آخر ساعات الليل كل ليلة،كل ليلة، وأنا ممدد كلوح خشبي، أري سكينا يسقط بطيئا من السقف، وينغرس في صدري أسفل ملتقي الضلوع. ليس حلما مؤلما، بل إن به قدرا عجيبا من المرح. أحيانا أري عصفورا يستكين علي بطني، ينقر بقايا الطعام من معدتي، ويدغدغني بمخالبه الرقيقة. وأحيانا أراني أدوِّر خطافا مربوطا بحبل، ثم أطوِّحه نحو السحاب. أعتله مرتين لأتأكد من متانته، لكنني لا أجرؤ علي التسلق. وفي مرة رأيتني أضرب شريرا وأكسر له سنا. وكثيرا ما أذهب للصيد، فتخرج لي سمكة محشوة بخاتم، أو بقصيدة مكتوبة بخطي. ومرات أنهض، من دون أن أنهض، لأبحث في الظلام عن ذلك الشخص الذي يسكن معي في الغرفة. ذلك الشخص الذي لم أنعم برؤيته أبدا. الناس الذين لا أعرفهم ثمة مكان غامض يأتي منه الناس الذين لا أعرفهم. أحيانا يخترقون الحاجز بين هنا وهناك، ويتلكأون عابرين أمام عينيّ مخلفين طيفا في الذاكرة. أحيانا يرسلون ذكرهم ليتردد علي شفتين، أو صورة فوتوغرافية في فضاء افتراضي. وكم تساقطت ملامحهم الغائمة أمام عينيّ المغمضتين وأنا حائر بين يقظة ونوم. ثمة مكان غامض يأتي منه الناس الذين لا أعرفهم. أناس كثيرون، أحياء وموتي، وشخوص خيالية. من هذا المكان جاء سائق حافلة متهور أرقدني في المستشفي ثلاثة أشهر، ومنه جاء صديق شاطرني المسرات لعام كامل، ثم سطا علي منزلي واختفي. ومنه يجيء رفاق، يأكلون ويشربون ويضحكون ويبتئسون، كأنهم حقيقيون، ثم يذوبون ولا يبقي منهم أثر. كم هم غرباء أولئك الناس الذين لا أعرفهم، الذين يأتون من المكان الغامض. ومرة، من هذا المكان، جاءت فتاة تشبهني، كأنها مرآتي. آهِ. كنا نجلس متقابلين، نبتسم ابتسامة واحدة، ونتحدث حديثا واحدا، ونأكل اللقمة نفسها مرتين. لكن هاتفا جاءها، فغافلت طمأنينتي وانسحبت عائدة إلي أهلها الطيبين. لا، لم تكن ثمة جدوي من محاولة اللحاق بها، فالناس الذين لا أعرفهم، الذين يسكنون ذلك المكان الغامض، يعرفون جيدا كيف يوصدون الباب بعد كل عملية مرور يخططون لها. أشباح القش كلما قابلت شبحا من القش صاحبتَه. ذلك هو عيبي الوحيد. لا أقاوم إغراءَ أشباح القش. عندي عيوبٌ أخري بالطبع، فأنا- مثلا- غيرُ قادرٍ علي إقامة علاقةٍ سويةٍ، وكسولٌ، وأدخن بشراهة. لكن أشباح القش نقيصتي الكبري. أقابل أحدهم سائرا في الشارع، فأركض كي أسير إلي جواره. ضابطا خُطوتي علي خُطوته. يعبر الطريق فأعبره. ينزل النهر فأنزله. يصعد للسماء فأتشبث في الأعواد المنسَّلة من ساقه. كم من بلاء أوقعتني فيه رفقتي مع أشباح القش. كم من ندوب أصابتني، هنا في ظهري، والتقرُّح في ركبتيّ. كم كدت أفقد حياتي وأنا سكران بنشوة صُحبتهم. ليسوا كثيرين، أشباح القش. قد يغيبون سنوات ثم يظهرون فجأة، فرادي وفي جماعات، يملأون شارع طلعت حرب، يتحركون بصمتٍ لا يلفت الأنظار. وحدي أراهم، أشباح القش هؤلاء، فأجري نحوهم، أتبعهم كظلهم، علَّ أحدهم ينتبه لي، ولو مرةً واحدة. الثقة كنا نتسلق جدارا، أنا وأنتِ. جدار من طوب أحمر هش، مليء بفجوات علي قياس أقدامنا، يكاد يتفتت تحت وطأة كل خطوة من خطانا. كانت الهوة سحيقة. بيننا وبين القمة لحظات خطرة، ولا سبيل لدينا لوصول القاع سالمَيْن. كم كان ممتعا هذا الحلم. أظل أتذكركِ وأنتِ تحثينني علي الصعود، بينما أجادل أنا في جدواه. أنت تجادل ونحن علي شفا الموت، هكذا صرختِ. أما أنا فقلت -بثقة- إن هو إلا حلم. لم أكن واثقا- لأقول الحقيقة- لكنني لم أر بدا من المقامرة. إنه حلم ليس إلا، قلتُها وقفزتُ إلي الهاوية، بمحض إرادتي، ولم يتردد صراخك إلا برهة صحوتُ بعدها. هززتكِ بقوة، وبينما تفتحين عينيك رحت أردد منفعلا: أرأيتِ؟ أرأيتِ؟ يا إلهي! لقد كانت أكبر مقامرة في حياتي. الحزن أريد أن أعبِّر عن الحزن. ليس بالطريقة المعتادة. أريد أن أرسم الحزن. لا. أريد أن أصِفَ مذاقه: ليس مالحا، مرٌّ قليلا، إنما لا يخلو من حلاوة. يشبه الشاي لكنّ قوامَه أكثر كثافة. رائحتُه أيضا.. رائحتُه مثل العشب النديّ.. ذاك الذي تعُود ذكراهُ إلي أيام طفولتِك. وحين يمرُّ بالحلْق، يَعلقُ به كالزيوت الطيَّارة. إذا اقترب منك أحدهم، سيشمَّه في أنفاسِك. ثم أن بخارَه الكثيف قادرٌ علي النفاذ من القصبة الهوائية أيضا. يهبط كسحابة قطنية علي الرئة. يحيط بالحويصلات في رقَّة، فيمنحها دفئا ويسلبها المرونة. الحزن لا يثير غثيانا، ولا يسبب عسرا في الهضم، والاختناقُ به فيه جمالٌ. ليس سيئا جدا.. الحزن، إنه مجرد شعور. شأنه شأن السعادة. لكنه أكثر استقرارا. السعادة كل الأماكن التي ارتدناها كانت مترَبة، وخلواتنا، لثلاث سنوات، كانت مُضجرة. كل الطعام الذي تناولناه باردٌ، والنبيذ مُرٌّ، والبحر الذي سبحنا فيه لزجٌ، والنكات التي تبادلناها حامضة. كل حكايانا كانت زائفة، ونومنا قلِق، وكم شاهدنا أفلاما سخيفة في دور عرض متهدِّمة علي شاشات مُغبَّشة. كيف، إذن، كانت سعادتُنا حقيقيةً كل هذا الوقت؟