رغم الحضور الواضح للكتب المترجمة في معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي يختتم دورته الخامسة والأربعين غدا "الخميس" فإن هذه الدورة لم تشهد في ندواتها وأنشطتها الثقافية نقاشات حول قضايا الترجمة التي احتلت حيزا هاما في الدورة السابقة بأكبر معرض للكتاب في العالم العربي. ومع أن قاعة" ضيف الشرف" من المقرر أن تشهد في ختام أعمال المعرض الدولي غدا لقاء مع الأديب الايطالي دانتي ماريا حول روايته المترجمة "المقهى" والتي ترجمها حسين محمود ونجلاء والي فإن المعرض لم يشهد هذا العام ندوات حول قضايا الترجمة وتحدياتها خلافا لما حدث في دورته السابقة. فقد شهدت الدورة ال44 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب العام الماضي عقد موائد مستديرة لمناقشة قضايا الترجمة وتحدياتها وسبل النهوض بها فيما تطرقت هذه الموائد المستديرة لتحديات الترجمة فى العالم العربى ودور الترجمة فى تعزيز الثقافة وتأكيد الهوية. وشملت المناقشات آنذاك تقييم مراكز ومعاهد الترجمة فى مصر ومعوقات النهوض بالترجمة وآفاق واقع ترجمة الأدب والفكر العربى الى اللغات الآخرى بالاضافة للتعليم والقضايا المتعلقة بأجيال المترجمين الشبان فيما كانت اولى هذه الموائد المستديرة قد بدأت" بعنوان:" الواقع والتحدى فى ظل معدلات الترجمة..تقرير اليونسكو الأخير عن الترجمة فى العالم العربى". وشارك المركز القومى للترجمة فى الدورة ال 45 لمعرض الكتاب بمجموعة تضم أكثر من 150 عنوانا جديدا فيما شارك في الدورة السابقة بأكثر من 250 عنوانا جديدا لأحدث إصداراته وكان من بينها الترجمة العربية لرواية "الذرة الرفيعة الحمراء" لأديب نوبل الصيني مو يان. والقضية الخطيرة حقا أن الترجمة اضحت سلاحا لأغنى عنه في " المنازلات الجديدة والحروب الهادئة" بين الأمم في زمن الافتصاد المعرفي واشتراطات الحداثة واهمها مايسمى "بالوعي بالكوكبية" وهو الشرط الذي حدده بول كنيدي استاذ التاريخ بجامعة ييل الأمريكية ومؤلف كتاب صعود وسقوط القوى العظمى. واذا كان العالم الاقتصادي الشهير آدم سمسث قد حدد في كتابه "ثروة الأمم" الصادر عام 1776 مصدرين للثروة هما العمل والادخار فان عنصر المعرفة بات يقترن بالعمل في عصرنا هذا وهنا بالتحديد تتجلى الأهمية الاستراتيجية للترجمة كقاطرة معرفية فاعلة. والرأي عند المفكر المصري مراد وهبة ان ظاهرة الكوكبية مكفولة بثلاث ظواهر اخرى هي "الكونية والاعتماد المتبادل والابداع" واذا كانت الكونية تعني الوعي بالكون علميا فان مراد وهبة يؤكد على اهمية الفكر غير التقليدي اي "المبدع". وحسب تقديرات لمنظمة "اوكسفام" فان خمس دول العالم تستحوذ على نسبة تصل الى 85 بالمائة من مجموع المدخرات العالمية وبالتأكيد فان هناك تفاوتا على المستوى المعرفي يتوازي مع هذا التفاوت الكبير على مستوى توزيع الثروة عالميا. ولأول وهلة فان النظرة للمشهد الثقافي الغربي تؤكد على ان الغرب ماض في "قفزته النوعية" لمزيد من تطوير قوى الانتاج الحديثة وبما يتضمنه ذلك من "تحول العلم لقوة قيادية مباشرة وتحويل الانتاج للآلية الذاتية". وجاء التراجع الملحوظ بقضايا الترجمة فى الدورة الحالية لمعرض القاهرة الدولى للكتاب وسط اهتمام عربى بتلك القضايا فيما تحتدم معارك هنا وهناك وتتردد مصطلحات وعبارات دالة على ازمة او اشكالية مثل :"كوارث الترجمة الأدبية". والحديث عن الترجمة لوضعيتها الراهنة في مصر والعالم العربي وافاقها يتطلب دوما معطيات موضوعية ورصد دقيق لتجليات