تجنبت الحكومات المتعاقبة الخوض في ملف صناعة الغزل والنسيج أو تبني نهج فعّال من أجل حل أزمات هذا القطاع الصناعي الضخم، ليبقي التخبُّط الواضح في سياسات الدولة تجاه هذه الصناعة الحيوية هو الصورة السائدة، فصناعة الغزل والنسيج التي كانت تعتبر في السابق إحدي قاطرات دعم الاقتصاد المصري، أصبحت تعاني من تدهور أوضاعها بصورة مأساوية نتيجة الإغلاق الكلي أو الجزئي لمصانعها. ورغم المناشدات المتكررة لأصحاب مصانع الغزل والنسيج للدولة دعمهم لمنع تلك الصناعة الحيوية من الانهيار إلا أن مطالبهم لم تلق آذاناً مصغية من قبل المسؤولين، في تجاهل واضح لإحدي الصناعات التي تستوعب حوالي 35% من قوة العمل في مصر وهو ما يضع مصير ما يزيد عن 100 ألف عامل في صناعة الغزل والنسيج في مهب الريح. عدم الاهتمام بمشكلات مصانع الغزل والنسيج ألقي بظلاله علي زراعة مرتبطة بها ألا وهي زراعة القطن حيث انخفضت المساحات المزروعة من مليون ونصف المليون فدان في المتوسط إلي ما يقل عن 100 ألف فدان للمرة الأولي نتيجة انصراف المزارعين إلي زراعة محاصيل أخري ذات عائد مرتفع نسبياً مثل الأرز والبنجر. قرية محلة حسن التابعة لمركز المحلة الكبري بمحافظة الغربية تعدُّ خير مثال علي ذلك الاتجاه المؤسف، فالقرية التي كانت تشتهر في السابق بزراعة القطن اتجهت إلي زراعة محاصيل أخري نتيجة غياب دعم الجهات الحكومية التي كانت تتولي تسويق محاصيل القطن في السابق، حيث يشكو معظم الفلاحين من تهرُّب الجمعيات الزراعية من شراء محصول القطن تاركة إياهم لقمة سائغة لدي التجار الذين يستغلون عدم وجود منافذ تسويقية للفلاحين في شراء المحصول منهم بسعر بخس، وهو ما أكده أحمد الحصري »صاحب أرض زراعية في قرية محلة حسن»، فقبل بدء موسم زراعة القطن يتلقي الفلاحون تأكيدات من الجمعيات الزراعية علي التزامها باستلامه من الفلاحين بسعر يتراوح من 1200 إلي 1500 جنيه للقنطار الواحد علي حسب جودة المحصول، ولكن كل تلك الوعود تتبخر عند موسم الجني، حيث يفاجأ الفلاحون بعدم وجود تسويق في الجمعية الزراعية التابعة لقرية محلة حسن وكذلك الحال في الجمعية الرئيسية في المحلة الكبري، فيضطرون لتخزينه لمدة تزيد عن ثلاثة أشهر يفقد معها الكثير من وزنه وفي النهاية يباع للتجار ب900 جنيه للقنطار الواحد ما يتسبب لهم في خسائر فادحة. أما محمود غالب، مزارع، فيري أن الفلاح لا يلقي الدعم الكافي من قبل الحكومة في صرف مستلزمات الإنتاج سواء من البذور والتقاوي وكذلك في صرف كميات الكيماوي اللازم لزراعة القطن، فالفدان يحتاج ل7 شكائر من الكيماوي ولكن الفلاح يحصل علي نصف الكمية المطلوبة فقط من الجمعية الزراعية والباقي يضطر إلي شرائه من الخارج لترتفع التكلفة الزراعية بحوالي 600 جنيه لكل فدان، وهو الأمر الذي دفع الكثير من الفلاحين إلي زراعة البنجر لارتفاع صافي الربح إلي 7000 جنيه للفدان مقارنة ب 3000 