لم يعرف الإبداع الشعبي المصري عبر العصور التمييز الديني أو الطائفي علي أي وجه من الوجوه، فكان الحرفيون في جميع مجالات الفنون المرتبطة بالعمارة خاصة يعملون معا بغير تفرقة، حتي خلال فترة الحكم العربي الأول لمصر بعد الفتح الإسلامي، ولاشك أن ذلك حدث كأمر واقع أملته الضرورة في تلك الحقبة، لأن أبناء مصر كانوا جميعا مسيحيين مع بعض اليهود، وأن الحضارة المصرية في مجالات التعمير والتشييد والإبداع الفني بشتي صوره قامت بأيدي هؤلاء لا بأيدي العرب الفاتحين، وانطبق ذلك علي فترات الحكم التالية من دول الأمويين والعباسيين والفاطميين والمماليك والعثمانيين، فجميع الفنون خلالها تمت بأيدي المصريين بغير تمييز، حتي وإن تأثرت بمفاهيم وثقافات أولئك الحكام الأجانب، فازدادت بها ثراء وتنوعا، لكنها لم تغير من المزاج العميق الموحد لأبناء الديانات الثلاث خاصة المسلمين والمسيحيين، حتي أن من الصعب - بل من المستحيل أحيانا - التفرقة بين أنماط الوحدات الزخرفية وتقنيات الحرف اليدوية وجمالياتها بين مسلم ومسيحي. إننا قد نجد تطابقا في أنماط الزخارف العربية (التي أطلق عليها الأوربيون لفظ "آرابسك") المستخدمة في كل من المسجد والكنيسة، مثل فنون الخرط الخشبي للمشربيات والسواتر، والنوافذ الجصية المعشقة بالزجاج الملون، وقطع الأثاث والعلب والصناديق الخشبية المطعمة بالأصداف والعظام، وأشغال (الخردة) أي زخارف الفسيفساء الرخامية علي النافورات والأعتاب، وأنماط الزخارف الهندسية والنباتية علي الأسقف والجدران والأبواب، وأنماط العمارة للأعمدة والعقود والقباب.. ذلك لأن مصادر البعض منها يمتد إلي الحضارة المصرية الفرعونية، والبعض الآخر يمتد إلي العصر المسيحي، وكلاهما تغذيه نفس القيم الروحية والأخلاقية ونفس العادات والتقاليد والأخلاق المنعكسة عن الطبيعة النهرية السلسة التي احتضنت الأديان وشكلت المزاج الفني والسلوكي علي امتداد وادي النيل، ورسخت قيم التسامح الديني والترابط الاجتماعي وقبول الاخر (الأجنبي) واستوعبته في صميم الهوية المصرية، ولم يجد المصري غضاضة في اكتساب ثقافة وخبرات هذا الآخر وهضمها ومزجها بثقافته، لكن ذلك لا يعني غياب الخصوصية الفنية والثقافية بشكل تام بين أبناء كل دين أو منطقة جغرافية، حيث تفرض طبيعة كل ديانة وكل منطقة أنماطها ورموزها، التي تتبدي في تصوراتها الدينية مثلاً للفردوس بين المسيحية والإسلام، فتبدو مظاهرها في التعبيرات الزخرفية والرموز المختلفة بين الجانبين، وقد ترتبط هذه الرموز أحيانا بالسحر أو بعناصر الطبيعة الجغرافية والمعتقدات الشعبية المتوارثة كالفن النوبي، وقد ينعكس الاختلاف في النظرة إلي تصوير وتجسيد الأشخاص تبعا للتفسيرات الدينية المختلفة، حيث تجيز المسيحية ذلك بينما يتحفظ الإسلام علي تشخيص الكائنات الحية في بعض مذاهبه، لكن الفنان المسلم استغل هذا التحفظ - الذي وصل إلي درجة التحريم - لرسم المشخصات في تعميق المعاني الروحية والفلسفية التي يقوم عليها الإسلام، من خلال المنمنمات الزخرفية - الهندسية والنباتية - التي تعبر عن معني الوحدانية لله والانتشار اللانهائي لنوره، عبر التوالد الذاتي للخطوط والوحدات، والتكرار المتواصل لها بما يشبه التسبيح للخالق، فيما اكتفي هذا الفنان المسلم برسم المشخصات الحية علي أسطح المنتجات ذات الأغراض الاستعمالية مثل النسيج والسجاد والأواني الخزفية، وكذلك كتب المخطوطات المزينة بلوحات فنية تمتليء بالأشخاص والحيوانات والطيور، باعتبارها ذات طبيعة نفعية أو علمية أو حاملة للقصص والحكمة. ولم يكن القائمون علي بناء أحد المساجد - مثلا - يجدون غضاضة في أن يسجل "المعلم" القبطي القائم علي البناء أو علي الزخارف اسمه في طرف من جدار أو ركن من أركان الزخرفة، والأمر ذاته نجده في توقيع بعض الفنانين الأقباط بأسمائهم أسفل قطع خزفية.. وأتمني أن يتفرغ أحد الباحثين المتخصصين لكتابة بحث وافٍ عن هذا الموضوع، يتقصي من خلاله مظاهر التلاحم والوحدة الوطنية في مختلف الفنون الإسلامية والقبطية، التي لاتزال مظاهرها تتبدي في بعض الممارسات الشعبية خاصة في موالد الأولياء والقديسين في مصر، ويتعامل معها المصريون من الديانتين بغير حساسية أو تمييز، كما يتبدي بعضها الآخر في منتجات حرفية تميزت بها بعض أقاليم الصعيد وقراه.. بين قنا وأخميم وسوهاج وأسيوط وغيرها. حيث لاتزال نفس الأنماط الفنية يتم إنتاجها في ورش فنية تجمع بين الحرفيين المسلمين والمسيحيين حتي ولو كانت تحت أشراف كنيسة هنا أو جمعية أهلية هناك. ولايزال المتحف الإسلامي في باب الخلق والمتحف القبطي بمصر القديمة يدللان باستمرار علي هذه السمات الفنية والثقافية، ويشكلان المخزون الحضاري والدليل الدامغ علي عمق الهوية المصرية وامتناعها علي الفرقة والتقسيم.