إلي أن ذلك ورد في كتاب النقاش.وكان رد نجيب محفوظ هو أن ابن أخته طارق لم يستشهد ولكنه حي يرزق وأنه قد التحق بمعهد السينما وانه قبل لأن له أخ شهيد .وهو لا يعرف "من أين جاءت هذه الغلطة "في كتاب النقاش. هذا ما قاله محفوظ ردا علي سلماوي ولم يقل أن هناك عددا من الأخطاء التي لا يعرف مصدرها، أو »أنه جاءت به معلومات منافية للحقيقة«. أما المفارقة المدهشة هنا هي أنه بالرجوع لكتاب رجاء النقاش وجد أنه لا يتضمن أي إشارة إلي ابن أخت لنجيب محفوظ اسمه طارق، ولكن توجد فقرة في الصفحة 15 من الكتاب في طبعته الأولي في سياق حديث محفوظ عن أخيه جاء فيها: "خدم أخي في الجيش حتي وصل إلي رتبة »لواء« ومات عام 1975 وأذكر هذا التاريخ لسبب، وهو أنني مشيت معه في جنازة »محمد« ابن أختي الذي استشهد في حرب أكتوبر 1973 بعد أن اعتبروه من المفقودين. وأذكر أن ابن أختي هذا كان له ابن اسمه طارق استشهد معه في الحرب، والاثنان كانا ضابطين في حرب أكتوبر«. وفي هذه الفقره نعرف من نجيب محفوظ ان ابن اخته " محمد" هو و ابن له اسمه "طارق "استشهدا في حرب اكتوبر 1973 و لم نجد في اي موقع اخر من الكتاب اي كلام علي لسان محفوظ عن ابن اخته " طارق" او انه استشهد في حرب السويس . إذن فالسؤال الذي وجه لنجيب محفوظ عن موقفه من التأميم الذي جري عام 1956بني علي معلومة لم ترد أصلا في كتاب رجاء النقاش ولا نعرف »من أين جاءت هذه الغلطة؟!« ومن الغريب وغير المتوقع أن تبني أخبار الأدب علي هذه القصة تساؤلات مشككة في مصداقية مرجع كتبه قامة صحفية كبري في مصر كالنقاش عن قامة أدبية كبري في مصر والعالم كمحفوظ، وشهد علي أمانة ما فيه الكاتب الكبير محمد سلماوي المقرب من محفوظ والذي لقبه »بوزير خارجيته«. وقد كتب هذه الشهادة بعد أن توفي الرجلان وأصبح من المستحيل أن يدليا بالمزيد. ونحن في الحقيقة لم نكن ننتظر من منبر أدبي متخصص أن يقع في مثل هذا الخطأ. ونقول هذا الكلام من منطلق حرصنا علي هذا المنبر كما حرص الراحل رجاء النقاش - رحمه الله - علي كل المنابر الثقافية وأفني عمره من أجل تعزيز الساحة الثقافية وخدمة الصحافة الثقافية. وكانت فكرة تقديم الثقافة الجادة والممتعة في آن هي أحد هواجسه وأحلامه التي حاول تحقيقها قدر ما سمحت له الظروف. فإذا كانت الصحيفة تسعي للتشويق فقد اختل الميزان للأسف في أيدي القائمين عل هذا الموضوع وتخطت التشويق لمجافاة الحقيقة وهو ما لا نريده لها. وأحب أن أدعو من كتب هذا الجزء من الملف وكل من اطلع عليه أن يقرأ مقال محمد سلماوي كاملا وأن يقرأ مقدمة الكتاب بقلم رجاء النقاش، ففيهما ما يكفي لتكوين فكرة واضحة عن ظروف وتفاصيل إعداد وإصدار هذا الكتاب، وما الذي جعل إصداره يتأخر حوالي 6 سنوات بعد إجراء الأحاديث وما هو الكتاب الذي كان رجاء النقاش يحلم بكتابته بعد هذه المذكرات ولم يتحقق هذا الحلم. وننتهي إلي هذا التلخيص محفوظ لم يراجع مذكرات النقاش لأنه كان يثق في كفاءته وأمانته العلمية ثقة كاملة عبر عنها مرارا. معلومة أن طارق ابن أخت محفوظ استشهد في حرب السويس لم ترد أصلا بكتاب النقاش. العناوين والمعلومات التي تصدرت مقدمات الموضوع ليس لها وجود في نص حوار محمد سلماوي ونجيب محفوظ المنشور في أخبار الأدب. وأخيرا أحب أن أنوه لأمرين: الأول أني كتبت هذه الكلمات تحت إصرار شديد ومساعدة أكن لها كل التقدير من شباب الأسرة: سها وحيد النقاش- سميح رجاء النقاش- لميس رجاء النقاش والابن العزيز زوج ابنتي سيف الدين حمدان فلهم الشكر وعليهم الأمل والرجاء. والأمر الثاني: هو أنني احتفظت في ذاكرتي بالجملة التي اختتم بها الكاتب الكبير محمد سلماوي مقاله ونصها: »لقد فقدنا برحيل رجاء النقاش قامة كبيرة في رواق النقد الأدبي يصعب أن نعوضها، لكن ما نملكه هو أن ندرس كيف نهضت تلك القامة فصارت باسقة كنخيل القرية المصرية التي ولد بها ناقدنا الكبير رجاء النقاش الذي ترك لنا الساحة بعده صحراء جرداء«. وأحب أن أقول لكل من يعرفون ويحبون باسقات النخيل في كل أرض عربية أن أرض مصر تجود دائما بالنخيل .. والنخيل قادر علي أن يعيش في الصحراء .. علي كرم السماء. قرينة الكاتب الراحل رجاء النقاش