محافظ المنيا يشهد احتفالية ختام الأنشطة الصيفية ويفتتح ملعبين    حقيقة ظهور سيدة تعقر الأطفال في كفر الشيخ    دعاء الفجر| اللهم اجعل هذا الفجر فرجًا لكل صابر وشفاءً لكل مريض    رجل الدولة ورجل السياسة    رئيس شعبة السيارات: خفض الأسعار 20% ليس قرار الحكومة.. والأوفر برايس مستمر    وداعا لمكالمات المبيعات والتسويق.. القومي للاتصالات: الإيقاف للخطوط والهواتف غير الملتزمة بالتسجيل    مروة يسري: جهة أمنية احتجزتني في 2023 أما قلت إني بنت مبارك.. وأفرجوا عني بعد التأكد من سلامة موقفي    كشف المجتمع    حين يصل المثقف إلى السلطة    فلكيًا.. موعد المولد النبوي الشريف 2025 رسميًا في مصر وعدد أيام الإجازة    أذكار الصباح اليوم الخميس.. حصن يومك بالذكر والدعاء    للرجال فقط.. اكتشف شخصيتك من شكل أصابعك    «ظهر من أول لمسة.. وعنده ثقة في نفسه».. علاء ميهوب يشيد بنجم الزمالك    «عنده 28 سنة ومش قادر يجري».. أحمد بلال يفتح النار على رمضان صبحي    تعاون علمي بين جامعة العريش والجامعة المصرية اليابانية للعلوم والتكنولوجيا    الآن.. شروط القبول في أقسام كلية الآداب جامعة القاهرة 2025-2026 (انتظام)    درجة الحرارة تصل 43.. بيان مهم من الأرصاد يكشف حالة الطقس اليوم    إصابة مواطن ب«خرطوش» في «السلام»    عيار 21 الآن وأسعار الذهب اليوم بالسودان ببداية تعاملات الخميس 21 اغسطس 2025    توقعات الأبراج حظك اليوم الخميس 21-8-2025.. «الثور» أمام أرباح تتجاوز التوقعات    سامح الصريطي عن انضمامه للجبهة الوطنية: المرحلة الجديدة تفتح ذراعيها لكل الأفكار والآراء    سعر السمك البلطي والكابوريا والجمبري بالاسواق اليوم الخميس 21 أغسطس 2025    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات الأخرى قبل بداية تعاملات الخميس 21 أغسطس 2025    ابلغوا عن المخالفين.. محافظ الدقهلية: تعريفة التاكسي 9 جنيهات وغرامة عدم تشغيل العداد 1000 جنيه    «لجنة الأمومة الآمنة بالمنوفية» تناقش أسباب وفيات الأمهات| صور    لماذا لا يستطيع برج العقرب النوم ليلاً؟    استشاري تغذية يُحذر: «الأغذية الخارقة» خدعة تجارية.. والسكر الدايت «كارثة»    محافظ كفر الشيخ يقدم واجب العزاء في وفاة والد الكابتن محمد الشناوي    اتحاد الكرة يفاوض اتحادات أوروبية لاختيار طاقم تحكيم أجنبي لمباراة الأهلي وبيراميدز    90 دقيقة تحسم 7 بطاقات أخيرة.. من يتأهل إلى دوري أبطال أوروبا؟    "تجارة أعضاء وتشريح جثة وأدلة طبية".. القصة الكاملة وآخر مستجدات قضية اللاعب إبراهيم شيكا    استخدم أسد في ترويع عامل مصري.. النيابة العامة الليبية تٌقرر حبس ليبي على ذمة التحقيقات    حماس: عملية «عربات جدعون 2» إمعان في حرب الإبادة.. واحتلال غزة لن يكون نزهة    زعيم كوريا الشمالية يدعو لتوسيع الترسانة النووية لبلاده    الصحة في غزة: ارتفاع حصيلة ضحايا المجاعة وسوء التغذية إلى 269 بينهم 112 طفلًا    شراكة جديدة بين «المتحدة» و«تيك توك» لتعزيز الحضور الإعلامى وتوسيع الانتشار    ضربها ب ملة السرير.. مصرع ربة منزل على يد زوجها بسبب خلافات أسرية بسوهاج    شراكة جديدة بين "المتحدة" و"تيك توك" لتعزيز الحضور الإعلامي وتوسيع نطاق الانتشار    لبنان: ارتفاع عدد ضحايا الغارة الإسرائيلية على بلدة "الحوش" إلى 7 جرحى    الجنائية الدولية: العقوبات الأمريكية هجوم صارخ على استقلالنا    غزة: ارتفاع عدد ضحايا الغارات الإسرائيلية إلى 94 خلال يوم واحد    بعد التحقيق معها.. "المهن التمثيلية" تحيل بدرية طلبة لمجلس تأديب    بعد معاناة مع السرطان.. وفاة القاضي الأمريكي "الرحيم" فرانك كابريو    ليلة فنية رائعة فى مهرجان القلعة للموسيقى والغناء.. النجم إيهاب توفيق يستحضر ذكريات قصص الحب وحكايات الشباب.. فرقة رسائل كنعان الفلسطينية تحمل عطور أشجار الزيتون.. وعلم فلسطين يرفرف فى سماء المهرجان.. صور    ناصر أطلقها والسيسي يقود ثورتها الرقمية| إذاعة القرآن الكريم.. صوت مصر الروحي    السفير الفلسطيني بالقاهرة: مصر وقفت سدًا منيعًا أمام مخطط التهجير    احتجاجات في مايكروسوفت بسبب إسرائيل والشركة تتعهد بإجراء مراجعة- فيديو    الجبهة الوطنية يعين عددًا من الأمناء المساعدين بسوهاج    رئيس اتحاد الجاليات المصرية بألمانيا يزور مجمع عمال مصر    عودة شيكو بانزا| قائمة الزمالك لمواجهة مودرن سبورت    "أخطأ في رسم خط التسلل".. الإسماعيلي يقدم احتجاجا رسميا ضد حكم لقاء الاتحاد    جمال شعبان: سرعة تناول الأدوية التي توضع تحت اللسان لخفض الضغط خطر    وفاة أكثر قاض محبوب في العالم وولاية رود آيلاند الأمريكية تنكس الأعلام (فيديو وصور)    كلب ضال جديد يعقر 12 شخصا جديدا في بيانكي وارتفاع العدد إلى 21 حالة خلال 24 ساعة    افتتاح قمة الإبداع الإعلامي للشباب العربي بحضور هنو ومبارك وعمار وعبدالغفار وسعده    ما الفرق بين التبديل والتزوير في القرآن الكريم؟.. خالد الجندي يوضح    أمين الفتوى يوضح الفرق بين الاكتئاب والفتور في العبادة (فيديو)    طلقها وبعد 4 أشهر تريد العودة لزوجها فكيف تكون الرجعة؟.. أمين الفتوى يوضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بوكاوسكي لا بوكوفسكي
عن استسهال الترجمة وإهدار السياق الثقافي
نشر في أخبار الحوادث يوم 03 - 04 - 2016