الخطاب الترجمي في الحياة الثقافية العربية فيما كانت الترجمة حاضرة حتى في ضرورات بناء الدولة الوطنية ببعض الأقطار العربية وتعريب دولاب العمل الحكومي. وعندما يحين الوقت لتأريخ دقيق للترجمة في السياق المعاصر للعالم العربي سيتوقف اي باحث منصف امام الدور الكبير الذي نهضت به كوكبة من المحررين المترجمين في وسائل الاعلام العربية بما يخدم قضايا الترجمة والثقافة والتلاقح المعرفي والحياة اليومية على وجه العموم. واذا كان من الصحيح القول بأنه لولا الترجمة لما تقدم النقد والبحث الفلسفي في العالم العربي فان من الصحيح ايضا القول بأن هناك اشكاليات ظاهرة في الترجمة الأدبية ومدى القدرة على التوغل في اعماق النص الأدبي ومعانقة روحه واستنطاق معانيه وجمالياته دون العدوان على النص الأصلي واسلوب كاتبه على قاعدة "لاافراط ولاتفريط". وفى كتابه "غبار الترجمة" اعاد العراقي عبد الكريم كاصد تقييم بعض ترجمات الأعمال الأدبية لكتاب كبار فى العالم منذ خمسينيات القرن العشرين كاشفا عبر مقارنات دقيقة عن ان بعض الترجمات القديمة لهذه الأعمال لم تكن صحيحة وبالتالى فقد اعطت معانى مخالفة لتلك التى ارادها من كتبها فى الأصل. وتأتى احيانا ترجمات عربية جديدة لتكشف بصمت وبلاغة عن سوء ترجمات قديمة او على الأقل عدم فهم من قام بها لمعانى النصوص وخاصة على مستوى ترجمة الشعر حيث ترتكب اخطاء كارثية كما حدث فى بعض الترجمات العربية لشاعر الانجليزية الكبير اليوت ناهيك عن شاعر الانجليزية وكاتبها الأعظم شكسبير. غير ان العكس قد يحدث فى بعض الترجمات الجديدة بل وقد تثير معارك بين المشرق والمغرب وانتقادات حادة تأتى حتى من نقاد يقيمون خارج العالم العربى معتبرين ان هذه الترجمات الجديدة حافلة بأخطاء كارثية وخطايا تشويه العمل الأصلى للمبدع. وإذا كان الشاعر والمترجم العراقي عبد الكريم كاصد تعرض في كتابه "غبار الترجمة" لبعض كوارث الترجمة وأوضح بحق ان مهمة الترجمة صعبة ويمتزج فيها الأخلاقى بالمهنى والثقافى بالتقنى فينبغي القول بعيدا عن الأشخاص والأسماء التى هى مجرد أمثلة على المعارك المحتدمة حول الترجمة في العالم العربي إن ثمة حقيقة جوهرية تتجلى وسط دخان تلك المعارك وهى أن ترجمة الابداع تتطلب بالضرورة أن يقوم بها مبدع كما يتبدى في ترجمات الشاعر والكاتب السوري علي أحمد السعيد الشهير بأدونيس الشاعر الكبير وفي كل الأحوال فهو يستند على الموهبة والمعرفة. فالمسألة ليست مهارات لفظية فحسب او تتعلق "بالعلو الأدائى للعبارة العربية" ولاجدال ان مسألة تشويه المعاني والمقاصد الأصلية فى الترجمة ترقى لمستوى الخطيئة ومن غير المقبول أخلاقيا أن يأتي المترجم بجملة أو عبارة لاعلاقة لها على الاطلاق بأصل العمل الذي يترجمه. والأمر خطير من أوجه متعددة احدها مثلا ان المصطلح العربى فى مجالات تقنية وفنية بات تحت طائلة الفعل الترجمى بحكم انتساب العديد من الكلمات فى تلك المجالات لفضاء معرفى غير عربى ومن ثم فالأخطاء هنا لايمكن التسامح حيالها . والسياق فى عمومه ينطوى ايضا على تساؤلات مثل:" ماذا يحدث عندما ينهض شاعر بترجمة اعمال شاعر اخر من لغة للغة ومن سياق حضارى لسياق حضارى آخر؟!..كيف يكون اللقاء على جسر الترجمة بين المبدعين..