تشتغل قصيدة الشاعر اللبناني المعاصر يوسف بزي علي تضفير عدد كبير من المرويّات والمشاهدات والرؤي؛ إذ تمتاح أجنّتها الشعرية من مرويّات الحرب وسرديات القلق وإحداثيات الاضطراب والفوضي. إنها قصيدة "النشاط الإنساني"، كما يصفها الشاعر ذاته؛ لأنها قصيدة مهمومة، ومحمومة أيضا، برصد تمثّلات الحدث الإنساني، والظرف اليومي، العابر والمقيم، الآني والديمومي. في قصائد يوسف بزي، احتفاء بتسلّق جبال القصيدة، ومرتفعات الجملة الشعرية، واقتناص ماكر لبلاغة النثر الشعري الذي يمثّل "مشتركا استيطيقيا" لكل من يكتب قصيدة نثر تراهن علي البقاء وسط الكثير من الشعر الرديء، خصوصا في اللحظات الراهنة التي لا يقين فيها لبلاغة أو قيمة أو ثيمة أو شعرية بعينها، إلا يقين الكتابة بالإنسان ذاته، ويقين الكاتب بالحرية في مدّها الأقصي، ويقين الكتابة والكاتب معا بالحياة في تناقضاتها اللامتناهية. ينطوي كتاب "في فم الغراب" ليوسف بزي علي عدد من الثيمات والموتيفات الشعرية التي استطاعت أن تمزج، برهافة، الجمالي بالسياسي، والشعري بالنثري، والمتخيَّل بالواقعي، في قصائد نثرية تتفجّر بالحياة التي لا تدين لشيء إلا لديمومة الحياة ذاتها. هكذا، يتألّف "في فم الغراب" من قصيدة افتتاحية بعنوان "قلب أقلّ" وبابين شعريين؛ أولهما "تمرين حر بين السياسة والمعني" (ويضم قصائد "في بلد يشبه البئر"، "جئت بالمستقبل الميّت"، "دخول وخروج وأرض مرقعة"، "الرئيس"، "الأب ينشق عن جذعه باحثا عن الهدف"، "الذين ماتوا بسببي يطيرون الآن") وثانيهما "موسيقي الحياة العامة" (ويضمّ قصائد: "الأشرفية"، "تلة الخياط"، "فرن الشبّاك"، "لوديف"، "في أي مكان"). في قصيدته الافتتاحية "قلب أقل" يمارس الشاعر مهارته في نسج صوره الشعرية في المساحة البرزخية بين السياسة والمعني الشعري، أو لنقل بين خطاب سياسي وآخر شعري، وكل من الخطابين تمرين حرّ وممارسة عفوية فوق جسد/خطاب الحياة المترعة بالتناقضات. في هذه المجموعة الشعرية اللافتة، ثمة انفصال بين رجل وامرأة، كأنهما آدم وحوّاء، يفصل بينهما جدران شُيِّدت من خراب سرمدي، ومدن بزغت أسوارها علي رفات قتلي أبرياء، ودمار ينسرب في زوايا المدينة، وأسلحة يمتطيها الجميع بجنون، وقسوة تمتزج بالجوع، "في بلد يشبه البئر/ حيث يباع الرجل بكسرة خبز/ بدا كل شيء" (ص 13).. في هذا الكتاب اشتغال علي شعرية الصورة النثرية القادمة من رحم النبوءة المتشائمة، التي تحمل إنذارًا بالخراب المتساقط من "فم الغراب" الذي يجوس في جنبات المدينة، التي تشبه مدينة إليوت، حيث قلوب العشّاق كلها لا تكفي جوعا واحدا، والمستقبل ميّت، والجثامين تتكاثر، والظلمات تتراكم بعضها فوق بعض. وهنا، نعثر علي نبوءة الغراب/ النبيّ الجديد المنذِر بخراب أبديّ لشعوب باتت من فرط جنونها تأكل نفسها بنفسها، وينهش كل منها جسد أخيه؛ لأنها شعوب مهزومة حتي من قبل أن تدخل حلبة المعركة، ولأنها شعوب مسخت تاريخها المتسامح، وفقدت هويتها الطبيعية، فأصبحت خارج ذمّة التاريخ والزمكان. يبدو المنظور الذي يكتب منه يوسف بزي قصائده منظورا ينطوي علي الكثير من الجِدّة والبكارة صنع استراتيجيات شعرية ومجازية تتشكّل في إطارها صورة المدينة القائمة علي بركان فائر من الحروب والنزاعات، لكنها في الوقت ذاته المدينة الملهِمة للشاعر، بتناقضاتها وعفويتها وغوايتها الأنثوية الماجنة، وأيديولوجياتها المعقّدة التي تستعصي حتي علي فهم المحلّلين السياسيين الضالعين في تفكيك أحاجي اللعبة السياسية المعقدة، المدينة المتخمة بدور السينما والملاهي الليلية والمقاهي والفنادق، واللهجات واللغات. إنها باختصار مدينة تمتاح من "موسيقي الحياة العامة" الآتية من أماكن وفضاءات بيروتية متعيّنة ك"الأشرفية" و"تلة الخياط" و"فرن الشبّاك"، .. وغيرها، لكنها في الوقت ذاته فضاءات تصنع مجازاتها وشعريتها الخاصة القادرة علي اقتناص مكامن البهجة من بين براثن الخراب.