تشارلز بوكاوسكي شاعر أمريكي بامتياز‮: ‬جدّه ليونارد كان قد هاجر إلي الولايات المتحدة من ألمانيا خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر،‮ ‬وفيها التقي بزوجته إملي كراوس المُهاجرة من دانزج‮ (‬حالياً‮ ‬في بولندا)؛ أما والد الشاعر‮ (‬واسمه هنري هاينريك‮) ‬فولد في باسادينا‮ - ‬كاليفورنيا،‮ ‬وكان جندياً‮ ‬في الجيش الأمريكي،‮ ‬وخدم في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولي حيث اتخذ لنفسه فيها خليلة من بنات البلد صارت زوجته لاحقاً‮ ‬هي كاتارينا،‮ ‬أم الشاعر‮. ‬خلال تلك الإقامة العارضة في ألمانيا،‮ ‬ولد الشاعر باسم رسمي هو هاينريك كارل بوكوفسكي‮ (‬باللفظ الألماني‮). ‬أما بعد أن عادت العائلة إلي الولايات المتحدة عام‮ ‬1923،‮ ‬وكان عمر الشاعر ثلاث‮ ‬سنوات،‮ ‬فقد حوّلت لفظ اسمها إلي الصيغة الأنجلوفونيّة‮ (‬بوكاوسكي‮)‬،‮ ‬وحوّلت لفظ اسم ابنها إلي ذات الصيغة،‮ ‬فصار هنري كاسم والده؛ أما الشاعر نفسه فغيّر اسمه لاحقاً‮ ‬ليتبني الصيغة الأنجلوفونيّة من اسمه الأوسط‮ (‬كارل‮) ‬وهو تشارلز،‮ ‬وهو الاسم الذي يعرف به الآن‮: ‬تشارلز بوكاوسكي‮.‬
ليس المهم في إثبات أمريكية الشاعر الاستناد إلي تاريخ عائلته فقط،‮ ‬بل هو أمريكي بالمعني الأعمق،‮ ‬الثقافيّ‮: ‬فمرجعيّات بوكاوسكي الثقافيّة واللغويّة مستلّة من صميم وعمق أزمة المجتمع الأمريكيّ‮ ‬المعاصر وظواهرها المختلفة،‮ ‬وهو الذي قضي عمره بوهيميّاً‮ ‬متنقّلاً‮ ‬بين الخمروحلبة الرهان علي سباق الخيل،‮ ‬يقضي وقته في تأمل طويل للفقر والمجتمعات الهامشية والأحياء المتعبة في لوس آنجيليس حيث أقام لخمسين عاماً‮ ‬من عمره الذي بلغ‮ ‬73‮ ‬عاماً‮. ‬بوكاوسكي هو ابن الحقبة الأمريكية المعاصرة،‮ ‬حالة‮ ‬غوص معمّقة فيها،‮ ‬استطاع الولوج إلي عوالمها الخاصة بعاميّتها وكلماتها البذيئة وصورها الصادمة ليفجّر تأملات خارقة الحساسيّة‮.‬
ورغم هذا‮ (‬وهنا تتجلّي عبقريّته‮) ‬لم‮ ‬يكن بوكاوسكي شاعراً‮ "‬محلياً‮" ‬بالمعني الذي تنغلق قصائده علي‮ ‬غير الذين‮ ‬يعرفون مدينته/ثقافته حق المعرفة،فهو خبير في تصعيد القضايا الصغيرة والهامشية‮ (‬مثل قط مدهوس علي باب بيته استمر في الحياة،‮ ‬أو متشرد تعوّد رؤيته‮ ‬يومياً‮ ‬علي المنعطف ثم اختفي‮) ‬إلي كشوفات عميقة تتجاوز الانساني إلي ما بعده‮ (‬الإنسان،‮ ‬الطبيعة،‮ ‬الكون‮). ‬
وثمة ميزة عند بوكاوسكي هي وجود‮ "‬خط سردي‮" ‬شبه دائم في قصائده،‮ ‬مما‮ ‬يجعلني أقول بأن قصائده هي قصص قصيرة جداً‮ ‬بالغة الروعة‮. ‬وإن كان بوكاوسكي بذيئاً،‮ ‬إلا أن اللغة البذيئة الموظفة في كتابته تحمل أرفع صيغ‮ "‬الأدب‮"‬،‮ ‬بمعني تعدد الدلالات وتفجير المعني،‮ ‬وهو ما‮ ‬ينطبق تماماً‮ ‬علي مكانه المفضل‮: ‬حلبة سباق الخيل ومكتب المراهنات المُلحق به،‮ ‬وعلي نسائه المفضلات‮ ‬غريبات الأطوار‮. ‬
