لو رجعنا إلي الوراء.. إلي العصر الأموي حيث أسس الخليفة معاوية بن أبي سفيان الخلافة الأموية، الذي امتد سلطانه علي كل البلدان الإسلامية التي دخلت الإسلام، وامتدت رقعة العالم الإسلامي في عهد خلفائه حتي امتد من تخوم الصين إلي الأندلس. كان من الطبيعي وقد امتدت الحضارة الإسلامية إلي تلك البقاع الكثيرة أن تتحول الأحوال من البداوة إلي الحضارة، وأن ينتشر الترف، حتي أن دمشق امتلأت بالقصور والحدائق وظهر الثراء العريض علي بعض الخلفاء وأتباعهم وأشياعهم، ولم يستثن من ذلك سوي خلافة عمر بن عبدالعزيز التي لم تزد عن عامين وبضعة شهور، حيث ساد العدل.. وكان الخليفة نفسه أسوة للناس في زهده وعدله وتقشفه وحرصه علي الصالح العام. ومات عمر بن عبدالعزيز وخلفه في الحكم يزيد بن عبدالملك.. كان الخليفة الجديد يهيم حبا بجارية اسمها (حبّابة) وكانت حبّابة هذه جارية جميلة تجيد الغناء، وضرب العود. رآها يزيد بن عبد الملك قبل أن يلي الخلافة فهام بها حبا، واشتراها بألف دينار! وعلم بهذا الخليفة سليمان بن عبدالملك فهاله المبلغ الكبير من المال الذي دفعه أخوه لشراء هذه الجارية، وتيقن أن هذا نوع من الترف لامبرر له حتي أنه قرر أن يحجر عليه! وخاف يزيد عقاب الخليفة فرد الجارية حتي لا يغضب عليه سليمان بن عبدالملك، ولكنه ظل يحبها، ويتمني أن تكون ذات يوم ملكا له. وكانت زوجته (سعدي) تعرف مدي هيام زوجها بالجارية ولكنها رضيت بالأمر الواقع، وخشيت إن عاتبت زوجها يزيد أن تزيد الأمور تعقيدا وتتسع الهوة بينها وبين زوجها. وتمر الأيام.. ويلي الخلافة عمر بن عبدالعزيز الذي سرعان ماغادر الدنيا ليخلفه يزيد علي عرش الخلافة (101-105ه) وكما توقعت زوجته أنه سيعود إلي حبه القديم، فقررت هي أن تشتري حبّابة وتهديها إلي زوجها علي ألا تفسد مابينها وبينه!! وشعر يزيد أن الدنيا أصبحت غير الدنيا، وأن الحياة طابت له، فأخذ يلازم الجارية صباح مساء، ونسي أمور الدولة، رغم ما كان يثار فيها من فتن وخروج علي الوالي.. إلا أن يد الخلافة الأموية كانت ماتزال قوية فقد أخمدت الثورات والفتن، وظل هو حبيس الحب والهوي. ويبدو أن (حبّابة) لم تكن تحبه كما كان هو يحبها ولكنها أرادت أن تستحوذ عليه، وأن تكون هي الآمرة الناهية في القصر وخارج القصر حتي من وراء ستار. وتفاقمت أمور الدولة، واختل ميزان العمل بها، وخشي أخوه مسلمة من مغبة استسلام الخليفة لهذه الجارية، فتسوء الأمور أكثر، بما يهدد الخلافة الأموية نفسها.. فقد كثرت شكوي الناس من الإهمال وعدم الاهتمام بالشأن العام فنصحه مسلمة بأن يعود للناس، ويعيد للخلافة جلالها، وأن ينتظم في الصلاة، ويدع اللهو والعبث، ويكف عن ملازمة حبّابة كظلها. واستجاب الخليفة.. وبدأ يخرج ويؤم الناس في صلواتهم ويتواصل معهم، ولاحظت حبابة أن الخليفة يبتعد عنها، وأنه يحاول