وكيف ينظر المترجم الذى هو فى الأصل مبدع لمن يترجم له وعنه؟!. فاالشاعر الانجليزى دافيد هارسنت نوه بعد ان انتهى من ترجمة بعض مختارات للشاعر اليونانى الكبير يانيس ريتسوس بأن " القول بأن يانيس ريتسوس كان خصب القريحة وغزير الانتاج قد يكون مجرد تسطيح لحقيقة هذا الشاعر بقدر مايبخسه قيمته" . واوضح هارسنت الذى قام بترجمة بعض اعمال هذا الشاعر اليونانى الكبير للانجليزية فى اواخر العام قبل الماضى ان حياة يانيس ريتسوس التى انتجت مايربو على الخمسة الاف ورقة جديرة بنظرة اكثر عمقا منوها بأن الشاعر الراحل نشر فى اعوام 1972 و1974 و1975 سبع مجموعات شعرية فيما شهدت اعوام تالية المزيد من العطاء المدهش لهذا المبدع الفذ. ويوصف دافيد هارسنت الذى ولد عام 1942 بأنه من اهم شعراء انجلترا واصدر تسع مجموعات شعرية من بينها "احلام الموتى" و"اخبار من الجبهة" و"زواج" و"الفيلق" وتراوح قصائده مابين الحب والحرب كقضيتين انسانيتين ونال العديد من الجوائز الأدبية من بينها جائزة "فورورد" كما يمارس الكتابة الدرامية وله بعض القصص البوليسية. وقام الشاعر الكبير السورى الأصل على احمد سعيد "ادونيس" بترجمة بعض قصائد يانيس ريتسوس للعربية وكذلك الشاعر العراقى سعدى يوسف الذى صدر له ديوان مترجم لريتسوس بعنوان :"ايماءات". وفى ملاحظة طريفة وثاقبة عن ترجمته لبعض اشعار يانيس ريتسوس للانجليزية-يقر دافيد هارسنت بأن عمله لم يكن ابدا بالمهمة السهلة غير ان هذا العمل قاده بالضرورة للتفكير فى حياة هذا الشاعر الكبير والمقارنة بين الصعوبات التى واجهها اثناء عكوفه على الترجمة وبين الظروف المآساوية التى لم تحل دون ان يبدع ريتسوس هذه القصائد مابين السجون والمعتقلات والمعازل الصحية البائسة للمصدورين. وكانت مصر قد احتفلت لأول مرة "بيوم المترجم" فى منتصف شهر أكتوبر عام 2012 بينما تتوالى أسئلة الترجمة على مستويات عالمية وعربية ومصرية وسط اتفاق عام على ان "الترجمة بمثابة اعلان صريح من حضارة ما عن انفتاحها على الآخر" بقدر ماتشكل بديمومة فعل التطوير والتلقيح والاثراء "عرسا للغة" . والحقيقة ان قضايا الترجمة تشكل هما عالميا ليس وليد اليوم والا ما تحدث عنها اعلام فى الفكر الغربى مثل الألمانى جوتة وشليجل وهولدرين باعتبارها عملية مطورة للغة ومغذية للآداب ومطعمة للفكر ووثيقة الصلة بالهوية فيما كان من المأمول ان تجد تلك القضايا بعض الاجابات المصرية فى سياق الموائد المستديرة لمعرض القاهرة الدولى للكتاب الذي بات من اهم الفعاليات الثقافية المصرية والعربية . ومن نافلة القول الحديث عن اهمية الترجمة فى عصر ثورة المعلومات واتساع دائرة الفكر الانسانى وصعود "اقتصاد المعرفة" وان الترجمة تشكل "لحظة عبور وسفر ابداعى بين لغتين وفكرين وهويتين" كما ان "الترجمة ليست مجرد عملية لغوية بسيطة وانما هى عبور فكرى شديد التعقيد من سياق حضاري لسياق حضاري آخر ومن لغة الى أخرى". فالترجمة هى الوجه الثانى لفعل الكتابة " فكل مترجم يعرف من خلال تجربته ومعرفته ووعيه النقدى انه لايملك دائما وبشكل دقيق كل مايكتبه وانه يترجم كى يكشف الذى يجهله ونجهله". ومن هنا ينطلق عمل الترجمة من معرفة لغوية وجمالية دقيقة وواضحة" تماما كما ان للترجمة "متعتها ونشوتها ولها ايضا تعقيداتها اللغوية واللفظية والرمزية" ففعل الترجمة فى كثير من الأحيان "ابداع مواز للأبداع" بقدر ماتمثل الترجمة بحق جسرا للتواصل بين الثقافات وقاطرة طليعية للنهضة او هكذا يجب ان تكون. وسيبقى التحدي ماثلا دوما أمام أي مترجم ضليع في الحفاظ على الجمرة مشتعلة والجذوة متقدة على مدى المسافة الحرجة بين فضاء النص الأصلي وفضاء النص المترجم وسيكون عليه ان يكدح كدحا ابداعيا جميلا رغم آلامه حتى لاتخبو الجمرة ولايبقى سوى الرماد والغبار!.