جنيه صافي ربح فدان القطن. حال عمال الغزل والنسيج في المحلة الكبري لا يختلف كثيراً عن مزارعي القطن من حيث تردي الأوضاع والمطالبة بالتدخل الحكومي لدعمهم، فمن خلال جولة في مصانع المحلة الكبري رصدنا شكاوي عمال تضمّن عملهم ظروف غاية في السوء في ظل غياب دور المؤسسات الحكومية القادرة علي إلزام صاحب العمل بحقوقهم. في هذا الصدد ينتقد سيد جلال، عامل، في أحد المصانع المتخصصة في إنتاج الأقمشة بالمحلة الكبري عدم الاهتمام بالسلامة المهنية للعامل داخل صناعة النسيج، لافتاً إلي أن الكثير من العمال في مصانع المحلة الكبري للغزل والنسيج يعملون في مهن تؤثر عليهم صحياً في الوقت الذي لا يجدون فيه أي رعاية طبية أو »بدل مخاطر» يمكن أن يساعد في التأمين عليهم، فهو مضطر وزملاؤه إلي العمل لمدة تزيد عن اثنتي عشرة ساعة يوميا في ظروف غير صحية علي الإطلاق، وعندما قام عمال المصنع بالمطالبة بتخفيض عدد ساعات العمل إلي ثماني ساعات فقط قوبلت طلباتهم بالرفض التام من صاحب العمل. من جانبه، وصف سمير مصطفي، الأمين العام لرابطة الصناعات النسيجية بالمحلة الكبري، صاحب أحد مصانع الملابس الجاهزة، أوضاع مصانع الغزل والنسيج في المحلة الكبري بالمتردية نظراً لضعف حركة التجارة العالمية وعدم وجود طلبيات من الولاياتالمتحدة أو الاتحاد الأوروبي، ما أثر بصورة كبيرة علي مصانع الملابس وكذلك مصانع الغزل والنسيج المتخصصة في التصدير إلي الخارج في ظل انخفاض المساندة التصديرية المقدمة لهم حكومياً من 10% إلي 5.5% فقط. ولفت إلي أن قوة صناعة الغزل والنسيج داخل المحلة الكبري انخفضت بأكثر من 50% بسبب إغلاق المصانع إما بصورة كاملة أو جزئياً جراء الظروف الحالية، حيث أضاف: »كنت أمتلك مصنعا يدير ثلاثة أنشطة منها نشاط إنتاج الملابس الجاهزة،ونشاط النسيج والتريكو، فضلاً عن نشاط الصباغة والتجهيز، قمت بإغلاقها بسبب المنافسة غير المتكافئة مع المنتجات المهربة من الخارج وكذلك منتجات المصانع غير المسجلة التي تعتبر معول هدم للاقتصاد الرسمي، فبجانب تهربها من أي التزامات أو توريد الضرائب للخزانة العامة للدولة، فهي تقوم بإغراء العمال لترك العمل في المصانع المسجلة عبر إعطائهم زيادة بسيطة في الأجر، كما أن منتجاتها محل جذب للتجار لأنها تورد لهم البضائع بأسعار تفضيلية، فتتمكن من تسويق منتجاتها علي عكس المصانع الرسمية الملتزمة بسداد الضرائب والتأمينات علي العمال». ويطالب محمد وهدان، رئيس مجلس إدارة المعهد العالي للهندسة وتكنولوجيا المنسوجات بدعم قطاع الغزل والنسيج لكونه من القطاعات كثيفة العمالة التي يمكن من خلالها تحويل الطاقة البشرية المعطلة لطاقة فاعلة منتجة، مستشهداً في ذلك بتجارب دول جنوب شرق آسيا التي استطاعت تطوير صناعة النسيج والملابس وبنت منها نواة اقتصادية استطاعت من خلالها الانطلاق إلي مجالات صناعية أخري إلي أن وصلت إلي ماهي عليه الآن.