لا‮ ‬يشفع لبوكاوسكي كل ما ذكر أعلاه،‮ ‬بل ولا‮ ‬يشفع له الأسلوب الذي‮ ‬ينطق هو نفسه بها اسمه في تسجيلات مختلفة متاحة علي الانترنت،‮ ‬فيتحفنا مترجموه العرب‮ (‬كلّهم تقريباً،‮ ‬باستثناء تحسين الخطيب،‮ ‬وأشرف الزغل،‮ ‬وهرمس‮) ‬بترجمة اسمه مُعدّلاً‮ ‬بحسب مزاجهم‮: ‬تشارلز بوكوفسكي،‮ ‬مستندين‮ (‬علي الأغلب‮) ‬علي أصله الألماني البعيد الذي لا أهمية تذكر له في سيرة الشاعر‮.‬
ثمة من جادل بأن المترجمين هؤلاء إنما قاموا بتعريب لفظ‮ "‬بوكاوسكي‮" ‬فجعلوه‮ "‬بوكوفسكي‮". ‬لا‮ ‬يوجد مصدر لمثل هذه المقولة علي لسان أي مترجم،‮ ‬والواضح أن المترجمين فعلوا ذلك عودة‮ ‬بالاسم إلي لفظه الألماني‮ ‬‮(‬(boo-kof- kee
لا الأنجلوفوني‮ ‬boo-kow-ski) ‮ )‬‮ ‬المُتعارف‮ ‬عليه.كما أن لفظة‮ "‬بوكوفسكي‮" ‬ليست تعريباً‮ ‬ل"بوكاوسكي‮" ‬بأي حال من الأحوال،‮ ‬فالتّعريب يتضمّن إعادة صياغة للاسم في سياق اللغة الجديدة وقواعدها وألفاظها،‮ ‬علي شاكلة تعريب‮ "‬هيركوليز‮" ‬إلي هرقل،‮ ‬أو‮ "‬فرانكس‮ / ‬فرانكيا‮" ‬إلي فرنجة،‮ ‬أو‮ "‬تيليفيجن‮" ‬إلي تلفاز‮. ‬الفرق بين الأمرين هنا بيّن وواضح،‮ ‬ف"بوكوفسكي‮" ‬و"بوكاوسكي‮" ‬تتساويان في العُجمة مع فارق أن الأولي خطأ في اللفظ والثانية سليمة‮. ‬لا يوجد في‮ "‬بوكاوسكي‮" ‬أي صوت‮ ‬غريب يحتاج إلي تهذيب،‮ ‬بل إن‮ "‬بوكوفسكي‮" ‬أصعب علي اللفظ وأثقل علي اللسان،‮ ‬فبأي منطق إذاً‮ ‬تكون‮ "‬بوكوفسكي‮" ‬تعريباً‮ ‬ل"بوكاوسكي"؟
وقال قائل أن ثمة ثقلا في التقاء حرفي المد‮ (‬الألف والواو‮) ‬علي‮ "‬اللسان العربي‮" ‬في اسم‮ (‬بوك‮)‬‮ ‬او(سكي‮)‬،‮ ‬وهي مقولة خاطئة لأن اللقاء هنا هو لقاء بين ألف ممدودة وواو ليّنة ساكنة،‮ ‬فينتفي عنها المدّ‮ ‬الظاهر‮ (‬كما في كلمة‮ "‬يعبد و(ن‮" ‬مثلاً‮) ‬وتُلفظ كما في‮ (‬خَ)و(ف وجَ)وْ‮(‬ف‮)‬،‮ ‬وهي تشبه عدّة كلمات عاميّة تُخفّف فيها كسرة الواو إلي سكون،‮ ‬لنجد أن هذا اللقاء سهلٌ‮ ‬ودارج‮: (‬ح‮) ‬اوْ‮ (‬ية‮ / ‬ط)اوْ‮ ( ‬لة‮ / ‬بوك)اوْ‮(‬سكي‮). ‬يتحقّق الثقل فعلاً‮ ‬بالتقاء ساكِنَين أو ثلاثة،‮ ‬مثل‮ (‬بوكا)وْسْ‮(‬كي‮) ‬الذي‮ (‬وحاله هكذا‮) ‬لا يتميّز عن‮( ‬قَ)وْسْ‮ (‬أو بوكو‮) ‬فْسْ‮ ( ‬كي‮) ‬بأي شيء سوي أن الأخير خطأ فاضح في الترجمة واللفظ‮.‬
يقول الكاتب البريطاني هوارد ساونز في مقدّمة السيرة التي كتبها عن بوكاوسكي‮ (‬وهي بعنوان‮: "‬مُكبّلٌ‮ ‬بذراعيّ‮ ‬حياةٍ‮ ‬مجنونة‮"‬،‮ ‬وتعتبر‮ -‬بحسب كثيرين‮- ‬السيرة الأشمل والأدقّ‮): "‬مِثل بوكاوسكي،‮ ‬قمتُ‮ ‬باستخدام جمل قصيرة بسيطة،‮ ‬وفصول موجزة‮. ‬وكرواياته،‮ ‬هذه السيرة هي كتاب نحيل‮. ‬وفوق هذا،‮ ‬فقد تبنّيتُ‮ ‬صوتاً‮ ‬أميركياً،‮ ‬مُستخدماً‮ ‬التهجئة الأمريكية والعبارات والمصطلحات التي وظفها بوكاوسكي نفسه‮. ‬أنا إنجليزي،‮ ‬بل لندنيّ،‮ ‬ولا أتحدّث أو أكتب بالطريقة التي أفعل بها في هذا الكتاب،‮ ‬لكني لم أُرد أن تتنافر إنجليزيّتي مع أسلوب بوكاوسكي الأميركي الخاص في الحديث والكتابة‮." ‬