أن يجعل بينها وبينه مسافة.. وكان الأمر علي غير ذلك، فهو مايزال يحبها حبا مجنونا وقيل إنها أوحت إلي الشاعر (الأحوص) أن يقول أبياتا لتغنيها ويعيد الخليفة إلي ما كان عليه من اللهو والطرب، وأن هذا الشاعر نظم أبياتا من الشعر لتغنيها هذه الجارية نظير ألف دينار..!! وكان من بين هذه الأبيات قول الشاعر: فإذا أنت لم تعشق ولم تدر ماالهوي فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا.. فما العيش إلا ماتلذ وتشتهي.. وإن لام فيه ذو الشنان وفنَّدا.. وعندما خرج يزيد ليريد المسجد، سمع صوت حبّابة تغني بهذه الأبيات، فلم يستطع مقاومة عواطفه الجياشة نحوها، وجلس يستمع إليها، ولم يخرج للصلاة كما تعود منذ أيام ووقع أسير هواه من جديد.. وأهمل شئون الخلافة تماما. ويورد صاحب الأغاني الكثير من القصص التي تنم عن حب الخليفة العارم لحبّابة. وتمضي خطي الأيام. ويزيد بن عبدالملك يزيد حبا وهياما بجاريته، لايردعه نصيحة أقاربه، ولا يستمع إلا لصوت هواه..! وأراد أن يخرج معها في رحلة خارج دمشق، وأمر حراسه بألا يزعجوه بشكوي أحد، أو مشكلة من مشكلات الدولة! ولكن في إحدي أمسيات اللهو قدموا لها بعض حبوب الرمّان، وأثناء ابتلاعها لتلك الحبوب شرقت وماتت!! لم يكن الخليفة يصدق ما رأي بعينيه، هل يمكن أن تغادر حبيبته الدنيا بتلك السهولة.. وقد كثرت الروايات حول مشاعره تجاه موت حبّابة. قيل إنه أمر ألا تدفن، وظل ينظر إليها وهو لا يغادر مكان موتها، وبعد ثلاثة أيام بدأ الجسد يتحلل.. ونصحه المقربون أن يأمر بدفنها.. بعد أن أصبحت جيفة.. فأذن لهم! وقيل إنه ظل يتردد علي قبرها وهو يردد قول كُثيّر: فإن يسل عنك القلب أو تدع الصبا فباليأس نسلو عنك لا بالتجلد! وهناك من الرواة من قال إنه أمر بفتح قبرها بعد ثلاثة أيام.. فقد اشتاق إليها، وعندما رأي وجهها ظل يحدق فيه فقيل له: يا أمير المؤمنين اتق الله ألا تري كيف صارت؟! فقال: مارأيتها قط أحسن منها اليوم! وجاء أخوه مسلمة وأقنعه بضرورة دفنها. ويقول الرواة إن الحزن لازم الخليفة بعد ذلك وذهل عن الناس ومات بعدها بخمسة عشر يوما حزنا وكمدا عليها. ويري الباحثون في التراث والأدب العربي أن الخليفة كان مخلصا شديد الإخلاص في حبه بينما هي لم تكن تحبه كما يحبها وإلا لحرصت علي الحفاظ علي عرش حبيبها ونصحته بأن يوزع وقته بين شئون الحكم وأمور العاطفة، خاصة أن الجواري كن علي دراية بالشعر والأدب والثقافة، ولم يكنّ جاهلات بالأمور التي تترتب علي استهتار الخلفاء.. وأنه لو ظل الحال وسارت الأمور كما كانت تسير ولم ترحل في حياته.. لربما فقد هذا الخليفة المستهتر عرشه بسبب نزواته وولعه بجاريته تلك التي استطاعت أن تتلاعب بعواطفه، بينما سار في طريق الغواية لايردعه عقل ولا منطق ولا دين.. و.. كم في التاريخ من قصص لايكاد يصدقها العقل..!