إن كان هذا حال كاتب السيرة،‮ ‬فماذا عسانا نقول عمّن يريد تحمّل أعباء الترجمة؟
يطرح هذا الخلل الفاضح في ترجمة اسم بوكاوسكي مسألتين أساسيتين‮: ‬أولهما أن المترجمين عليهم أن يُجهدوا أنفسهم في البحث والدراسة فيما يتعلّق بالكتّاب الذين يُترجمون لهم،‮ ‬والسياقات الثقافية التي ولد فيها النص،‮ ‬والحمولات اللغوية والإحالات التي تشير إليها التعبيرات اللغوية المختلفة داخل بيئاتها المولِّدة؛ والثانية أن الترجمة تُعني بنقل الثقافة والسياق الثقافي،‮ ‬وهي ليست نقلاً‮ ‬ميكانيكياً‮ ‬للكلمات،‮ ‬لهذا فعلي المترجم أن يكون لا ثنائي اللغة فحسب،‮ ‬بل ثنائي الثقافة،‮ ‬ضليعٌ‮ ‬في الثقافتين المُترجم منها والمُترجم إليها،‮ ‬وإلا فكيف سيُنقل النص الأدبي المثقل عادة بالحمولات الثقافية والاستعارات والكنايات والعاميّات من سياق إلي سياق؟‮ ‬
جلُّ‮ ‬المترجمين عن العربية إلي لغات‮ "‬العالم الأول‮" ‬هم من المُستعربين،‮ ‬يدرسون اللغة والثقافة ويُمضون أشهراً‮ ‬وسنوات في بلادنا،‮ ‬وكذلك هو حال من يُترجم منهم اللغات الأخري إلي لُغاتهم،‮ ‬يحاولون تشرّب الثقافة المُترجم منها حتي تكتمل إمكانيات النقل المُتمكّن‮. ‬أما أن يُترجِم عندنا شخص واحد لشعراء فيتناميين وأفارقة وصينيين وروس وأتراك وسويديين ولاتينيين نقلاً‮ ‬عن ترجماتهم الإنجليزية،‮ ‬فهذه لا تصنّف إلا في خانة الجرائم الأدبية الشنيعة والكسل المعرفي الفظيع؛ ويشبهه من يريد أن يُترجم لكتّاب عالميين كبار وهو لم يغادر شاشته الفيسبوكيّة أبداً‮. ‬
كما يؤشر هذا الخطأ إلي هوس بعض المترجمين العرب‮ (‬وهوس‮ "‬الثقافة‮" ‬التي يمثّلونها‮) ‬بالأصل والفصل والمنبت‮: ‬الشاعر مولود في ألمانيا إذاً‮ ‬أصله ألماني،‮ ‬ويصير لزاماً‮ ‬ترجمة اسم عائلة الشاعر باللفظ الألماني‮! ‬ليس في التعريف عن الشاعر ضمن أهم أنطولوجيا تجمع مختارات أساسية من أعماله،‮ ‬حررها ناشره ومحرّره جون مارتن تحن عنوان‮ "‬ملذّات الملعونين‮"‬Pleasures of the Damned،‮ ‬ما يشير إلي أهمية أصله أو تأثير هذا الأصل علي مسيرته الشعريّة،‮ ‬فيشار إليه بصفته‮ "‬أحد أشهر الكتاب الأميركيين‮"‬،‮ ‬ويرد علي‮ ‬غلاف الأنطولوجيا الخلفي أنه‮ "‬الشاعر الإيقونة لأميركا‮"‬،‮ ‬واقتباس عن مجلة التايم يفيد بأنه‮ "‬فارس حثالة‮ ‬‮(‬المجتمع‮ ‬الأميركي‮")‬،‮ ‬واقتباس آخر عن جان جينيه يقول فيه إن بوكاوسكي هو‮ "‬أفضل شاعر في أميركا‮". ‬كما أعتقد أن قراءة لسيرته الذاتية‮ (‬المذكورة سابقاً‮) ‬ستساعد كثيراً‮ ‬من لا يعرف من الشاعر سوي اسمه المشوّه‮.‬
كيف إذاً‮ ‬نشأ هذا الخطأ واستفحل؟ أغلب الظن أن المترجم العربي الأول لبوكاوسكي هو المسؤول،‮ ‬ثم تبعه من تلاه في خطأه دون تدقيق،‮ ‬وعليه يكون خطأ التابعين مزدوجاً‮ ‬مضاعفاً‮.‬
تحضرني‮ - ‬بهذه المناسبة‮- ‬ترجمات رديئة أخري صارت ثابتة ومستقرّة،‮ ‬مثل ترجمة عنوان رواية ميلان كونديرا الأشهر‮ "‬خفة الكائن التي لا تحتمل‮" ‬والصحيح‮: ‬خفّة الكينونة التي لا تحتمل‮. ‬وربما يكون مصدر الخطأ هو ترجمة الرواية عن الإنجليزية وليس عن لغتها التشيكية الأصلية‮ ‬Nesnesitelnalehkostbyti‮ - ‬حيث تعني‮ ‬byti الكينونة،‮ ‬بينما تحتمل الكلمة الإنجليزية‮ ‬ Being المعنيين،‮ ‬لكن السياق وتركيب الجملة‮ (‬حتي في الإنجليزية‮) ‬يحدد أن المعني المقصود هو الكينونة وليس الكائن‮. ‬كذلك ترجم عبد الرحمن بدوي عنوان كتاب جان بول سارتر الشهيرL être et le neant إلي‮ "‬الوجود والعدم‮" ‬والأدق هو الكينونة والعدم،‮ ‬والفارق بين الكينونة‮ (‬بالفرنسية‮: ‬neant) والوجود‮ (‬بالفرنسية‮: ‬existence) كبير،‮ ‬خصوصاً‮ ‬وأن الكتاب بحث فلسفي،‮ ‬وهو ما انتبه إليه نقولا متيني في ترجمة أحدث للكتاب نفسه‮.‬
هذا الكسل عن البحث،‮ ‬والإيغال في الاتباع وتركيب الخطأ فوق الخطأ،‮ ‬يولد من الاستسهال الذي يكتسح حياتنا الثقافية/الأدبية المعاصرة،‮ ‬ويجعل من الكتّاب المُترجَمين‮ (‬مثل بوكاوسكي‮) ‬ظواهر إثارة متعلّقة بالولع الاستهلاكي والموضة والشهرة،‮ ‬لا ظواهر مرتبطة بالفن والاشتغال المعرفي والجمالي؛ والحال أن عصرنا هذا موبوء بهذه‮ "‬القيمة‮" ‬الرديئة التي تجعل من الاستهلاك والرواج معياراً،‮ ‬والتوافق العام حقيقة وقاعدة،‮ ‬والجمهور حَكَماً‮ ‬علي أشياء قد لا يفقه فيها شيئاً‮ ‬أصلاً،‮ ‬و"اللايكات‮" ‬حُكْماً‮ ‬ممن لا يملك إمكانيات الحُكم علي من لا يملك إعطاء الرأي‮. ‬
الأصل أن الكِتاب‮ / ‬الكتابة وسيلة للتثقيف لا التجهيل،‮ ‬ورفع السوية لا خفضها؛ والكاتب لا يكتب من أجل القارئ،‮ ‬وكذلك المترجم اللاحق عليه‮: ‬فالعالِم يكتب ما تقدّمه التجربة من نتائج،‮ ‬والمؤرخ يعرض ما بين يديه من وثائق،‮ ‬والأديب يقدّم اشتغالاته الفنيّة التخييلية،‮ ‬والمترجم يحوّل ما ذكر سابقاً‮ ‬من لغة‮ / ‬ثقافة إلي أخري دون الإخلال بالسياق الأول أو الإلغاز علي السياق الثاني؛ دون أن يخون‮. ‬
يُفترض في الترجمة أن تكون مصدراً‮ ‬أساسياً‮ ‬من مصادر تجديد اللغة وتطويرها وإكسابها مرونة وحيوية ومعاصرة،‮ ‬لهذا فأنا أسدي هذه النصيحة بكثير من الألم‮: ‬باستثناء ترجمات قليلة لمترجمين متمكنين معروفين،‮ ‬اقرؤوا الأدب‮ ‬غير العربي بلغته الأم،‮ ‬أو بترجماته الإنجليزية؛ أما أكثر الترجمات العربية فلسان حالها يقول‮: ‬بوكوفسكي‮."‬ eas ures of the damnedأن أهم أنطولوجيا تجمع مختارات من أعماله،‮ ‬حررها ناشره ومحرّره جون مارتن تحن عنوان‮ ‬‮"‬ملذّات الملعونين‮ ‬الألكا‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.